الملخص التنفيذي
- تاريخياً: مرت عملية التشكل البنيوي والوظيفي للمؤسسة العسكرية السورية بمراحل عديدة، منها ما ارتبط ببوصلة البناء المهنية وضرورات التطوير، ومنها ما استدعته رغبة استحواذ السلطة الحاكمة على الجيش، ومنها ما أملته الحروب التي شهدتها سورية عموماً، إلا أنه ومنذ استلام حافظ الأسد السلطة بات الجيش طرفاً رئيساً في "الصراعات" المحلية، سواء بحكم التكوين الاجتماعي للجيش والهندسة الطائفية النوعية التي عمل عليها حافظ الأسد ومن بعده بشار الأسد، أم بحكم طبيعة الامتيازات الممنوحة والعقيدة العسكرية اللاوطنية. ولعل الهزات البنيوية والبشرية الأقسى والأعمق كانت مع انطلاقة عام 2011 حتى 2018 إذ استلزمت تلك الهزات استجلاب عناصر غير سورية داعمة سواء على مستوى الدول أم المجموعات، ليخرج "الجيش" كلياً عن الوظيفة الأساسية المحددة لأي جيش وطني ويدخل في إطار وظيفة مغايرة وهي الدفاع عن النظام الحاكم. ويخرج عن وظيفة إدارة العنف في المجتمع بعد أن نصّب نفسه حامياً للنظام السوري ومدافعاً عنه في إطار مجموعة من الأسباب التي دفعته لذلك.
- كان لعدم توقع حدوث عمليات عسكرية على كامل الجغرافية ضد ثورة شعبية أثر كبير في زيادة معدل تعديل القوانين الناظمة للمؤسسة العسكرية من أجل تغطية الثغرات في تلك القوانين. كما تم تجاهل بعض القوانين لصالح العُرف والتقليد، وظهر ذلك في عمليات الترقية والتقييم للضباط وصف الضباط نتيجة الطائفية أو المناطقية. كما أن فرض حالة التعبئة الجزئية بشكل غير علني في سورية نتيجة الأحداث الدائرة في البلاد منذ عام 2011، وإصدار قانون جديد للتعبئة في نهاية عام 2011، يدعم جهود النظام في توزيع مهام التعبئة على كافة مؤسسات ودوائر الدولة على الرغم من أن القانون السابق الخاص بالتعبئة تم إصداره عام 2004.
- تميّزت حركة الجيش خلال الفترة الأولى بالفوضى المطلقة. وحولت استعانة النظام بالميليشيات المحلية والخارجية وكذلك بالنظامين الإيراني والروسي هذه الحركة من الفوضى المطلقة إلى الفوضى المنظمة. واستطاع النظام استعادة الكثير من القرى والمدن اعتماداً على استراتيجية العقاب الجماعي وسياسة الأرض المحروقة واستراتيجية حرب العصابات. كما أدّى استعانة النظام السوري بالميليشيات المحلية والخارجية إلى خلل في بنية الجيش ودوره خلال سنوات الثورة بحيث أصبح الجيش ذا طابع علوي أكثر تركيزاً من سابقه بعد اعتماده الأساسي على المنتسبين العلويين. واتسم أغلب ضباطه بالفساد الذي تضاعف مرات ومرات على مدى سنوات الثورة، وأضحى الجيش أكثر انعزالاً وبُعداً عن المجتمع. ودفع ذلك الأمر الضباط للتواطؤ مع شبكات الفساد في النظام، واستغلال هذا الأمر لتحقيق المزيد من المكاسب وجمع الأموال بشتى الطرق.
- يمكن تعريف المشهد العسكري في عام 2018 بأنه مسرح عسكري شهد تحولات جمة أبرزها: حصر خارطة الفواعل ضمن ثلاثة مناطق نفوذ دولية ينشط فيها فواعل محلية متباينة سياسياً، فمن جهة أولى: وضمن مناطق سيطرة النظام ازدادت مؤشرات الفاعلية الإيرانية وبطبيعة الحال الروسية كذلك مع ملاحظة بعض المحاولات لضبط المشهد الميليشياوي الذي شهد حلاً لبعضها ودمجاً لبعضها المرتبط بإيران، ومن جهة ثانية: توضحت خارطة فواعل المعارضة المسلحة في الجبهة الشمالية التي تضمنها أنقرة ضمن تفاهمات الأستانة، فحضنت القوى المهجرة من الجنوب والوسط السوري وأعادت توظيف إمكانياتهم ضمن الترتيب الذي جهدت أنقرة لضبطه والمتمثل بعمليات درع الفرات وغصن الزيتون، ومن جهة ثالثة: تستمر قوات قسد في أداء وظائفها الأمنية والعسكرية ضمن مشروع الإدارة الذاتية ومحدداته القانونية، وبالوقت ذاته لايزال مشهد التفاوض مع النظام مشهداً مفتوحاً لكل الاحتمالات مع ترجيح استمرار تأزمه بحكم عدم وضوح الرؤية النهائية للداعم الأمريكي الذي يجهد لتمكين قوات قسد من جهة ويدفع باتجاه خط المفاوضات من جهة ثانية.
- لا يمكن اعتبار محاولات النظام في تحجيم أدوار الميليشيات الإيرانية والمحلية مقاربة متكاملة الأركان، فمن جهة أولى عدت بعض هذه الميليشيات جزءاً أصيلاً من قوات النظام وتم مأسسة العمليات الإيرانية في سورية وهذا يتعارض مع حركية أي تحجيم، ومن جهة ثانية لم تلحظ بعض الخطوط العامة لاستراتيجية الدمج سواء المتعلقة بالميليشات المحلية ككل أم بالمجموعات التي صالحت، فلاتزال أولوية قتال المعارضة تفرض نفسها وهذا ما يؤجل هذه الحركية، والتي ستواجه صعوبات بالغة الحدية نظراً لعمق تواجد هذه الميليشيات وتعدد أدوارها سواء بالمعنى المجتمعي أم الأمني.
- تسجل المعطيات والمؤشرات المدروسة في أوراق هذا الكتيب أن التحولات التي طرأت على المؤسسة العسكرية هي بالغة الأثر في المدى المتوسط والبعيد، وهذا ما كان من شأنه أن يحدث اختلالاً هيكلياً وبنيوياً في هذه المؤسسة التي تجد نفسها أمام واقعٍ جردها من القوة التنظيمية والنوعية، وباتت إحدى الفواعل وليس الفاعل الوحيد في المشهد العسكري وإن تبدلت نسب السيطرة، فالقوى المحلية ومن خلفها الإقليمية والدولية جعلت من هذه المؤسسة أسيرة شبكات ناشطة سواء تلك الشبكات الروسية والإيرانية المتحكمة في قطاع الدفاع السوري أم الشبكات الدولية والإقليمية الأخرى في "الجغرافيات" الأخرى الخارجة عن سيطرة النظام، وهذا وغيره من الأسباب المتعلقة بعدم الحياد والتكوين الاجتماعي المختل والعقيدة والأيديولوجية الحزبوية تحتم ضرورة سياسات إعادة البناء التي لا تزال تغيب عن أجندة النظام وحلفائه لصالح إعادة الترميم وفق مبدأ عودة التحكم والسيطرة وجعل الجيش أداة في ذلك.
- أمام تلك الموجهات المتحكمة في محددات التغيير والإصلاح للمؤسسة العسكرية يسجل غياب الرؤى الوطنية عن الأجندة المتعلقة بهذه المؤسسة والتي تضبط العملية الإصلاحية بشروط عدة، أهمها التغيير السياسي، والعمل على انتزاع الجيش من دوائر التنافس السياسي الحزبي لصالح الحيادية، وحماية الحياة السياسية، إضافة إلى تعزيز العلاقات المدنية العسكرية الدافعة باتجاه تحسين أداء المؤسسة.
المقدمة
انطلاقاً من ضرورة إعادة تعريف أدوار المؤسسة العسكرية في سورية في ظلّ التحولات العميقة التي يشهدها مفهوم الدولة الوطنية، وما تستوجبه من تفكيك بحثي لوظيفة وبنية الجيش في سورية، وهويته العقائدية والتفسيرات الرئيسية التي أدت إلى تدخلات الجيش )كقوة المركزية والتنظيمية( في الحياة الاجتماعية والسياسية وفق فلسفة الفئة الحاكمة. ومنطوقٍ يخدُم ويُغذي السلطة، أطلق مركز عمران للدراسات الاستراتيجية مشروعه البحثي حول تحولات المؤسسة العسكرية السورية وتحدي التغيير وإعادة التشكل، وأنجز جملة من المخرجات البحثية والتي نجمعها في هذا الكتيب كما هو مبين أدناه:
- الجيش السوري خلال الفترة 2011-2018: الدور والوظيفة.
- البنى والفواعل العسكرية في سورية لعام 2018.
- الاستقرار والتغيير في سورية: ورقة حول مستقبل المؤسسة العسكرية.
- ملحق أول: أبرز تحولات الجيش 1945-2011.
- ملحق ثاني: القوانين والتنظيمات الحاكمة للجيش بعد 2011.
وتبحث تلك المخرجات في مؤشرات عدم الاستقرار بخارطة الفواعل العسكرية وقياس أثره على "مركزية وظيفة الدفاع والامن"، والشكل النهائي لمراكز القوة في الجيش بعد عمليات الدمج المحتملة. كما تركز على العلاقة المؤثرة ما بين المشهد العسكري والمشهد السياسي، بمعنى التعرف إلى ماهية رؤى الفواعل العسكرية على مداخل الإصلاح ومستوياتها أو على القدرة على انتزاع صلاحيات لا مركزية "مقوننة"، والعكس صحيح، تبيان تطورات المشهد السياسي وتبدلات محددات الحليف والداعم الإقليمي والدولي وما يؤثره على خيارات الفاعل العسكري الذي تقل خياراته أمام هذه التبدلات.
كما تم استعراض أهم التحولات التاريخية التي طرأت على الجيش، لتشكيل فمهاً متأصلاً حول طبيعة الخلل البنيوي ومسبباته، بالإضافة إلى الوقوف على أهم القوانين والتشريعات الناظمة لعمل المؤسسة العسكرية وتحديدها ومتابعة مسارها وتعديلاتها منذ صدورها حتى آخر تعديل لها، وكيفية قيام "القيادة العسكرية" بتوظيف هذه القوانين بعد بدء الثورة السورية في استمالة عناصر الجيش من كافة الفئات للاستمرار بحالة الولاء المطلق لتلك القيادة.
كما تحاول هذه المخرجات أن تجيب عن عدة تساؤلات مركزية: هل المؤسسة العسكرية بواقعها الراهن تمتلك شروط الفاعلية والوطنية، وتمتلك القدرة والكفاءة لحماية مخرجات العملية السياسية وتوفير الاستقرار؟ وهو ما استدعى بداية إدراك تموضع (سياسة الإصلاح) في حركية الجيش الراهنة والمستقبلية، ثم تلمس مدى توفر عناصر التماسك والاستقرار البنيوي فيه بعد التحولات العميقة التي شهدتها خلال سني الصراع؟ ثم الانتقال إلى وضع ملمح (تصور أولي) لأطر عمليات التغيير ليغدو مستقبل هذه المؤسسة دافعاً للتماسك والحياد السياسي، وأن تكون مصدراً رئيساً لتحقيق وتوليد الاستقرار في سورية.
ويلفت النظر إلى أن المركز سيعمل على إنجاز سلسلة مخرجات بحثية حول هذا الإطار، كمرحلة ثانية للمشروع، مستفيداً من نتاج وملاحظات ورشته التي عقدها في إسطنبول في تاريخ 25/تشرين الأول/2018، ليركز على القضايا التالية:
- التطييف وآلياته في الجيش.
- الواقع الراهن للمؤسسة العسكرية: الشبكات المتحكمة.
- إدارة الفائض البشري: نموذج الفيلق الرابع والخامس.
- النظام القضائي العسكري.
- التحديات غير التقنية في عملية إصلاح المؤسسة العسكرية.
لقراءة الكتاب كاملاً انقر هنا