الثلاثاء, 04 كانون2/يناير 2022 14:48

ديكتاتور سوريا "القانوني"

أدَّت الأحداث المستمرة في سوريا منذ عام 2011 إلى خلق حالة من التشظي في القطاع الدفاعي وانهيار حدود الدولة، رافق ذلك نشوء جماعات راديكالية وميليشيات طائفية عابرة للحدود، بالإضافة إلى انقسام المجتمع بالتوازي مع وضع إنساني متردي، وتهجير أكثر من 10 ملايين إنسان داخليًّا وخارجيًّا نتيجة عمليات النظام العسكرية، وقد قاد ذلك في نهاية الأمر إلى ضياع السيادة الوطنية تحت الضغوط الخارجية والتنازلات التي تمَّ تقديمها من قِبَل قيادة النظام لكلٍّ من روسيا وإيران في صالح بقائها في سدَّة الحكم.

على الرغم من الأحداث الجسام التي مرت بها سوريا، والتي كان القطاع الدفاعي فيها هو الأكثر نشاطًا وإن اختلفت فعاليته، فإن المؤسسات المدنية قد بقيت ضمن حدود تدخلاتها الدنيا كما هو الحال قبل عام 2011، في مقابل صلاحيات كبرى ممنوحة دستوريًّا لرئيس الجمهورية، حيث فشلت هذه المؤسسات في الحفاظ على سوريا “البلد” خلف “القيادة الحكيمة” كما تدَّعي، في مقابل نجاحها في دعم نظام الحكم القائم.

مع العلم أن بشار الأسد لديه -أسوةً بأبيه من قبله- صلاحيات دستورية وقانونية واسعة في مختلف قطاعات الدولة (المدنية والعسكرية)، وقد أسهمت هذه الصلاحيات في تمكُّنه من التحكُّم بالدولة كيف شاء، ووطَّدت في الوقت ذاته ديكتاتورية النظام القائمة أساسًا على الرعب والخوف.

لن نتحدَّث هنا عن جرائم النظام في حق الشعب السوري، فهي معروفة للجميع، بل سنسلِّط الضوء قليلًا على بعض الأدوات الدستورية والقانونية المتعلِّقة بالقطاع الدفاعي التي يستخدمها نظام الأسد في توطيد ديكتاتوريته.

 الدستور

 

في عام 2012، تمَّ إقرار دستور جديد وُضِعت مواده على أساس الدستور السابق 1974، وذلك ضمن حزمة “إصلاحات” مفترضة كان من شأنها تخفيف حالة الاحتقان الشعبي، إلا أن الدستور الذي جاء في ست عشرة صفحة وبمواد مقتضبة، لم يتأخر فحسب، بل لم يلبِّ مطالب الشعب السوري التي وصلت إلى حدِّ المطالبة بإسقاط النظام ورموزه، فقد تطوَّرت الأمور مع الوقت إلى مواجهة مسلحة بين قوات النظام والشعب السوري، وذلك بالتزامن مع حالات انشقاق في صفوف الجيش والشرطة.

لقد منح دستور 2012 رئيسَ الجمهورية صلاحياتٍ واسعة في السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) قوَّضت الطموح إلى الوصول لدولة مؤسسات، خاصةً أن الدستور لم يذهب عميقًا في تفصيل مواده، مما سمح بإفساح المجال أمام مشرعي “النظام” لتفسير تلك المواد بالطريقة التي تناسب احتياجاتهم ورغباتهم، وأسندت أهم قطاعات الدولة إلى قوانين كان يتمُّ استصدارها بمراسيم تشريعية من رئيس الجمهورية بناءً على صلاحياته التشريعية.

وقد نصَّ الدستور على أن رئيس الجمهورية هو القائد العام للجيش والقوات المسلحة، كما منحه سلطة إعلان الحرب والتعبئة العامة وعقد الصلح بعد موافقة مجلس الشعب، أما في حالة الطوارئ فقد منحه سلطة إعلانها أو إلغائها عبر مرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء المنعقد برئاسته، كما منحه حقَّ تعيين الموظفين المدنيين والعسكريين وإنهاء خدماتهم.

يضاف إلى ذلك عدد كبير من المواد الدستورية الأخرى التي تمنح الأسد صلاحياتٍ مطلقة تمكِّنه من إدارة الدولة بالشكل الذي يريده.

قانون الخدمة العسكرية

 

وهو القانون الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 18 لعام 2003 وتعديلاته. يُنظم القانون المسائل المتعلِّقة بخدمة العسكريين في الجيش من الضباط وضباط الصف والأفراد المتطوعين، وكذلك شروط الترقية والرواتب والإعارة…إلخ، كما يحدِّد الهيكلية العامة للجيش والقوات المسلحة وتكوينها، ويحدِّد مهام مجلس الدفاع العسكري الذي يرأسه بشار الأسد، التي تتمثَّل في كلٍّ من: العقيدة القتالية، وحجم الجيش وتنظيمه وتمركزه وتسليحه وتجهيزه وتدريبه، ومشاريع القوانين والأنظمة المتعلِّقة بالقوات المسلحة، ودراسة القضايا المهمَّة المتعلِّقة بالجيش والقوات المسلحة، وهذه المهام التي يقوم بها مجلس الدفاع العسكري تلعب دورًا أساسيًّا في تكوين ماهية الجيش وأساس وجوده وفعاليته وهدفه، وبقيت حكرًا على العسكريين فقط دون أن يكون هناك أيُّ دور أو تمثيل مدني.

وقد منح القانون أيضًا للقائد العام سلطةَ إنشاء أو إلغاء أو تنظيم أو تعديل أجهزة القيادة العامة وتحديد سلطاتها واختصاصاتها وأملاكها، وذلك دون الرجوع لأحد، سواء من القيادة العامة أو حتى من خارجها، كما للقائد العام الحق في تعيين الوظائف الكبرى في الجيش، كنواب القائد العام ورئيس هيئة أركان الجيش والقوات المسلحة، بناءً عن مرسوم صادر عنه.

بشكل عام، لقد عزَّز هذا القانون السلطةَ العسكرية المطلقة داخل المؤسسة العسكرية بعيدًا عن أيِّ تدخل من قِبَل المؤسسات المدنية في كيفية إدارة القطاع الدفاعي أو تشكيله في سوريا.

قانون خدمة العَلم

 

وهو القانون الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 30 لعام 2007 وتعديلاته، ويتضمَّن هذا القانون الأحكام والقواعد والنُّظم الخاصة بخدمة العلم الإلزامية والاحتياطية والواجبات والحقوق في الجيش، وخصَّ القائد العام نفسه بعدد من الصلاحيات، مع تفويض بعضها للقيادة العامة، وأجاز القانون للقائد العام بمرسوم يصدر عنه إعارة المجندين (المدنيين أصلًا) إلى إحدى الجهات الحكومية العربية والأجنبية، دون العودة إلى أحد، وغيرها الكثير من المواد التي تسمح له بالتحكُّم في كل شيء.

على صعيد آخر، عانى القانون في بعض مواده من ثغراتٍ فتحت الباب أمام شبكات فساد من أعلى المستويات إلى أدناها، وقد وصل الأمر في النهاية إلى تعديلها بناءً على توجيهات روسية، كما تُركت هذه الشريحة (المجندون الإلزاميون) فريسةً لحاجات قيادة النظام في تغطية النقص البشري الحاصل في الجيش، والتي أبقتهم في الخدمة عدَّة سنوات دون حتى أن يُسمح لمجلس الشعب بالنظر في إمكانية إنهاء خدمتهم العسكرية، مع العلم أن الخدمة الإلزامية يُفترض أن تكون مدَّتُها 18 شهرًا بعد أن كانت 24 شهرًا، بناءً على المرسوم التشريعي رقم 35 بتاريخ 19 آذار/ مارس 2011 الذي حاول به بشار الأسد استمالة المُكلَّفين بالخدمة العسكرية بعد بدء الأحداث في سوريا بعدَّة أيام فقط.

وبشكل عام، يلاحظ في قانون خدمة العلم غياب أُطر المراقبة البرلمانية من قِبَل مجلس الشعب على سير وتنظيم عملية خدمة العلم، واقتصار عمل لجنة الأمن الوطني في مجلس الشعب على إجراء لقاءات ومناقشة أمور بعيدة عن جوهر عملها الذي يُفترض بها أن تقوم به.

العلاقة مع المؤسسات المدنية

 

يملك مجلس الشعب -بحسب نظامه الداخلي– حقَّ التصديق على مشروعات المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي أبرمها أو التي عقدها مجلس الوزراء والتي تتعلَّق بسلامة الدولة، وهي معاهدات الصلح والتحالف وجميع المعاهدات التي تتعلَّق بحقوق السيادة (المادة 163)، وللمجلس الموافقة عليها أو رفضها (المادة 164).

للوهلة الأولى، يبدو فعلًا أن مجلس الشعب ومجلس الوزراء يملكان صلاحياتٍ جيدة تمكِّنهما من إدارة أهم الخطوات بما يتعلَّق بالقطاع الدفاعي، إلا أن الشياطين تكْمُن في التفاصيل، خاصةً أن كافة قوانين القطاع الدفاعي قد صدرت بمراسيم تشريعية ولم تصدر عن مجلس الشعب أساسًا، حيث منحت تلك القوانين صلاحياتٍ مطلقة للقائد العام، وضيَّقت المجال أمام علاقات مدنية عسكرية متوازنة.

خاتمة

تنسحب صلاحيات الرئيس/ القائد العام على بقية القوانين المتعلِّقة بالقطاع الدفاعي في سوريا، وقد سمحت تلك الصلاحيات الممنوحة له بالتحكُّم في القطاع الدفاعي بالشكل الذي يريده هو لا بالشكل الذي يضمن مصلحة البلاد العليا، ناهيك عن عدم السماح لمجلس الشعب بمناقشة قضايا “أساسية” تتعلَّق بالجيش بشكل خاص وبالقطاع الدفاعي بشكل عام، واقتصرت بعض التعديلات التي قادها مجلس الشعب على تصحيح رتوش في تلك القوانين، أو العمل على مشاريع قوانين من شأنها تعزيز السلطة الحاكمة، والإيهام بأن هذه القوانين قد صدرت فعلًا عن “ممثلي الشعب”.

 

يرتكز بشار الأسد في ديكتاتوريته على عدَّة قطاعات رئيسة هي: عسكرية يتحكَّم بها وموالية له في العصبية الطائفية، ومدنية تعتمد على حزب البعث ومجردة من الصلاحيات، وأمنية قوية تضبط كافة القطاعات الأخرى وتدير عملها. وليس هذا الارتكاز حديث العهد، بل يعود إلى سبعينيات القرن الماضي بعد استيلاء حافظ الأسد على السلطة في عام 1970.

بالرغم مما سبق، يُعَدُّ رئيس الجمهورية -بشار الأسد- بحسب ما نصَّت عليه المادة 117 من الدستور: غيرَ مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى، وتُوجَّه له التهمة عبر مجلس الشعب الذي يسيطر عليه بشكل مطلق، مع العلم أن الخيانة العظمى لم يتم تحديد ما هي، لا في الدستور ولا في أيِّ قانون آخر.

 

المصدر: منتدى الشرق للأبحاث الاستراتيجية؛ https://bit.ly/3sWdhi4

التصنيف مقالات الرأي

ملخص تنفيذي

  • بعد انقطاع دام تسعة أشهر ونيف، ذهب النظام إلى الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية بعد أن أتم استرداد السيطرة الكاملة على درعا ليُنهي فيها الحالة الخاصة التي عاشتها الجبهة الجنوبية وما شكلته من مصدر قلق له، بالإضافة إلى إتمام "استحقاق الانتخابات" الذي أعاد فيه استخدام ذات أدوات التحشيد؛ ناهيك عما أحدثه مشروع خط الغاز العربي في تحسين الأجواء السياسية لنظام الأسد من جهة التطبيع المحدود معه، مما لم تمانعه الولايات المتحدة الأمريكية.
  • في الجولة السادسة لاجتماعات اللجنة الدستورية؛ طرح النظام ورقة متعلقة بالسيادة، أراد من خلالها التأكيد على "الاستعراض السياسي" دون أن يقدم مضموناً دستورياً يعالج الإشكاليات المركبة في الدولة ومؤسساتها. بينما قدم وفد المعارضة مضموناً دستورياً بالغ الأهمية ويتعلق بالجيش والقوات المسلحة والأمن والاستخبارات. إلا أنه لم يلحظ مبادئ العلاقات المدنية الأمنية. في حين قدّم وفد المجتمع المدني ورقة تتعلق بسيادة القانون كانت ملمة بضرورة التوسع بهذا المبدأ وعدم الاعتماد على العموميات.
  • يحكم الاتجاه العام لمسار الدستورية عدة سيناريوهات لا تصب بمجملها في تحقيق الانتقال والتحول الديمقراطي، كالمراوحة بالمكان أو زيادة الزخم دون الوصول لتفاهمات ناجزة. أو -ووفقاً لما تشير له عدة معطيات- مرتبطة بالتطبيع مع النظام؛ فإنه ربما تنجز مقاربة ما دون سياسية للتكيف مع ما أفرزته نتائج المشهد الأمني والعسكري في سورية.
  • من الأهمية بمكان دعم التباحث بين القوى السورية الوطنية لتوسيع مساحات الفعل الممكنة. كصيانة الحوامل الاجتماعية وقضايا العقد الاجتماعي ودعم التنظيمات المدنية والفعاليات السياسية والنقابية؛ وحشد الطاقات لتثبيت مبدأ المحاسبة والعدالة.

 

تمهيد

بعد تعثر متوقع لخمس جولات، اختتمت في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2021 أعمال الجولة السادسة لاجتماعات اللجنة الدستورية السورية في جنيف "بخيبة أمل" حسب وصف المبعوث الدولي جير بيدرسون. وأتت هذه الجولة بعد انقطاع دام تسعة أشهر ونيف؛ تبلورت خلالها سياقات أمنية وسياسية صبت نتائجها في صالح النظام؛ ليطرح مجدداً ذات السؤال مرة أخرى، ما النتيجة؟ وما المخرج المنتظر؟ وما مدى تأثُر وتأثير السياق السياسي والأمني على هذه الاجتماعات؟ وما هي المقترحات المتمخضة عن هذه الجولة وما دلالتها؟

هذا ما ستحاول الإحاطة التحليلية هذه تبيانه، من خلال تثبيت أثر السياقات الأمنية والسياسية المتشكلة على حركية ونتائج العملية الدستورية. بالإضافة إلى توضيح الجدوى السياسية لتلك العملية بمجملها وتفصيلاتها، في محاولة لتلمّس اتجاهاتها العامة وسبل تحسين تموضع الشرط الوطني في هذه العملية.

مخرجات صفرية

بعد تثبيت أن الإشكال في سورية مرتبط بشكل جوهري بالحكم وليس فكرة "مدخل الحل دستوري" -رغم أنه أحد أوجه الإشكال-، فإنه يجدر التأكيد على عادة النظام بعدم ذهابه لأي جولة مفاوضات إلا بعد أن يُضيف لأوراق قوته ورقة أخرى. وقد تجلت ورقة النظام الإضافية في الجولة السادسة باسترداد السيطرة الكاملة على درعا ليُنهي فيها الحالة الخاصة التي عاشتها الجبهة الجنوبية وما شكلته من مصدر قلق له، بالإضافة إلى إتمام "استحقاق الانتخابات" الذي أعاد فيه استخدام ذات أدوات التحشيد؛ ناهيك عما أحدثه مشروع خط الغاز العربي في تحسين الأجواء السياسية لنظام الأسد من جهة التطبيع المحدود معه، مما لم تمانعه الولايات المتحدة الأمريكية.

يمكن ربط أسباب التعثر والاستعصاء إلى جملة من المعطيات، منها ما هو متعلق بعدم رغبة الدول الفاعلة بالانتقال من التوافق الأمني إلى التوافق السياسي وبالتالي جعل منصات التفاوض بمثابة "مسارح استعراض صفرية المخرج"؛ ومنها ما هو مرتبط بالسيولة العارمة التي شهدها التعريف الإجرائي للقرار 2254 والذي تم تحييد العديد من بنوده خلال سير العملية السياسية الأمميةُ لاسيما المادة الرابعة التي اختزلت لصالح لجنة دستورية انبثقت عن مؤتمر سوتشي 30/1/2018. إلا أن الأبرز من هذا وهذاك أن فلسفة عمل النظام لا يمكن أن تتكيف مع أي إصلاح ولو كان متناهي الصغر، حتى في أقصى حالات ضعفه. مما يرجع إلى أن بنية نظام الأسد وشبكاته قائمة على فكرة التحكم بالدولة والمجتمع والمواطن، من خلال سيطرة أمنية تأتي على رأس أولويات تلك البنية. من جهة ثانية؛ فإن اختزال الحل بعملية دستورية هائمة التعريف وغير منضبطة بأجندة متفق عليها، وغير مجدولة زمنياً سيحول دون خروج مسيرة اللجنة الدستورية عمّا خلص إليه مسار جنيف بجولاته العشرة.

يُبين الجدول أدناه الخط الزمني الخاص باللجنة الدستورية وأعمالها والذي يؤكد المخرج الصفري حتى الآن؛ وما يلحظ في هذه الجولة -وإن كانت دون نتائج تذكر- أنه تم طرح مضامين دستورية من وفد المعارضة ووفد المجتمع المدني.

 "مقترحات" لمضامين دستورية: تبايُن بالجدية والمحتوى

بعد سجالات طويلة في الجولات السابقة حول الأجندة والمواقف السياسية ومنهجية السلوك، وتقديم مقترحات عامة من قبل وفد المعارضة ووفد المجتمع المدني، تم هندسة الجولة السادسة من قبل المبعوث الدولي لطرح مضامين دستورية يمكن أن تمهد لبدء مفاوضات عملية؛ وبطبيعة الحال – كما هو متوقع- لم ينتج عن هذه الجولة أي أثر.

طرح النظام ورقة خاصة متعلقة بالسيادة، ومكونة من ست نقاط تحت عنوان "سيادة الجمهورية العربية السورية واستقلالها ووحدة أراضيها" (انظر الملحق رقم 1). أراد النظام من هذه الورقة التأكيد على "الاستعراض السياسي" دون أن يقدم مضموناً دستورياً من شأنه معالجة الإشكاليات المركبة في الدولة ومؤسساتها، والنظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وبطبيعة الحال لم يخل هذا الاستعراض من التأكيد على رسائل عدة منها: التماهي العضوي بين النظام والدولة من حيث أن سيادة الثانية مرتبطة بالأولى؛ والرفض المطلق لفكرة خروج مناطق عن سيطرة النظام؛ ناهيك عن الرسائل الموجهة لـ"قسد" ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية والتي تحدد وبوضوح رفض التفاوض حول مركزية الدولة/ النظام واحتكار القوة والموارد؛ كما تمسك وفد النظام بشعارات "العروبة" في رسالة يغازل فيها بعض الدول العربية التي تُهندس عودته للمظلة العربية.

أما بالنسبة لورقة وفد المعارضة فقد طرحت مضموناً دستورياً متعلقاً بالجيش والقوات المسلحة والأمن والاستخبارات. ولهذا المضمون أهمية خاصة (انظر الملحق رقم 2)؛ فلطالما غابت المحددات الناظمة لعمل أجهزة الأمن والدفاع عن المبادئ الدستورية باستثناء العبارات العامة الخالية من أي وزن قانوني، مما جعل ممارساتها وسياساتها خاضعة لرؤية النظام بشكل مطلق؛ حتى أن المرسوم الجمهوري المتعلق بإحداث المخابرات العامة أتى في ظل حالة الطوارئ ولم ينشر في الصحف والإعلام وكذلك القوانين واللوائح الناظمة لعمل الجيش. فباستثناء المراسيم المتعلقة بالخدمة العسكرية والرواتب والزيادات فإنه لا يوجد أي محدد قانون واضح لعملها – غير التقني والفني – لا سيما في علاقتها مع المؤسسات المدنية وأدوارها الوظيفية داخل الدولة.

وعلى الرغم من أهمية تعريف أدوار تلك المؤسسات، إلا أنه غاب عن هذا المضمون عدة أمور لا يمكن تأجيلها لقوانين لاحقة، بل ينبغي أن تكون واضحة وغير قابلة للتفسيرات المتعددة درءاً لاستخدام تلك التفسيرات من قبل مشرّع النظام بما يؤدي إلى تغييرات صورية ليس إلا، وهذه الأمور هي:

  • تبعية المؤسسة العسكرية والأمنية لسلطة مدنية منتخبة (مثلاً الوزير مدني)؛
  • التأسيس المعمق لمبدأ العلاقات المدنية الأمنية، وخضوع المؤسسة الأمنية والعسكرية للمراقبة والمحاسبة؛
  • صياغة الاستراتيجيات الأمنية العامة لا سيما المهددات بما يضمن المشاركة المحلية؛
  • إنهاء التحزب السياسي داخل مؤسسة الجيش وما يستلزمه ذلك من تغييرات في شروط الانتساب؛
  • إعادة هيكلة الأمن عبر إنشاء جهاز الأمن الوطني وتتبيعه لسلطة مدنية؛
  • إعادة هيكلة الجيش بما يؤسس لجيش وطني غير حزبي، وهو ما يستدعي فك الارتباط المؤسساتي والقانوني والسياسي بين حزب البعث والجيش من جهة، وإنهاء سياسة احتكار مراكز القوة والتأثير في الجيش لصالح شبكات النظام ومواليه من جهة أخرى.

من جهته قدم وفد المجتمع المدني ورقة تتعلق بسيادة القانون. مما كان بمثابة إشارة مهمة للتمايز عن مفهوم السيادة الذي أراده النظام أن ينحصر فيه (انظر الملحق رقم 3). وأتت الورقة ملمة بضرورة التوسع بهذا المبدأ وعدم الاعتماد على العموميات، -إذ تم تفصيلها في (15 نقطة)- كما كانت متيقظة لأي محاولة تفسيرية تصادر الحق القانوني عبر إلغاء التحصينات الفردية. وربما كان من الأفضل لهذه الورقة أن تركز أيضاً على مراجعة كافة القوانين والإجراءات التي تضمن إنهاء مفاعيل المادة الثامنة (مبدأ الحزب القائد للدولة والمجتمع)، مع التأكيد على إعادة صياغة القوانين المعنية بعمل الأجهزة الأمنية والجيش في البرلمان ودسترتها.

متلازمتي التجميد والسيولة

يحكم الاتجاه العام لمسار الدستورية مجموعة من المحددات المرتبطة بمتغيرات ثلاث: حركية المسار؛ وخارطة الفواعل الدولية؛ والسياق السياسي والأمني. ووفقاً لذلك يمكن رسم عدة سيناريوهات لا تصب بمجملها في تحقيق الانتقال والتحول الديمقراطي، مما بدوره يعلي ضرورة التباحث بين القوى السورية الوطنية.

  1. المراوحة بالمكان: جنيف كمسرح استعراض للنظام

وهو سيناريو مرجح إذ يدعمه ثلاثة مؤشرات: أولها الحركة غير المنتجة لمسار العملية الدستورية والتي تعتمد مبدأ عقد الجولة دون إلزام بالتفاعل والإنتاج؛ وثانيها عدم وضوح مناخات التلاقي السياسي بين الفواعل الدولية، وبمعنى آخر عدم توفر الإرادة الدولية التي تترجم التفاهمات الأمنية المؤقتة إلى اتفاق سياسي مستدام، أما المؤشر الثالث فيتعلق بالانزياحات السياسية التي يفرزها منطق "تجميد الصراع"، كالاستثناءات الأمريكية في موضوع العقوبات أو تحسين التموضع السياسي للنظام من خلال المظلة العربية؛ أو تلك المتعلقة بالمشهد الأمني وترتيباته شرق النهر وغربه والتي تتعزز بها أوراق روسيا التفاوضية.

  1. تفاصيل جديدة دون الوصول لتفاهمات ناجزة

على الرغم من إشارات المبعوث الدولي غير المتفائلة بإحراز أي تقدم؛ إلا أنه لا يمكن إغفال بعض المتغيرات التي تضغط على النظام للانخراط بجدية بالمحادثات الدستورية عبر أطروحات تفصيلية. ومن هذه المتغيرات الضغط الروسي الذي يحرص على تحصيل هذا الانخراط من أجل مكاسب سياسية ما في شرق النهر أو غربه؛ أو بهدف تعزيز "مقاربة شرعنة وتعويم الأسد"، وهنا قد تكون مقاربة النظام قائمة على مجموعة ركائز (مستمدة من تصريحاته المستمرة) نذكر منها:

  • أن ما يقدم هي مقترحات دستورية تعالج ضمن الأطر القانونية والدستورية "للدولة السورية"؛
  • أن يتم الدفع باتجاه نقاشات دستورية لا تقترب من منظومة التحكم والتأثير؛
  • أن يتم التأكيد على مركزية دمشق كمرجعية لهذه الأطروحات الدستورية؛
  • ألا يتحدد المسار بجدول زمني وأن تبقى الأمور مفتوحة.

 

  1. "مقاربة ما" تؤخر "السياسي" لصالح ما دونه

يُنبئ مسار العملية السياسية وتحولاته بارتباطه بمسارات رديفة تؤثر على منهجية العمل، كمسار أستانا الذي نقل العملية السياسية من سلال أربع إلى لجنة دستورية، ومما يشجع مرة أخرى على وجود هكذا مسار (أو ربما مقاربة) هو الموقف الأمريكي غير المكترث بدفع الملف السوري للأمام. فموسكو ومن خلفها طهران سيعملان على استثمار أطروحات البحث عن مقاربات ما دون سياسية كتلك التي تمت في إطار "خط الغاز العربي" أو التي ستتم عبر الدعم الإنساني وجهودات المجتمع الإقليمي والدولي لتعزيز أطر "العودة الطوعية". وكذلك من المقاربات المتوقعة تفعيل مسار عربي يخفف من عزلة الأسد من بوابات اقتصادية وأمنية معينة مقابل إعطاء زخم شكلاني لمسار العملية السياسية الذي يتفق الجميع على أنه دخل في نفق مظلم.

ختاماً

يمكن القول أنه في ظل السياق أعلاه، لا تنذر المعطيات المتشكلة بحدوث "انفراجات" محتملة بمسيرة العملية السياسية ومتطلبات التغيير السياسي في سورية وما يستلزمه من انتقال وتحول ديمقراطي، فاجتماعات اللجنة الدستورية لن تفضي لمخرج يحقق ما تضمنته القرارات الدولية، طالما أن الإلزام الدولي غائب من جهة، وتنخرط بسياقات سياسية وأمنية تزيد سيولة العملية السياسية وتجعلها متعلقة بمعالجة النتائج لا الأسباب من جهة ثانية.

هذا يعيد ضرورة التركيز مجدداً على أسئلة الفعل السوري الوطني وضرورة توسيع مساحاته الممكنة. كصيانة الحوامل الاجتماعية وقضايا العقد الاجتماعي؛ وإنتاج مقاربات لطبيعة الحكم المستقبلي في سورية؛ ناهيك عن دعم التنظيمات المدنية والفعاليات النقابية؛ وحشد الطاقات بكل المستويات لتثبيت مبدأ المحاسبة والعدالة.

الملاحق

أولا: ملحق رقم (1) ورقة السيادة التي طرحها وفد النظام في جنيف في الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية

  • الجمهورية العربية السورية دولة مستقلة ذات سيادة تامة، لا تقبل التدخل في شؤونها الداخلية بأي شكل كان، وهي موحدة أرضا وشعبا وغير قابلة للتجزئة، ولا يجوز التنازل عن أي جزء منها.
  • تعد أي مشاريع أو توجهات انفصالية أو شبه انفصالية مهما كانت صيغتها مناقضة لمبدأ وحدة الأراضي السورية، ومخالفة لإرادة الشعب السوري، وينظم قانون الإدارة المحلية سلطات وصلاحيات مجالس الوحدات الإدارية.
  • للدولة السورية الحق الحصري في السيادة الكاملة على مجموع الإمكانات والموارد الطبيعية والثروات الباطنية في أراضيها كافة، وفي إدارتها والإشراف على استثمارها.
  • الجمهورية العربية السورية جزء من الوطن العربي، وتعتز بانتمائها العربي، وتعمل على دعم وتعزيز التعاون والتضامن العربي بهدف تحقيق وحدة الأمة العربية."
  • تسعى الجمهورية العربية السورية لتحقيق السلم والأمن الدوليين في ظل احترام القانون الدولي وقيم الحق والعدالة."

ثانياً: ملحق رقم (2) الورقة التي تقدمت بها المعارضة في الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية

 

ثالثاً: ملحق رقم (3) ويبين الورقة التي قدمها وفد المجتمع المدني في الجولة السادسة من اجتماعات اللجنة الدستورية.

 

التصنيف تقدير الموقف
الثلاثاء, 28 كانون2/يناير 2020 13:57

الانتخابات في سورية.. بين الحق والمَكرُمة (1)

"بمجرد أن أحصل على جنسية هذا البلد سأنتخب للمرة الأولى في حياتي" هكذا أجاب شاب سوري في الثلاثينات من عمره خلال مقابلة اللجوء في أحد البلدان الأوروبية. ففي حين توصف عملية الانتخاب بأنها حق المواطن في اختيار من يمثله سياسياً وينوب عنه في إدارة دولته سواء من خلال الانتخابات على المستوى المحلي (الانتخابات المحلية) أو على المستوى التشريعي (انتخابات مجلس الشعب) أو على المستوى الوطني متمثلاً برئاسة الدولة، فإن ذلك الحق يتحوّل إلى حلم بعيد المنال بالنسبة للمواطن من جهة، وإلى أداةٍ صوريّة تتلاعب بها الأنظمة الديكتاتورية في مشاهدٍ هزلية غايتها الاستمرار في الاستحواذ على الحكم بشكل كامل دون أي منازع من جهة أخرى.

عمل حافظ الأسد بعد انقلاب حزب البعث وقبل تسلمه السلطة عام 1973 على تأسيس نموذج استبدادي مُحكم، تمثّل بمنظومة تشريعية متكاملة من القوانين والأنظمة التي كرّسها دستور 1973، ولم يتوقّف عند المنظومة المؤسساتية كأداة تنفيذيّة كانت تعكس فساد وتلاعب السلطة المهيمنة على الحكم لعقود.

وعند تناول الحالة السورية كمثال، نجد أن السوريين قد حُرِموا فعلياً من حق الانتخاب لمدة واحد وخمسين عاماً بشكل مقونن في ظلّ حكم عائلة الأسد. فمنذ أن استولى حزب البعث على الحكم عام 1963 لم تجري أية انتخابات تشريعية لمدة عشر سنوات، ليحوّل بعد ذلك نظام الأسد عملية انتخاب السلطة التشريعية إلى استحواذٍ لحزب البعث متمثلاً بالجبهة الوطنية التقدمية على الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان لمدة أربعين سنة، كما حوّل عملية انتخاب السلطة الرئاسية إلى مجرد استفتاء صوري على من تختاره القيادة القطرية لحزب البعث، بنتائج تراوحت نسبة "نعم" فيها من 97% إلى 100% على مدى الاستفتاءات التي جرت خلال واحد وأربعين سنة. أما الانتخابات المحلية فأُفرِغَت من محتواها بشكل مطلق على مدى ما يقارب خمسة عقود، حين نصّ قانون الإدارة المحلية رقم 15 لعام 1971 على تعيين المحافظ واعتباره من السلطة التنفيذية بدل انتخابه من السكان المحليين، وأحال كل ما يتعلق بهذه الانتخابات إلى القانون بدلاً من ضمانتها دستورياً.

على مرّ كل تلك السنوات، يظهر جليّاً لكل من عمل لدى الدولة السورية في عهد "الجمهورية الثانية" ــكما يطلق على الفترة التي بدأت بانقلاب حزب البعث على السلطةـــ حرص النظام الحاكم على "التخريج القانوني" لكل ما يقوم به من قولٍ أو فعل، على الرغم من كل الانتهاكات الحقوقية والفظائع الإنسانية التي ارتكبها ولا زال يرتكبها حتى اليوم بحقّ الشعب السوري، مهما شاب ذلك التخريج من عيوب شكلية وموضوعية. وهنا يبرز التساؤل الجوهري حول ماهية المنظومة القانونية والتشريعية التي استطاع النظام في سورية أن يسخرها لتحقيق أغراضه وبقائه في الحكم حتى اليوم. إضافةً إلى التساؤل الأهم فيما يخصّ مسألة الانتخابات من حيث مدى أهميتها بل وجدواها في ظلّ الوضع السوري الراهن. حيث يسعى النظام الحاكم إلى الاستمرار في استخدامها كأداة صورية لشرعنة سلطته، في ظل قلة حيلة الشعب وضعف وعيه العام بأهمية العملية الانتخابية وجدواها، وعجز المجتمع الدولي عن فرض صيغة سياسية للحل تجرد النظام من هذه الأداة وتضعه أمام انتخابات حرة ونزيهة تعكس الإرادة الحقيقة لكل مكونات الشعب السوري.

تهدف هذه السلسلة من المقالات إلى معاينة "هندسة" النظام الانتخابي السوري في ظل نظام الأسد، وكيف تم تصميمه من الناحية القانونية والتقنية بما يحقق الاستحواذ الكامل على الحكم بسلطاته الرئاسية والتشريعية فضلاً عن المحلية. وذلك من خلال تسليط الضوء على العناصر القانونية والدستورية التي تحكم العملية الانتخابية وتؤثر على نتائجها وجدواها، إضافةً إلى بعض الملاحظات الواجب مراعاتها في أي عملية سياسية للحل في سورية تفادياً لتكرار ما حدث عشية 1973، وبما يضمن الوصول إلى تمثيل ديمقراطي حقيقي للشعب في سلطات الحكم. خصوصاً مع تجهيز نظام الحكم الحالي للانتخابات التشريعية هذا العام، والانتخابات الرئاسية المزمع عقدها في العام القادم (2021)، وأخيراً الانتخابات المحلية في حال إجراءها كما هو مقرر لها قانوناً (عام 2022).

يلاحَظ في تصميم دستور 1973 التناقض المتعمّد بالنصّ على قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع (المنصوص عليه في المادة الثامنة) ومن ثمّ منح "مجالس الشعب" كمؤسسات ينتخبها المواطنون ديمقراطياً حقّ إدارة الدولة والمجتمع (المنصوص عليه في المادة العاشرة)، لتظهر "الجبهة الوطنية التقدمية" المنصوص عليها في المادة الثامنة كموحدة لطاقات الشعب بمثابة حلّ لذلك التناقض ظاهرياً، رغم أنها تفرغ المادة العاشرة كلياً من محتواها بوضع تلك الجبهة تحت قيادة حزب البعث.  إلا أن ما يحلّ التناقض بشكل حقيقي هو معرفة أن حزب البعث آنذاك كان تحت قيادة حافظ الأسد الذي سيصبح رئيساً في الخطوة اللاحقة، مما يفسّر "تفصيل" الدستور السوري على شخصه تماماً في تلك الفترة.

في حين أن دستور 1973 يجعل رئيس الجمهورية مقترحاً من قيادة حزب البعث بدلاً من انتخابه من الشعب، فإن هذا الرئيس يتمتع بموجب الدستور بسيطرة مُحكمة ومباشرة على كلٍ من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، دون أن يكون بدوره مسؤولاً أمام أحد.

وفي محاولة لفهم المقصود بإدارة الدولة والمجتمع، يوضّح الباب الثاني من الدستور سلطات الدولة (التشريعية، التنفيذية، القضائية)، ويمنح في المادة الخمسين منه "مجلس الشعب" المنتخب بشكل مباشر من الشعب سلطة التشريع (إقرار القوانين، إقرار المعاهدات والاتفاقيات، إقرار العفو العام، إقرار الموازنة العامة)، إضافةً لاختصاصه بترشيح رئيس الجمهورية وبإمكانية حجب الثقة عن الحكومة، مع حظر الحدّ من "وكالة" ممثلي الشعب بأي قيد، على أن يكون نصفهم على الأقل من العمال والفلاحين. ثم يحيل كل ما عدا ذلك من أحكام تتعلق بالعملية الانتخابية إلى القانون، بما في ذلك شروط ممارسة حق الانتخاب. وبينما يفرض الدستور على المجلس وضع نظامه الداخلي، لا يجعل من مجلس الشعب مسؤولاً أمام أي جهة، سواءً عن مدى التزامه بالنظام الداخلي أو من حيث تقييم أداء أعضاء المجلس ورئيسه ومدى تمثيلهم الحقيقي لإرادة الشعب.

أما السلطة التنفيذية فيمنحها الدستور بموجب المادة الثالثة والتسعين إلى رئيس الجمهورية ليمارسها "نيابة" عن الشعب، وبعد أن كان قد نصّ في المادة الواحدة والسبعين على ترشيح رئيس الجمهورية من قبل مجلس الشعب، يستدرك في المادة الرابعة والثمانين ليجعل ذلك الترشيح مبني على اقتراح قيادة حزب البعث يُعرض على المواطنين للاستفتاء. كما يجعل الدستور من مجلس الوزراء "هيئة تنفيذية وإدارية" ومن مجالس الشعب المحلية "هيئات" تمارس سلطاتها في الوحدات الإدارية وفق القانون الذي يحدد كل ما يتعلق بانتخابها وعملها. وفي حين يمنح الدستور رئيس الجمهورية ـــ غير المنتخب فعلياًـــ كلاً من السلطة التنفيذية ورئاسة السلطة القضائية وسلطة التشريع ـــ التي كان قد منحها لمجلس الشعب قبل ذلك ـــ مع تخويله حق حلّ مجلس الشعب، عدا عن الصلاحيات الأخرى غير المحدودة ومنها رئاسة الجيش والقوات المسلحة، فإنه ورغم كل ذلك يعفيه من أي رقابة على سلطته أو تقييم لأدائه من قبل أي جهة وتجاه أي فعل باستثناء حالة الخيانة العظمى التي لم يعرّفها أي من الدستور أو القانون.

لعبت صياغة دستور 1973 من حيث اختيار المصطلحات دوراً أساسياً في التكريس الدستوري لأدوات الاستبداد التي قامت عليها كل المنظومة القانونية في سورية خلال حكم البعث.

وبالنتيجة، فإن دستور 1973 المليء بالتناقضات، وصف الدولة السورية بأنها ديمقراطية شعبية في مادته الأولى، لينص تالياً على أنها محكومة بقائدٍ أوحد يقترحه الحزب الأوحد دون أن ينتخبه أحد أو يسأله عمّا يفعل. وكما يتضّح من صياغة الدستور، فقد استُخدِمت المصطلحات بشكل مُحكم بما يلتف على الاستبداد من جهة، وبما يحقق السيطرة الكاملة على الحكم من جهة أخرى، ومن الأمثلة على ذلك أنه نصّ على "إدارة الدولة والمجتمع" من قبل المجالس المنتخبة في حين نصّ على "قيادة الدولة والمجتمع" من قبل حزب البعث. كذلك وصف مهمة عضو مجلس الشعب المنتخب "بوكالة تمثيل الشعب" التي يصطلح الفقهاء على اعتبارها ـأي الوكالةـــ عقداً تترتب عليه التزامات متبادلة، وبالمقابل وصف مهمة رئيس الجمهورية "بالنيابة عن الشعب" والتي يصطلح الفقهاء على اعتبارها ـأي النيابةـــ تخويل النائب بالحلول محل الأصيل في كافة الحقوق وآثارها. كما استخدم الدستور اختصاص "ترشيح رئيس الجمهورية" من قبل مجلس الشعب، ليستخدم لاحقاً اختصاص "اقتراح رئيس الجمهورية" من قبل قيادة حزب البعث، في محاولة لإخفاء التناقضات التي احتواها الدستور في هذا الخصوص، فضلاً عن التناقضات التي سنعرض لها لاحقاً فيما يخص كل سلطة من سلطات الحكم على حدى، منذ تولي نظام الأسد السلطة وحتى اليوم.

 

التصنيف مقالات الرأي