الثلاثاء, 28 كانون2/يناير 2020 13:57

الانتخابات في سورية.. بين الحق والمَكرُمة (1)

"بمجرد أن أحصل على جنسية هذا البلد سأنتخب للمرة الأولى في حياتي" هكذا أجاب شاب سوري في الثلاثينات من عمره خلال مقابلة اللجوء في أحد البلدان الأوروبية. ففي حين توصف عملية الانتخاب بأنها حق المواطن في اختيار من يمثله سياسياً وينوب عنه في إدارة دولته سواء من خلال الانتخابات على المستوى المحلي (الانتخابات المحلية) أو على المستوى التشريعي (انتخابات مجلس الشعب) أو على المستوى الوطني متمثلاً برئاسة الدولة، فإن ذلك الحق يتحوّل إلى حلم بعيد المنال بالنسبة للمواطن من جهة، وإلى أداةٍ صوريّة تتلاعب بها الأنظمة الديكتاتورية في مشاهدٍ هزلية غايتها الاستمرار في الاستحواذ على الحكم بشكل كامل دون أي منازع من جهة أخرى.

عمل حافظ الأسد بعد انقلاب حزب البعث وقبل تسلمه السلطة عام 1973 على تأسيس نموذج استبدادي مُحكم، تمثّل بمنظومة تشريعية متكاملة من القوانين والأنظمة التي كرّسها دستور 1973، ولم يتوقّف عند المنظومة المؤسساتية كأداة تنفيذيّة كانت تعكس فساد وتلاعب السلطة المهيمنة على الحكم لعقود.

وعند تناول الحالة السورية كمثال، نجد أن السوريين قد حُرِموا فعلياً من حق الانتخاب لمدة واحد وخمسين عاماً بشكل مقونن في ظلّ حكم عائلة الأسد. فمنذ أن استولى حزب البعث على الحكم عام 1963 لم تجري أية انتخابات تشريعية لمدة عشر سنوات، ليحوّل بعد ذلك نظام الأسد عملية انتخاب السلطة التشريعية إلى استحواذٍ لحزب البعث متمثلاً بالجبهة الوطنية التقدمية على الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان لمدة أربعين سنة، كما حوّل عملية انتخاب السلطة الرئاسية إلى مجرد استفتاء صوري على من تختاره القيادة القطرية لحزب البعث، بنتائج تراوحت نسبة "نعم" فيها من 97% إلى 100% على مدى الاستفتاءات التي جرت خلال واحد وأربعين سنة. أما الانتخابات المحلية فأُفرِغَت من محتواها بشكل مطلق على مدى ما يقارب خمسة عقود، حين نصّ قانون الإدارة المحلية رقم 15 لعام 1971 على تعيين المحافظ واعتباره من السلطة التنفيذية بدل انتخابه من السكان المحليين، وأحال كل ما يتعلق بهذه الانتخابات إلى القانون بدلاً من ضمانتها دستورياً.

على مرّ كل تلك السنوات، يظهر جليّاً لكل من عمل لدى الدولة السورية في عهد "الجمهورية الثانية" ــكما يطلق على الفترة التي بدأت بانقلاب حزب البعث على السلطةـــ حرص النظام الحاكم على "التخريج القانوني" لكل ما يقوم به من قولٍ أو فعل، على الرغم من كل الانتهاكات الحقوقية والفظائع الإنسانية التي ارتكبها ولا زال يرتكبها حتى اليوم بحقّ الشعب السوري، مهما شاب ذلك التخريج من عيوب شكلية وموضوعية. وهنا يبرز التساؤل الجوهري حول ماهية المنظومة القانونية والتشريعية التي استطاع النظام في سورية أن يسخرها لتحقيق أغراضه وبقائه في الحكم حتى اليوم. إضافةً إلى التساؤل الأهم فيما يخصّ مسألة الانتخابات من حيث مدى أهميتها بل وجدواها في ظلّ الوضع السوري الراهن. حيث يسعى النظام الحاكم إلى الاستمرار في استخدامها كأداة صورية لشرعنة سلطته، في ظل قلة حيلة الشعب وضعف وعيه العام بأهمية العملية الانتخابية وجدواها، وعجز المجتمع الدولي عن فرض صيغة سياسية للحل تجرد النظام من هذه الأداة وتضعه أمام انتخابات حرة ونزيهة تعكس الإرادة الحقيقة لكل مكونات الشعب السوري.

تهدف هذه السلسلة من المقالات إلى معاينة "هندسة" النظام الانتخابي السوري في ظل نظام الأسد، وكيف تم تصميمه من الناحية القانونية والتقنية بما يحقق الاستحواذ الكامل على الحكم بسلطاته الرئاسية والتشريعية فضلاً عن المحلية. وذلك من خلال تسليط الضوء على العناصر القانونية والدستورية التي تحكم العملية الانتخابية وتؤثر على نتائجها وجدواها، إضافةً إلى بعض الملاحظات الواجب مراعاتها في أي عملية سياسية للحل في سورية تفادياً لتكرار ما حدث عشية 1973، وبما يضمن الوصول إلى تمثيل ديمقراطي حقيقي للشعب في سلطات الحكم. خصوصاً مع تجهيز نظام الحكم الحالي للانتخابات التشريعية هذا العام، والانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في العام القادم (2021)، وأخيراً الانتخابات المحلية في حال إجراءها كما هو مقرر لها قانوناً (عام 2022).

يلاحَظ في تصميم دستور 1973 التناقض المتعمّد بالنصّ على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع (المنصوص عليه في المادة الثامنة) ومن ثمّ منح "مجالس الشعب" كمؤسسات ينتخبها المواطنون ديمقراطياً حقّ إدارة الدولة والمجتمع (المنصوص عليه في المادة العاشرة)، لتظهر "الجبهة الوطنية التقدمية" المنصوص عليها في المادة الثامنة كموحدة لطاقات الشعب بمثابة حلّ لذلك التناقض ظاهرياً، رغم أنها تفرغ المادة العاشرة كلياً من محتواها بوضع تلك الجبهة تحت قيادة حزب البعث.  إلا أن ما يحلّ التناقض بشكل حقيقي هو معرفة أن حزب البعث آنذاك كان تحت قيادة حافظ الأسد الذي سيصبح رئيساً في الخطوة اللاحقة، مما يفسّر "تفصيل" الدستور السوري على شخصه تماماً في تلك الفترة.

في حين أن دستور 1973 يجعل رئيس الجمهورية مقترحاً من قيادة حزب البعث بدلاً من انتخابه من الشعب، فإن هذا الرئيس يتمتع بموجب الدستور بسيطرة مُحكمة ومباشرة على كلٍ من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، دون أن يكون بدوره مسؤولاً أمام أحد.

وفي محاولة لفهم المقصود بإدارة الدولة والمجتمع، يوضّح الباب الثاني من الدستور سلطات الدولة (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، ويمنح في المادة الخمسين منه "مجلس الشعب" المنتخب بشكل مباشر من الشعب سلطة التشريع (إقرار القوانين، إقرار المعاهدات والاتفاقيات، إقرار العفو العام، إقرار الموازنة العامة)، إضافةً لاختصاصه بترشيح رئيس الجمهورية وبإمكانية حجب الثقة عن الحكومة، مع حظر الحدّ من "وكالة" ممثلي الشعب بأي قيد، على أن يكون نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين. ثم يحيل كل ما عدا ذلك من أحكام تتعلق بالعملية الانتخابية إلى القانون، بما في ذلك شروط ممارسة حق الانتخاب. وبينما يفرض الدستور على المجلس وضع نظامه الداخلي، لا يجعل من مجلس الشعب مسؤولاً أمام أي جهة، سواءً عن مدى التزامه بالنظام الداخلي أو من حيث تقييم أداء أعضاء المجلس ورئيسه ومدى تمثيلهم الحقيقي لإرادة الشعب.

أما السلطة التنفيذية فيمنحها الدستور بموجب المادة الثالثة والتسعين إلى رئيس الجمهورية ليمارسها "نيابة" عن الشعب، وبعد أن كان قد نصّ في المادة الواحدة والسبعين على ترشيح رئيس الجمهورية من قبل مجلس الشعب، يستدرك في المادة الرابعة والثمانين ليجعل ذلك الترشيح مبني على اقتراح قيادة حزب البعث يُعرض على المواطنين للاستفتاء. كما يجعل الدستور من مجلس الوزراء "هيئة تنفيذية وإدارية" ومن مجالس الشعب المحلية "هيئات" تمارس سلطاتها في الوحدات الإدارية وفق القانون الذي يحدد كل ما يتعلق بانتخابها وعملها. وفي حين يمنح الدستور رئيس الجمهورية ـــ غير المنتخب فعلياًـــ كلاً من السلطة التنفيذية ورئاسة السلطة القضائية وسلطة التشريع ـــ التي كان قد منحها لمجلس الشعب قبل ذلك ـــ مع تخويله حق حلّ مجلس الشعب، عدا عن الصلاحيات الأخرى غير المحدودة ومنها رئاسة الجيش والقوات المسلحة، فإنه ورغم كل ذلك يعفيه من أي رقابة على سلطته أو تقييم لأدائه من قبل أي جهة وتجاه أي فعل باستثناء حالة الخيانة العظمى التي لم يعرّفها أي من الدستور أو القانون.

لعبت صياغة دستور 1973 من حيث اختيار المصطلحات دوراً أساسياً في التكريس الدستوري لأدوات الاستبداد التي قامت عليها كل المنظومة القانونية في سورية خلال حكم البعث.

وبالنتيجة، فإن دستور 1973 المليء بالتناقضات، وصف الدولة السورية بأنها ديمقراطية شعبية في مادته الأولى، لينص تالياً على أنها محكومة بقائدٍ أوحد يقترحه الحزب الأوحد دون أن ينتخبه أحد أو يسأله عمّا يفعل. وكما يتضّح من صياغة الدستور، فقد استُخدِمت المصطلحات بشكل مُحكم بما يلتف على الاستبداد من جهة، وبما يحقق السيطرة الكاملة على الحكم من جهة أخرى، ومن الأمثلة على ذلك أنه نصّ على "إدارة الدولة والمجتمع" من قبل المجالس المنتخبة في حين نصّ على "قيادة الدولة والمجتمع" من قبل حزب البعث. كذلك وصف مهمة عضو مجلس الشعب المنتخب "بوكالة تمثيل الشعب" التي يصطلح الفقهاء على اعتبارها ـأي الوكالةـــ عقداً تترتب عليه التزامات متبادلة، وبالمقابل وصف مهمة رئيس الجمهورية "بالنيابة عن الشعب" والتي يصطلح الفقهاء على اعتبارها ـأي النيابةـــ تخويل النائب بالحلول محل الأصيل في كافة الحقوق وآثارها. كما استخدم الدستور اختصاص "ترشيح رئيس الجمهورية" من قبل مجلس الشعب، ليستخدم لاحقاً اختصاص "اقتراح رئيس الجمهورية" من قبل قيادة حزب البعث، في محاولة لإخفاء التناقضات التي احتواها الدستور في هذا الخصوص، فضلاً عن التناقضات التي سنعرض لها لاحقاً فيما يخص كل سلطة من سلطات الحكم على حدى، منذ تولي نظام الأسد السلطة وحتى اليوم.

 

التصنيف مقالات الرأي