يجدد الحديث عن إغلاق المعابر الحدودية في وجه المساعدات الإنسانية معاناة الشعب السوري التي لا تنتهي، وكأن الأزمات تتسابق فيما بينها أيها الأكثر فتكاً بهذا الشعب، في حين تتسابق الدول لأخذ حصتها من “القصعة” أو ما تبقى منها… بقليل من حفظ ماء الوجه عبر بضعة شعارات براقة أو قليل من الدبلوماسية، أو بكثير من التبجح واستغلال أعطيات المجتمع الدولي لها.
نقف اليوم كسوريين وحياتنا على المحك مجدداً، مترقبين من خلف الشاشات قراراً دولياً يخص حياة الملايين منا، بينما دور فاعلينا المحليين في انحسار، منتظرين ما يحدث في أروقة مجلس الأمن حيث يتفقون فيما بينهم أو يختلفون، يتفاوضون على أجزاء من أرضنا أو على امتيازات من ثرواتنا، أو حتى على أحقية منحنا الحق في الحياة من عدمه!، نتحول هناك بمعاناتنا اليومية إلى أرقام… كم منا سيموت أو يبقى بعد كل قرار –لا يهم أبداً كيف يبقى قدر ما يهم في أية خانة سيصنف-ولا يهم أن تحل المعضلة أو يحاسب الذي تسبب بها، المهم كيف يستمر التجاذب حول “إدارة الأزمة” وإطالة عمرها والتلاعب بانتقاء المصطلحات القانونية واستغلال عدم وجود وسائل إنفاذ في القانون الدولي.
فبعد القرار 2165 الصادر في 2014 (وتمديداته وتعديلاته: القرار 2191 عام 2014، القرار 2258 عام 2015، القرار 2332 عام 2016، القرار 2393 عام 2017، 2449 عام 2018، القرار 2504 عام 2020) حول تفويض مجلس الأمن لوكالات الأمم المتحدة وشركائها بآليات إيصال المساعدات الإنسانية العابرة للحدود إلى سورية عبر الحدود وخطوط التماس استثنائياً ودون موافقة النظام باستخدام أربعة معابر حدودية هي: في باب السلام وباب الهوى واليعربية والرمثا، تم تقليص هذه المعابر تدريجياً بفعل الضغوط الروسية والصينية لتقتصر بموجب القرار 2533 الصادر في 10/07/2020 (بعد عدة جولات تفاوضية) على معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا ولمدة عام واحد فقط.
و ها نحن على بعد أيام قليلة عن جلسة جديدة لمجلس الأمن ستعقد قبل العاشر من تموز، لتصوت خلالها الدول الخمسة عشر الأعضاء بما فيها الدول الخمس دائمة العضوية، على إمكانية تجديد القرار 2533، ودراسة مشروع أعدته إيرلندا والنرويج حول ذات الموضوع باستخدام معبري باب الهوى واليعربية، وافقت عليه الدول العشر غير دائمة العضوية، بينما ترغب الولايات المتحدة بإعادة إضافة معبر السلامة إلى هذا المشروع، وسط تخوف دولي من استخدام روسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل القرار، الأمر الذي أكده الرئيس الروسي ووزير خارجيته في لقاءات عدة موضحين أن روسيا تتجه نحو منع تجديد القرار، وحصر دخول المساعدات عن طريق “الحكومة السورية” حفاظا على “استقلالية سورية” وفقاً لما تبرر به روسيا موقفها.
كارثة إنسانية-سياسية جديدة على الأبواب
ما يزيد عن 4 ملايين شخص يعيشون في الشمال السوري اليوم -معظمهم من الفارين من بطش روسيا والنظام أو المهجرين قسرياً فضلاً عن أهالي تلك المناطق- سيكونون مهددين بكارثة إنسانية بمجرد تعطيل هذا القرار، فمعبر باب الهوى يمثل “شريان حياة” وفقاً لتعبيرٍ أطلقته عشرات المنظمات الإنسانية السورية في بيان لهم حول مدى أهمية المعبر في إنقاذ حياة الناس في الشمال، أوضحت فيه اعتماد 75% من أصل 4.2 ملايين شخص من قاطني الشمال على المساعدات الإنسانية التي تأتي عبر الحدود، بينهم مليون طفل و2.4 مليون نازح ومهجر داخلي.
تقارير كثيرة تحدثت بالأرقام عن دور معبر باب الهوى في إيصال المساعدات الإنسانية للشمال السوري، والذي وصفته السفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة بأنه: “حرفياً آخر ما تبقى…”، خاصة بعد إغلاق معبري اليعربية وباب السلامة، إذ تمر عبره 10 آلاف شاحنة سنوياً، ورغم أنها لا تغطي احتياجات الشمال السوري خاصة مع استمرار الصراع والقصف الروسي والتحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وفرص العمل النادرة والتي ستزداد صعوبة إذا خرجت المنظمات الدولية من الشمال، وخروج عدة قطاعات بشكل شبه كامل عن العمل، والكوارث التي لم تكن جائحة كورونا آخرها والحاجة الماسة لوصول اللقاحات والأدوية والمستلزمات الطبية لقطاع طبي هش أصلاً، يضاف إلى ذلك تهديد الأمن الغذائي والوصول إلى مصادر المياه وارتفاع الأسعار وانخفاض إمكانية الوصول إلى عدد كبير من المخيمات بعد توقف المساعدات، كل ذلك سيؤدي لزيادة تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني –المتدهور أصلاً- وقد يتسبب بارتفاع معدلات الجريمة والاختراقات الأمنية، كما سيؤدي إلى موجات لجوء جديدة مما يشكل تهديداً يتخطى الحدود السورية إلى دول الجوار وأوروبا، الأمر الذي تخشاه الدول أكثر بكثير من حدوث الأزمات المختلفة ضمن الحدود السورية.
وبالرغم من أن كل ما سبق يشكل تهديداً وجودياً حقيقياً، إلا أن الكثير من التقارير تهمل جانباً آخر بالغ الأهمية تحاول روسيا ترسيخه من خلال تعطيلها القرار، حيث تفترض أن التعطيل سيمنع دخول المساعدات الإنسانية إلا عبر قنوات النظام، والفوائد الاقتصادية التي سيحققها من هذه العملية خاصة في ظل انهياره اقتصادياً وانخفاض قيمة عملته وسط تضخم الأسعار وعزلته والعقوبات المفروضة عليه ليست السبب الوحيد _وإن كان مهماً جداً لإنعاش النظام_، إذ تسعى روسيا لإعادة شرعنة النظام دولياً من خلال الاعتراف به كجهة رسمية وحيدة مخولة للتصرف في كل الشؤون السورية.
والخطورة في هذا ليست في اضطرار الدول والمنظمات للتعامل مع نظام الأسد وحسب، بل في أن النظام سيكون مسؤولاً عن تحديد آلية هذا التوزيع وتقييم الاحتياج وفرض مصطلحاته وتوصيفاته الجاهزة وفقاً لإيديولوجياته، إذ سيكون قادراً على تحديد من هو الشهيد ومن هو المستحق بناء على الولاء للنظام -منطلقاً من نظريته حول “سوريا المفيدة/المتجانسة” ربما- لا على الاحتياج الإنساني، وهذا ليس محض افتراض نتنبأ به، فقد سبق أن منع النظام سابقاً وصول مساعدات إنسانية إلى كل المناطق التي حاصرها.
ومن البداهة أن الذي يفرض حصاراً خانقاً على مدن كاملة، ويهجر نصف شعبه، ويعتقل كل من يخالفه، ويقتل بأعتى أنواع الأسلحة بما في ذلك المحرمة دولياً منها، لن يكون اليد الإنسانية الحانية التي توزع المساعدات الإنسانية بعدالة، خاصة إلى الشمال السوري الذي أضحى حاضنة لمعارضيه ومهجريه.
اللا اتفاق السياسي هو الحاكم
تؤيد معظم الدول الأعضاء حالياً في مجلس الأمن تجديد القرار، باستثناء روسيا والصين، من جهتها تحث الولايات المتحدة الدول الأعضاء على الموافقة على تجديد القرار وإضافة معبري باب السلامة واليعربية، وتحذر من الكارثة الإنسانية التي قد تحصل في حال تعطيل القرار منوهة إلى ضرورة التوقف عن جعل المساعدات الإنسانية قضية سياسية، أما روسيا التي تسعى لإعادة شرعية النظام دولياً بعد استعادته لكثير من الأراضي السورية التي خرجت عن سيطرته ومهزلة ما يُسمى بـ “الانتخابات الرئاسية” التي أقيمت صورياً وإفادته سياسياً واقتصادياً من حركة المساعدات الإنسانية عبر المعابر، أو استخدامها كورقة تفاوضية للحصول على امتيازات معينة من قبل الولايات المتحدة أو تركيا مقابل عدم استخدام الفيتو، فلا شيء لا يمكن أن تتفاوض عليه روسيا شريطة ضمان مصالحها، أما الصين التي استخدمت الفيتو ضد القرار العام الماضي، فهي أقل حدة من روسيا ولم يسبق أن استخدمت الفيتو في القضية السورية منفردة –على عكس روسيا- كما أنها لم تلوح باستخدام الفيتو هذا العام لكنها تطالب بتخفيف العقوبات المفروضة على النظام وبدخول مساعدات أممية عن طريق حكومة النظام.
أما عن سورية وتركيا، الدولتين المتأثرتين مباشرة بالقرار رغم تناقض موقف حكومتي أنقرة والنظام ووجود المعبر المفتوح تحت سيطرة المعارضة السورية التي تشكل طرفاً ثالثاً معنياً بالقرار، إلا أن التسوية الأمريكية الروسية وبشكل أقل التركية الروسية في التفاوض على هذا الملف هي ما سيحدد القرار النهائي، فهو قرار منوط بمجلس الأمن لا بقرارات هذه الدول، فقد تستمر تركيا بإدخال مساعدات إنسانية عبر معابرها الحدودية إلى مناطق المعارضة، لكن هذه المساعدات لن تغطي الاحتياجات الهائلة ل4 ملايين شخص ولن تغني عن المساعدات الدولية شيئاً.
السيناريوهات المحتملة: تدلل المؤشرات السابقة وسلوك الدول المؤثرة في القرار على احتمال حصول أحد السيناريوهين التاليين:
تمرير القرار: وهذا يتطلب موافقة روسيا والصين أو امتناعهما عن التصويت، وهو أمر يخالف ما تصرح به روسيا على لسان رئيسها ورئيس وزرائها، إلا أنه لا يزال احتمالاً قائماً ويعتمد بشكل كبير على ما تقدمه الولايات المتحدة أو تركيا من مزايا لروسيا.
فالحديث عن هامش لقاء بايدن وبوتين الأخير، يحتمل إمكانية تفاوض روسيا على عدم استخدام الفيتو مقابل الحصول على امتيازات في شرق الفرات أو تخفيف العقوبات الأمريكية على النظام السوري، مستغلة بذلك عدم وضوح سياسة إدارة بايدن تجاه سورية، باستثناء التركيز على الملف الإنساني والبقاء العسكري شرق الفرات ومنع ظهور داعش.
إلى ذلك، فقد دعا وزير الخارجية التركي نظيره الروسي للقاء لم يُفصح عن نتائجه، إلا أن الأرجح أن قضية المعابر كانت من أهم محاور اللقاء.
وفي حال تمرير القرار هذا العام فسنكون أمام ذات الاحتمالات العام القادم وربما مع تقليل المدة أو فرض شروط إضافية (كما حصل خلال مفاوضات التمديد 2020)، الأمر الذي يتطلب منا -كسوريين أو معنيين بالشأن السوري- تفكيراً استراتيجياً أبعد، لنعرف ما هي خيارتنا للعمل على حلول أنجع من مراوحة المكان واستجداء التعاطف وتقديم التنازلات.
أما السيناريو الآخر في حال بقاء اللا اتفاق سيد الموقف فهو تعطيل القرار إذا أصرت روسيا على استخدم الفيتو، سواء شاركتها ذلك الصين أم لا، وهنا لن نكون أمام كارثة إنسانية وحسب، بل أمام تعطيل يرجح أنه طويل المدى ريثما تتفق الدول على مخرج أو تقدم تنازلات مقنعة لروسيا، خاصة أن أي مشروع قرار يوافق الرؤية الروسية لن يحظى بموافقة دول مجلس الأمن وقد يواجَه بفيتو أمريكي، كما لن يلقى ترحيباً من الدول الغربية أو المعنية بالشأن السوري أو الإنساني أو دول الجوار باستثناء حلفاء نظام الأسد.
ختاماً… رغم الألم الذي يصاحب تحول الملف الإنساني في سورية إلى ملف للابتزاز السياسي تلوح به الدول بين حين وآخر لتحصل على امتياز هنا أو هناك – وهو ما صار من الثوابت في المشهد السوري- خاصة حين نكون نحن وبلدنا ودماؤنا وقضيتنا ومستقبلنا أوراق الضغط تلك… إلا أن قساوة هذا المشهد غير الجديد على السوريين يجب ألا تلفتنا عن حقيقة واحدة؛ وهي أن لا حل لمأساتنا سوى ما يمكن أن ننتجه نحن من حلول تنموية استراتيجية، والتفكير بالحلول الممكنة قبل دنو الكارثة الإنسانية ونحن على أبوابها، الأمر الذي لن يكون سهلاً بالتأكيد في ظل الظروف الحالية الصعبة وشبه الحصار المفروض على كثير من المناطق وقلة الإمكانيات والظروف غير المستقرة، لكنه الحل واجب التطبيق حتى نتخلص من التبعية للقرار الدولي المتقلب حسب المصالح والسياسات المرحلية، مع استمرار التحشيد الدولي لقضيتنا بالطبع، والسعي لتقويض مساعي النظام بأن يعود بعد جرائمه المرتكبة على اتساع الجغرافيا السورية وصياً على حقوقٍ وأموالٍ لم يعطها يوماً للشعب يومَ كان تحت حكمه فكيف يعطيها لمن قاومه وخرج عليه!
المصدر: السورية نت