مدخل
منذ لحظة التحوّل السياسي الحاسم في سورية وسقوط نظام بشار الأسد، بدت ملامح الموقف المصري تجاه الإدارة الجديدة في دمشق، بقيادة أحمد الشرع، مُتّسمة بالحذر والتردد، دون أن تبلغ حدَّ القطيعة أو القبول الصريح. فعلى الرغم من أن القاهرة لم تُعلن رفضاً مباشراً للتحوّل الحاصل، إلا أن ردود فعلها، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، اتسمت بالبرود وغياب المبادرة، لا سيما مقارنة بالمواقف الخليجية-الغربية التي شهدت انفتاحاً سريعاً وديناميكياً تجاه السُلطة الجديدة في سورية.
تجلّى هذا التردد في سلسلة من المحطات السياسية والدبلوماسية، والتي عكسَت توجّهاً مصرياً نحو إدارة التغيير السوري بمنطق الترقُّب والتوجُّس. فرغم مشاركة القاهرة في اجتماعات "مجموعة الاتصال العربية" لبحث الانتقال السياسي في سورية([1])، ثم انخراطها في اجتماعات الرياض خلال يناير 2025؛ إلا أن حضورها اقتصر على حدود التصريحات والتأكيد على مبادئ عامة للانتقال السياسي تتعلق "بوحدة الأراضي السورية، ورفض التدخلات الخارجية، وضرورة مكافحة الإرهاب، وألا تتحوّل سورية إلى مصدر لتهديد استقرار المنطقة أو مركزٍ للجماعات الإرهابية"([2]). دون انخراط فعّال في خضم الانتقال السوري أو المشاركة في هندسة التوازنات الإقليمية الجديدة التي بدأت تتبلور حوله. كما وافقت مصر لاحقاً على استضافة سورية في قمة طارئة للجامعة العربية بشأن غزة، تخلّلها لقاء "بروتوكولي" محدود بين الرئيسين الشرع والسيسي([3])، إلا أن ذلك لم يُستتبع بخطوات ملموسة على مستوى العلاقات الثنائية، على غرار ما قامت به دول عربية وغير عربية من انفتاح سياسي-عملي، تمثّل في حراك دبلوماسي رسمي واسع، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية وأمنية.
وقد صاحب تلك الخطوات الدبلوماسية المترددة، إجراءات عملية أكثر حذراً؛ ومنها القرارات الحكومية-المصرية خلال كانون الأول/ديسمبر 2024 وكانون الثاني/يناير 2025، بتقييد دخول السوريين إلى مصر وفق إجراءات صارمة عكست توجهاً أمنياً([4]). كما مثّل الخطاب الإعلامي المصري – الذي يعكس في غالب الأحيان المزاج السياسي لمؤسسات الدولة – مؤشّراً بالغ الأهمية على حجم التحفُّظ إزاء القيادة السورية الجديدة. حيث استعاد هذا الخطاب بجوهره سرديات الدولة المصرية بشأن رفض أنماط "التغيير الفوقي" أو "القسري"، لا سيما إذا ارتبطت بصعود قوى سياسية ذات خلفيات إسلامية أو بخطاب ثوري-عسكري يُنظر إليه بوصفه مهدِّداً لـ"بُنية الدولة القومية-المركزية".
لم يلبَث أن تطور هذا الحذر والتحفُّظ إلى صيغة رسائل سياسية غير مباشرة، ففي 31 أيار/مايو2025 وافقت محكمة القضاء الإداري في مصر على النظر في دعوى قضائية ضد الرئيس السوري، أحمد الشرع، تتهمه بارتكاب "انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، طالت أقليات طائفية عقب أحداث الساحل"([5])، على غرار الدعوى التي رفعها أحد البرلمانيين العراقيين، ضد الشرع، بتُهم أُخرى خلال شهر نيسان/أبريل 2025. ورغم أن هذه الخطوة تفتقر إلى تأثير قانوني عملي، فإن دلالاتها السياسية تُفهم في سياق توجّه مصري مستمر لتفادي إعطاء أي إشارات اعتراف مُبكِّر بشرعية التحوّل السوري، أو الدخول في ترتيبات قد تُفسَّر على أنها قبول بواقع سياسي يتناقض مع مقاربات الدولة المصرية. ولعلّ ما زاد من رمزية هذه الخطوة هو تزامنها مع وصول وزير الخارجية الإيراني، عباس عرقجي، إلى القاهرة في 1 حزيران/يونيو 2025، حيث انطلقَت في اليوم التالي لقاءات مع المسؤولين المصريين، على رأسهم الرئيس السيسي، كان عنوانها العريض بحث التطورات في ملف غزة([6]).
في المقابل، سبق تلك الزيارة بيوم واحد وصول وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، على رأس وفد اقتصادي إلى دمشق، الزيارة التي ظهر خلالها وهو يؤمُّ مُصلّين، منهم وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، في المسجد الأمويّ الكبير بدمشق([7]). إذ شكّل الانفتاح الخليجي والأمريكي والأوروبي على سورية الجديدة مساراً أكثر وضوحاً، من حيث المواقف السياسية، ورفع العقوبات، وفتح قنوات التعاون الاقتصادي. وهو ما يجعل من تمايز الموقف المصري، حتى الآن، حيال الحكومة السورية الجديدة، موضوعاً مُلحّاً للفحص والتحليل، لا سيما في ظل التفاوت المُتسارع في أنماط الانفتاح الإقليمي على دمشق، وغياب مُقاربة مصرية واضحة حتى الآن.
هذا التمايز لا يمكن قراءته في إطار أحادي البُعد، بل ضمن شبكة مركَّبة من الهواجس الأمنية، والمخاوف من ارتدادات التغيير السياسي، وتحوّلات موازين القوى في الإقليم. وعليه، تسعى هذه الورقة إلى تفكيك المحددات الاستراتيجية للموقف المصري من سورية الجديدة، وتحليل أبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية، في سياق إعادة تشكيل الترتيبات الإقليمية، وتبدُّل خارطة التحالفات، وما تفرضه من تحديات متنامية أمام الدور المصري، وانعكاسات على مسار العلاقات المصرية-السورية.
الهواجس الأمنية في صلب الموقف المصري
تتموضع الهواجس الأمنية في قلب السلوك السياسي المصري تجاه التحوّلات الحاصلة في سورية بعد انهيار نظام الأسد وصعود إدارة جديدة بقيادة أحمد الشرع. وعلى الرغم من أن القاهرة لم تعلن رفضاً صريحاً للتغيير، إلا أن موقفها المتحفّظ والمتردد يعكس بُنية أمنية صلبة في اتخاذ القرار الخارجي، تستند إلى قراءة حذرة لطبيعة النظام الناشئ، وسياقات تشكّله، وأثره المحتمل على الداخل المصري وتوازنات الإقليم.
إذ تعتمد الدولة المصرية في فهمها للتحوّلات الإقليمية على ما يمكن تسميته بـ"العقيدة الأمنية المحافظة"، وهي مقاربة تُولي الأولوية القصوى لاستقرار الدول المركزية، وتعارض بشدة التغييرات التي تنشأ خارج أطر المؤسسة الرسمية. ولعلّ هذا النمط من التفكير يعود إلى خبرات وتجارب تاريخية تركَت أثراً عميقاً في الوعي المؤسسي للدولة، أبرزها تجربة "العائدين من أفغانستان" في التسعينيات، وتحوًلات ما بعد 2011 في ليبيا وسيناء والداخل المصري. في هذا الإطار، يَنظُر صُنّاع القرار في القاهرة إلى الفراغات الناتجة عن انهيار الأنظمة بصفتها تهديداً يتجاوز حدود الدولة المعنية، نحو تأثيرات مُحتملة على مصر نفسها، وعلى تماسك النظام الإقليمي.
وفي الحالة السورية تحديداً، يبرز القلق المصري من طبيعة التغيير الذي أدى إلى إسقاط نظام الأسد، بالنظر إلى أن جزءاً فاعلاً منه تم بواسطة فصائل إسلامية مُسلّحة، بعضها يمتلك جذوراً سلفية جهادية، أو أيديولوجيات مناوئة للنموذج "الدولتي المصري". ولا يتعلّق هذا القلق بموقع هذه الفصائل في السُلطة فحسب، بل بنمط التغيير ذاته، والذي يتم عبر القوة المُسلَّحة.إذ يُمثّل هذا النموذج تهديداً مضاعفاً من منظور الدولة المصرية: فهو من ناحية، يُضعف السردية الرسمية حول شرعية التغيير من داخل النظام. ومن ناحية أخرى، قد يُمثّل بتجربته وحمولتها الثورية-الأيديولوجية مصدراً محتملاً لإلهام فواعل داخلية مصرية ترى في "النموذج السوري الجديد" طريقاً لإعادة التفكير في جدوى التغيير السلمي. هذه المخاوف تزداد حدّة في ظل الترحيب الإقليمي والدولي الذي حظي به هذا التحوّل، بما في ذلك رفع العقوبات وتحصيل شرعية عربية، ما يعطي انطباعاً بأن "التحوّلات غير المؤسسية" يمكن أن تكون مقبولة سياسياً إذا تغيّرت موازين القوى.
يزداد تعقيد هذه الهواجس حين تُقرأ في القاهرة ضمن منطق أوسع، يُفضّل الاستقرار السياسي على التغيير غير المحسوب، حتى لو كان الأخير مدفوعاً بإرادة محلّية. وهو منطق انعكس في مواقف مصر من موجات التحوّل السياسي في الإقليم، حيث تمسّكت الدولة بمقاربة تُقدّم أمن المنظومة على انفتاحها، وتُراكم التحفُّظ على خلفية تجارب مريرة مع فواعل غير حكومية أضعفت دولاً مجاورة. في هذا السياق، يغدو الملف السوري، بالنسبة للأجهزة المصرية، ليس فقط ساحة خارجية، بل مُختبراً محتملاً لمسارات عدوى داخلية، تُملي تعاملاً بالغ التحفُّظ والحِساب.
تتعزّز هذه الهواجس الأمنية بمخاوف مباشرة من تحوّل سورية إلى بيئة حاضنة لعناصر مصرية معارضة، خاصة من التيارات المتطرفة. إذ تشير تقارير ومصادر متعددة إلى وجود مقاتلين مصريين في صفوف "هيئة تحرير الشام"، فضلاً عن تقارير إعلامية سابقة عن صدور تهديدات موجّهة إلى الدولة المصرية من هذه المجموعات. ورغم أن الإدارة السورية الجديدة أبدَت حرصاً على طمأنة القاهرة – من خلال توقيف بعض العناصر، والتأكيد أنها لن تكون منصة للاعتداء على أحد – فإن غياب إطار تعاون أمني مؤسسي أو اتفاقيات ثنائية حتى الآن، يجعل هذه التطمينات غير كافية من وجهة نظر الأجهزة الأمنية المصرية. ويُفاقم هذا القلق عدم تبلور هوية واضحة لمؤسسات الدولة السورية الجديدة، لا سيما في قطاعي الأمن والدفاع.
الأبعاد الإقليمية والاستراتيجية للتردد المصري تجاه سورية الجديدة
لا يبدو البعد الأمني كافياً لتبرير تردد القاهرة المُركَّب، والذي لايمكن فهمه تجاه السُلطة الجديدة في سورية بمعزل عن سياق التحوّلات الإقليمية والدولية المتسارعة، إذ يتقاطع هذا التردد مع تغيّرات عميقة في بُنية النظام الإقليمي وموازين القوى، وبروز ملامح لمحاور جديدة تسعى إلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والأمنية في المنطقة. فالتغيير في دمشق لم يقع في فراغ، بل جاء في لحظة إعادة هيكلة شاملة للتحالفات الإقليمية في المنطقة انطلاقاً من سورية.
في هذا السياق، لا تنظُر القاهرة إلى صعود إدارة أحمد الشرع كمجرد تحوّل داخلي في سورية يحمل هواجس أمنية، بل كجزء من مشروع إقليمي أوسع يُعاد رسمه دون حضور فاعل لمصر، وتجاهل لموقعها الإقليمي ودورها في ترتيبات ما بعد الأسد ضمن المنطقة. لاسيما مع تشكُّل تدريجي لتحالف ناشئ تجاه دمشق، يتصدّره تنسيق سعودي–قطري–تركي، مع دور أردني متصاعد، إلى جانب غطاء أمريكي وانفتاح أوروبي، انخرَط بشكل مباشر في إعادة تأهيل السُلطة الجديدة، عبر حراك دبلوماسي واسع، واستثمارات مُبكِّرة، وترتيبات أمنية، مقابل انكفاء مصري لافت.
يبدو أن القاهرة ترى في سورية الجديدة منصة مُحتملة لتوسيع النفوذ الإقليمي لهذا التحالف الناشئ، والذي وإن لم يظهر تنافساً مباشراً في اللحظة الراهنة، إلا أنه بالنسبة لمصر قد يُشكِّل امتداداً لمشاريع إقليمية تهدف إلى إعادة تشكيل المجال السياسي العربي، بما يشمل احتواء حركات الإسلام السياسي وإعادة دمجها في بُنية السُلطة/الدولة، على خلاف التوجّه المصري منذ 2013. فضلاً عن تقليصه لنفوذ فاعلين كإيران وروسيا لصالح صعود تركيا، إذ تُبدي القاهرة قلقاً خاصاً تجاه احتمالات ملء أنقرة للفراغ الاستراتيجي في سورية، وأن يُشكّل ذلك بوابةً لامتداد نفوذ أوسع في المشرق العربي.
وفي هذا الإطار، قد تُفضّل مصر، بعكس الموقف الغربي، بقاء القوات الروسية في سورية كمُعادِل قوى يحدّ من احتمالات الانفراد التركي. يُعزّز هذا التفضيل ما تراه القاهرة من تحوّل تدريجي في موقع دمشق، لتصبح نقطة التقاء بين قوى إقليمية لطالما تباينت أو تنافست معها، بما قد يُعيد رسم المشهد الاستراتيجي في الإقليم على نحو يُقزّم الدور المصري، ويُبقيه على هامش تفاعلات تقودها قوى إقليمية منافسة. خاصة وأن أثر هذه التفاعلات لا يقتصر على حدود الملف السوري، بل قد يمتد إلى مجمل توازنات الإقليم. إذ تدرك القاهرة أن المشهد السوري بات ساحة لإعادة توزيع الأدوار والنفوذ، وأن أي تفاهمات تنشأ حول سورية الجديدة ستترك آثاراً على ملفات أخرى مهمة لموقع مصر وأمنها القومي، مثل؛ شرق المتوسط، أمن البحر الأحمر، والقضية الفلسطينية. ومع غياب دور فاعل أو مؤّثر لمصر، فإن خارطة الاصطفافات الإقليمية الجديدة، تُضعف من موقع القاهرة كقوة إقليمية محورية، وتقيّد من قدرتها اللاحقة على التأثير في أي ترتيبات تنبثق عن هذه الاصطفافات.
يتفاقم القلق المصري مع مؤشرات حول مسارات تهدئة مُحتملة بين دمشق وتل أبيب برعاية خليجية–غربية. ورغم أن مصر مُنخرطة في اتفاق سلام رسمي مع إسرائيل منذ عقود، إلا أن أي تفاهمات سورية–إسرائيلية مُحتملة تتم خارج الإطار والتنسيق المصري التقليدي، قد تعيد رسم أدوار الوساطة في القضية الفلسطينية، كما قد تؤثّر على ترتيبات الأمن الإقليمي شرق المتوسط، وبالتالي تقلّص من قدرة القاهرة على لعب دور ضامن أو مقرّر في تلك الملفات، خصوصاً إذا ما اعتُبرت تلك التفاهمات جزءاً من منظومة إقليمية تقودها الرياض وأنقرة، وليس خطوة منفردة من دمشق.
في هذا السياق، يمكن فهم استقبال الرئيس السيسي لوزير الخارجية الإيراني، عباس عرقجي، كنوع من الاعتراض على تهميش القاهرة، والتلويح بوجود بدائل في حال الاستمرار بذلك. ورغم رمزية هذه الخطوة، تُدرك القاهرة أنها لا تمثل خياراً استراتيجياً، بل تلويحاً تكتيكياً محفوفاً بكلفة إقليمية-استراتيجية، سواء بالنسبة للعلاقات مع الخليج، أو مع إسرائيل التي بذلت جهوداً متراكمة وخاضت حروب لإبعاد طهران عن حدودها الشمالية والشرقية، ولا تبدو مستعدة لتقبّل عودتها من بوابة مصرية غير متوقّعة.
من جهة أخرى، لا يقتصر القلق المصري على الترتيبات والتفاهمات الأمنية والسياسية الناشئة في الإقليم، بل يمتد إلى ما قد تفرزه لاحقاً من شراكات اقتصادية قد تُقوض مصالح القاهرة أو تُقصيها، بما يضعف أدوات نفوذها غير الصلبة في المحيط. وفي هذا السياق، يمكن أيضاً قراءة إعلان القاهرة عن زيارة مرتقبة للرئيس الصيني إلى مصر في هذا التوقيت بالذات، بوصفه تلويحاً آخر بخيارات اقتصادية بديلة، تُرسل من خلاله القاهرة إشارة إلى أنها قادرة على تنويع شركائها([8]).
لا يمكن فهم إشارات الاحتجاج الرمزية التي تُرسلها القيادة المصرية كنوع من الحياد تجاه سورية فقط، بل في سياق رسائل ضمنية لعواصم خليجية، تتصل بالقلق من التحالفات الإقليمية الجديدة وآثارها على مصالح القاهرة، فيما يبدو أنه يعكس أزمة ثقة متنامية بين الطرفين، لا تتعلق بالملف السوري فحسب، وإنما تتجاوزه إلى ملفات عدة في المنطقة. وفي هذا الإطار، بدى لافتاً غياب أو تغييب الرئيس السيسي عن القمة الثلاثية-التاريخية التي جمعَت ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس الأميركي دونالد ترامب، بالرئيس السوري أحمد الشرع، بعكس مشهد زيارة ترامب في ولايته السابقة للشرق الأوسط، حيث كان الرئيس السيسي/القاهرة شريكاً محورياً في المشهد آنذاك.
في المحصلة، لا يعكس التردد المصري تجاه سورية الجديدة مجرد تحفُّظات ظرفية، بل يرتبط بمنظومة من الاعتبارات البُنيوية المتعلقة بموقع مصر في الإقليم، وتراجع تأثيرها في هندسة التحالفات، ومقاربتها لمسألة التغيير السياسي. وهو تردد يتجاوز الموقف من سورية إلى أسئلة أعمق حول مستقبل الدور المصري في النظام الإقليمي الناشئ، وموقعه في خارطة تتشكل دون مساهمته الفعلية أو مراعاة مصالحه.
ضرورة مقاربة جديدة في العلاقات المصرية–السورية
في ظل التحوّلات المتسارعة في الإقليم، لا تملك القاهرة رفاهية الاستمرار في الانكفاء، خاصة وأن استعادة مستوى معين من الانخراط في الشأن السوري قد يُعيد لها أدوات تأثير تدريجية في ملفات استراتيجية تمسّ أمنها القومي وموقعها الإقليمي. كما أن هذه التحوّلات وما تفرضه من إعادة تشكيل لشبكات النفوذ والتحالفات، يجعل استمرار القاهرة في انتهاج سياسة التوجُّس والانكفاء تجاه سورية الجديدة خياراً مُكلِفاً على المستوى الاستراتيجي. فمع الغياب الواضح لدور القاهرة عن مشهد الاستثمار المتصاعد، والترتيبات الأمنية الناشئة، وخطط إعادة الإعمار، والانخراط في إعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية السورية، تتراجع مصر تدريجياً عن موقعها التقليدي لصالح قوى إقليمية ودولية تتحرك بأريحية لملء الفراغ.
في المقابل، لا يبدو منطقياً توقّع عودة سريعة وقوية للعلاقات بين البلدين، ولا تجاوزاً وشيكاً لتحفُّظات القاهرة الجذرية على طبيعة التحوّل الجاري في دمشق. غير أنه من المجدي في هذه المرحلة، بل ومن الضروري، التفكير في مقاربة جديدة تُعيد جسور تواصل فعَّال دون إنكار التعقيدات القائمة. وهي معادلة يمكن أن تُبنى على مبدأ "التقارب المشروط/المدروس"، الذي يتيح هامشاً للتفاعل المرحلي في مجالات محددة – أمنية، اقتصادية، إنسانية وثقافية – دون أن يُنتج التزامات سياسية شاملة أو التزامات استراتيجية دائمة.
فمن وجهة نظر القاهرة، يسمح هذا المسار بالحفاظ على مستوى معقول من الحضور والتفاعل مع التحوّلات الجارية، دون كُلفة داخلية أو التزامات استراتيجية مُربِكة، كما يتيح اختباراً مرناً لسلوك السُلطة الجديدة في دمشق ضمن قنوات قابلة للضبط والمراجعة. ويمكن أن تُشكّل ملفات، مثل: الاعتداءات الإسرائيلية، "مكافحة الإرهاب" خاصة مع صعود "داعش" وزيادرة نشاطه في إفريقيا، تهريب المخدرات، هيكلة الأجهزة الأمنية، أوضاع اللاجئين السوريين في مصر؛ مداخل عملية لاستئناف الحوار الفني، خاصة مع المرونة التي تبديها الإدارة السورية الجديدة. إلى جانب إمكانية تفعيل أدوات ناعمة ذات طابع ثقافي-دبلوماسي، سواء عبر الدوائر الدبلوماسية الرسمية أو منظمات المجتمع المدني ومراكز الدراسات ورجال الأعمال السوريين في مصر، بما يحفظ خصوصية الدور المصري ويبعده عن حساسية الاصطفاف.
أما من منظور دمشق، فإن تعزيز قنوات التواصل مع القاهرة، يضيف بعداً توازنياً إلى مشهد العلاقات العربية، ويمنح السُلطة الناشئة رصيداً على المستوى الإقليمي لا يمكن تعويضه عبر شراكات ثنائية أخرى. كذلك، فإن الإشارات الانفتاحية المدروسة تجاه مصر، سواء عبر عرض التعاون الأمني والتنسيق الإقليمي في ملفات محددة، أو فتح نوافذ اقتصادية محدودة لتنسيق الفرص، أو الدفع في مبادرات سياسية وثقافية-دبلوماسية، يمكن أن تندرج ضمن مقاربة عقلانية لا تستبطن تغييراً جذرياً في التوجهات، لكنها تعزّز من موقع دمشق لاحقاً في ملفات إقليمية حساسة. الأمر الذي قد يستدعي إعادة هيكلة البعثة الدبلوماسية السورية في القاهرة، بما يعكس حرص دمشق على تطوير علاقة متوازنة مع مصر، ويضمن وجود طاقم دبلوماسي مُلمّ بتعقيدات مواقف الطرفين، وقادر على إدارة التواصل بحساسية ومرونة، بما ينسجم مع طبيعة المرحلة الانتقالية.
إن اقتراب القاهرة من دمشق في هذه المرحلة، يعد أقل كُلفة من الاستمرار في الابتعاد عنها، ليس فقط لأن الفجوة تتسع لصالح قوى أخرى، بل لأن المقاربة المصرية القائمة على التردد لم تعد كافية لحماية موقع القاهرة في منظومة عربية يعاد تشكيلها على أسس جديدة. وبالمثل، فإن دمشق تحتاج إلى تنويع دوائر تواصلها الإقليمي، بما يمنحها مرونة وحصانة أكبر في التعامل مع بيئة غير مستقرة، وتوازناً في علاقاتها بما يتجاوز التحالفات الظرفية أو الاستقطابات الحادة. الأمر الذي قد يتيح للجانبين إدارة العلاقة بمنطق يُراعي الهواجس ولا يتجاهل المصالح.
من هنا، فإن بناء معادلة عقلانية للتقارب السوري-المصري لا يقتضي خطوات دراماتيكية أو تحوّلات جذرية، بقدر ما يتطلب تصميماً ذكياً لمسارات تدريجية، تحفظ لكل طرف موقعه وحساباته، وتسمح بإبقاء باب التفاعل مفتوحاً، في لحظة إقليمية لا تحتمل الانكفاء أو القطيعة. وهي معادلة تؤسّس، إن أُحسن إدارتها، لمقاربة وظيفية ومرنة تُدار بأدوات واقعية، وتفتح أفقاً جديداً لعلاقة تاريخية تحتاج اليوم إلى ترميم. كما تؤسّس لصيغة توازن عقلاني في الإقليم، تمنح الطرفين مساحة للنفوذ دون التورُّط في صدامات التحالفات أو مأزق الاصطفاف.
ختاماً، ليس في العلاقة بين البلدين وقيادتهما الحالية ما يفرض الاندفاع أو القطيعة، بل ما يستدعي من القيادة المصرية تثبيت معادلة وظيفية، تحافظ على هامش التفاعل وتمنع تكريس الانكفاء. فالتحوّل السوري، بما يحمله من تعقيدات ميدانية وتقاطعات دولية، لا يتيح رفاهية الحذر المفتوح، ولا يقبل التعامل معه بمنطق الترقّب وحده. بالمقابل، فإن دمشق التي استعادت مركز الدولة دون أن تستعيد بالضرورة كل وظائفها ودوائرها الإقليمية، لا تملك أيضاً ترف إغلاق النوافذ التي تتيح لها موقعاً ومرونة تفاوضية أوسع في المنطقة، وتجنّبها اصطفافات إقليمية مُحتملة، خاصة وأنها تسعى في الفترة الحالية إلى تحويل سورية من حلبة لتضارب المصالح الدولية والإقليمية إلى ساحة لبناء التوافقات والتفاهمات، بشكل يضمن الحد الأدنى من الأمن والاستقرار خلال المخاض الانتقالي.
([1])بمشاركة مصر: انطلاق اجتماع لجنة الاتصال العربية بشأن سورية في العقبة، اليوم السابع، 14 كانون الأول/ديسمبر 2024، متوافر على الرابط: https://2u.pw/Scxx6w9x
([2]) اجتماع الرياض بشأن سورية: مصر توضح موقفها وألمانيا تقترح "عقوبات ذكية"، الجزيرة، 12 كانون الثاني/يناير 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/3TsSQ
([3]) السيسي يلتقلي الشرع على هامش قمة القاهرة، سكاي نيوز-عربية، 5 آذار/مارس 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/H5MIG
([4])انفراجة في أزمة منع دخول السوريين إلى مصر...استثناءات تشمل الأزواج والطلاب والمستثمرين، الشرق الأوسط، 21 كانون الثاني/يناير 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/DS3yH
([5]) محكمة مصرية تبحث دعوة ضدر الشرع بتهم "جرائم ضد الإنسانية" في الساحل السوري، "مونت كارلو" الدولية، 3 حزيران/يونيو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/MUZmK
([6]) وزير خارجية إيران يصل القاهرة، سكاي نيوز-عربية، 2 حزيران/يونيو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/XbCit
([7]) وزير خارجية السعودية يؤم المصلين بالجامع الأموي الكبير في دمشق وسط تفاعل، CNN عربية، 31 أيار/مايو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/ftJTl
( [8]) وسط اضطرابات عالمية..مصر تستعد لاستقبال الرئيس الصيني، CNBC عربية، 3 حزيران/يونيو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/9TAe1