ترتبط قناعة الكثير من المجالس المحلية بمركزية دورها في مجتمعاتها إلى حد كبير بموقف الناس من المجالس المحلية والدور المركزي والفريد الذي تلعبه كون أن خياراتهم تجاه الاحتياجات التي تلبيها الإدارات المحلية أو مايوازيها من هيئات مدنية مرتبطة بالبنى العسكرية هي خيارات ضيقة ولا يمكن لمنظمات المجتمع المدني ولا الهيئات المجتمعية الأخرى أن تحل محلها، ولا يمكن حتى للبنى الإدارية التابعة للنظام أن تقوم مقامها. على الأقل فيما يميز هذه البنى من القدرة على تمثيل المجتمعات المحلية وما يحمله ذلك من توفير ديناميات مؤسسية وغير مؤسسية من خلال المجالس المحلية نفسها وما تتيحه من فضاءات للحوار والمساءلة أو من خلال الهيئات والمرجعيات المجتمعية التقليدية، تمكن هذه المجتمعات من ممارسة الدور الرقابي وتوجيه المجالس المحلية لتكون أكثر تشاركية وشفافية وتعبيراً عن متطلبات وآمال المجتمعات المحلية.

أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية مطلع العام الحالي على 105 مجلساً محلياً على امتداد المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وتنظيم الدولة والقوى الكردية، توجهاً متزايداً إلى اعتمادية المجالس المحلية كجهة مركزية في تقديم الخدمة وإدارة فعاليات المجتمع المحلي، حيث عبر 41 % من العينة عن اعتقادهم بأن للمجالس دور مركزي ضمن الحيز الإداري لعملها فيما ذهب 50 % بالمئة منهم إلى اعتبار مجالسهم الجهة الوحيدة التي تضطلع بالأدوار الإدارية والخدمية.

ورغم أن هذه النتيجة نابعة من نظرة المجالس المحلية لنفسها ودورها في مجتمعاتها إلا أنه لا يمكن فصل تلك النظرة عن انطباع الناس تجاه دور المجالس المحلية كون أن خياراتهم تجاه الاحتياجات التي تلبيها الإدارات المحلية أو ما يوازيها من هيئات مدنية مرتبطة بالبنى العسكرية هي خيارات ضيقة ولا يمكن لمنظمات المجتمع المدني ولا الهيئات المجتمعية الأخرى أن تحل محلها، ولا يمكن حتى للبنى الإدارية التابعة للنظام أن تقوم مقامها. على الأقل فيما يميز هذه البنى من القدرة على تمثيل المجتمعات المحلية وما يحمله ذلك من توفير ديناميات مؤسسية وغير مؤسسية من خلال المجالس المحلية نفسها وما تتيحه من فضاءات للحوار والمساءلة أو من خلال الهيئات والمرجعيات المجتمعية التقليدية، تمكن هذه المجتمعات من ممارسة الدور الرقابي وتوجيه المجالس المحلية لتكون أكثر تشاركية وشفافية وتعبيراً عن متطلبات وآمال المجتمعات المحلية.

يعبر مصطلح المجالس المحلية عن الإدارات المحلية سواء أكانت مجالس محافظات أو ما يتفرع عنها من مجالس فرعية أو لجان أحياء ولعل أبرز ما يعلل حيازة المجالس المحلية لهذه الاعتمادية من قبل مجتمعاتها المحلية، حاجة السكان الأصيلة لأدوار الدولة ضمن مستويات اللامركزية وذلك من حيث تقديمها للخدمات أو الرقابة على الجهات الموفرة لها من منظمات وجهات خاصة ضمن آليات الرقابة المجتمعية التي توفرها مؤسسة المجلس المحلي، إضافة إلى إدارة الموارد الذاتية المتوفرة ضمن المنطقة  أو الموارد الخارجية، بما يعود بالنفع العام على أفراد المجتمع من خلال ضخ عائداتها وفق خطط المكتب التنفيذي للمجلس  المصادق عليها من قبله وضمن موازناته المعلنة ، وهي مسؤوليات لاتزال المجالس المحلية بمجموعها عاجزة عن تحملها  إذا ما أضفنا إليها أهمية لعب المجالس المحلية دوراً مفصلياً في عملية التنمية والتنمية المستدامة إذ تظهر الدراسة المشار إليها قصور واضح في قدرة المجالس المحلية على القيام بأدوار رئيسية في إقامة مشاريع تنموية واقتصار دورها في أغلب الأحيان على التنسيق مع الجهات الداعمة، فيما تحكم قدرة هذه المجالس على القيام بمسؤوليتها هذه عدة عوامل أبرزها حيازتها للسلطة التنفيذية المحلية وحيازة كوادرها على مستويات عالية من الكفاءة الإدارية والتأهيل المؤسسي وقدرة المجالس المحلية على إقناع الأطراف المحلية والدولية الأخرى بأهليتها الإدارية والخدمية، إضافة إلى دفع السكان المحليين لتثبيت مشروعية المجالس المحلية أمام  المنظمات الغير الحكومية المحلية والدولية والجهات العسكرية، فيما يتنامى توجه العديد من القوى العسكرية من جهة أخرى إلى دعم مركزية دور المجالس المحلية بناء على تفاهمات وتوافقات مع المجالس المحلية أو رغبة من هذه القوى في التخفيف من الأعباء المدنية التي تحملتها في السابق ولم تنجح في تحقيق الرضى المجتمعي على أدائها بسبب قلة خبرتها وتهميشها في كثير من الأحيان لدور المجتمع المحلي في الرقابة والتوجيه وفي تحقيق ذاته ، إضافة إلى فشلها في تصميم مستندات قانونية ناظمة لعملها فضلاً عن إهمالها لتلك الناظمة للعمل الإداري والخدمي ضمن الإطار الوطني العام .

وعليه فإن أهم ما يترتب على قدرة المجالس المحلية على تحمل مسؤوليتها وتجاوز المطبات التي واجهت الهيئات التنفيذية الأخرى التي لم تحظى بالمشروعية الحقيقية ولا الشرعية اللازمة هي حيازة المجالس المحلية على:

  • الشرعية القانونية النابعة من قدرة المجالس المحلية على اعتماد اللوائح القانونية الناظمة لعمل الإدارة المحلية، وتحديد شكل علاقتها مع الحكومة المؤقتة وتأطيرها وفق القوانين المعتمدة؛
  • مشروعية الخدمة والإنجاز؛
  • مشروعية التمثيل والتعبير عن تطلعات المجتمعات ومطالبها على المستويات الخدمية والتنموية وحتى السياسية
  • مشروعية الإدارة؛
  • وأخيراً مشروعية الدولة بما تمتلكه من سلطات تنفيذية محلية تحمي المشروعيات السابقة وترسخ الشرعية وتحافظ عليها.

ومن أجل الوصول إلى هذه السوية فإن المجالس المحلية مطالبة بالعمل وفق ست حزم أساسية:

  1. حزمة العلاقات؛

تركز على إعادة رسم خارطة المستفيدين سلباً أو إيجاباً تجاه فعالية المجلس المحلي وتحديد اتجاهات هذه العلاقات وأولوياتها، ووضع آلية لاستثمارها بالشكل الأمثل. 

  1. حزمة الحوكمة وتركز على:
  • بناء إدارة مالية ناجحة ونظام سجلات وأرشفة مالية متقدم؛
  • تعزيز الانفتاح والشفافية من خلال نشر الخطط والموازنات ونشر القرارات من خلال اعتماد مكتب إعلامي؛
  • رفع كفاءة العاملين وفعاليتهم من خلال اعتماد مكتبي التدريب والموارد البشرية؛
  • تطبيق مبادئ المساءلة والمحاسبة من خلال تفعيل آليات الرقابة الإدارية من داخل مؤسسة المجلس وخارجها؛
  • تعزيز المشاركة المجتمعية والتي تتم من خلال إقامة منتديات للحوار المجتمعي خاصةً ضمن الوحدات الإدارية الأصغر (المجالس الفرعية ولجان الأحياء)، إضافةً إلى تعزيز ونشر ثقافة التطوع؛
  • تطبيق مبدأ سيادة القانون من خلال اعتماد نظام داخلي يراعي خصوصيات المجلس المحلي ويتماشى مع الهياكل والخطوط العامة للأنظمة الداخلية لبقية المجالس المحلية على المستوى الوطني.
  1. حزمة الخدمات وتهتم بما يلي:
  • تقييم الاحتياج من خلال إجراء الاحصاءات اللازمة والدراسات المعمقة وتقييم واقع الخدمات الحالية؛
  • التوثيق: بما في ذلك توثيق الحالات الإنسانية والأحوال المدنية وتوثيق المرافق العامة والمواقع التراثية والأوقاف؛
  • الإشراف على الخدمات المرفقية كالتعليم والصحة وتوفير البيئات والمباني اللازمة لعملها؛
  • الاستشعار بالأزمات والاستعداد لها؛
  • إقامة مشاريع البنية التحتية (كهرباء، ماء، طرق، نظافة)، إضافةً إلى وضع الخطط اللازمة وتقييم الاحتياج فيما يخص إعادة الإعمار؛
  1. حزمة الشرعية، والتي تشير إلى مدى انتظام المجلس المحلي ضمن الإطار الدولتي العام وتركز على:
  • اعتماد التقسيمات الإدارية واللوائح التنفيذية المعتمدة من الحكومة المؤقتة؛
  • اعتمادية المجلس المحلي من المستوى الإداري الأعلى ومن الحكومة المركزية؛
  1. حزمة المشروعية، والتي تشير إلى قدرة المجلس المحلي على حيازة رضى المجتمع المحلي من خلال إدارة الموارد والتعاطي الفعال مع الشكاوى، إضافةً إلى قدرة المجلس على تمثيل شرائح المجتمع المختلفة؛
  2. حزمة الموارد المالية وتركز على:
  • الموارد الخارجية من خلال إدراج خطط المجلس المحلي ضمن موازنات المستويات الإدارية الأعلى (فرعي –محافظة) أو ضمن موازنات الحكومة المركزية (محافظة – حكومة مؤقتة)، إضافة إلى ما يقدم من الجهات المانحة؛
  • الموارد الداخلية والتي تعتمد على مدى قدرة المجلس المحلي على تطبيق آليات الجباية المحلية ونشر ثقافتها في المجتمع في ظل ضعف الذراع التنفيذية للمجلس المحلي، وأيضاً قدرة المجلس المحلي على إدارة الموارد المتوفرة ضمن نطاق حدوده الإدارية، إضافةً إلى حيازة المجلس المحلي على الدور الرئيس في إدارة العملية التنموية وتعزيز مصادر الدخل الذاتي والدفع بعجلة الاستثمار والشراكات مع القطاع الخاص؛

لا يوجد اتساق حقيقي في معدلات استجابة المجالس المحلية لمتطلبات حيازتها للدور المركزي والفريد في المجتمعات المحلية وذلك بسبب تفاوت الظروف بشكل حاد بين مجلس محلي وآخر واختلافها  بين مجلس فرعي وآخر ضمن مجلس المحافظة نفسه، نتيجة ظروف الحصار الذي تعيشه بعض المناطق وحالة الانفتاح على دول الجوار الذي ميز مناطق أخرى لم تخضع للحصار، وتبعاً  لتردّد وعي وقناعات المجتمعات المحلية لمحورية دور المجالس المحلية بسبب وجود بعض المحسوبيات المحدودة و التي لا ترتقى  لمستوى الظاهرة  ووجود حالات من تنازع الصلاحيات بين المجالس والمنظمات والإدارات التنفيذية الأخرى إضافة إلى  بعض المشكلات في تمثيل شرائح من السكان في المجلس المحلي، ما أوجد تباينا واضحاً في الموارد المادية والبشرية للمجالس، ومع ذلك فإن ثمة جهود تبذل  من قبل المؤسسات والمنظمات  ومراكز الدراسات الوطنية المهتمة  بملف الحوكمة  (من خلال الورش ومجموعات التركيز والدورات  التي تتنوع مشاركة المجالس المحلية فيها ما يسمح بتبادل الخبرات ونقل التجارب بالإضافة للأوراق والدراسات التي تسهم في رفع السوية المعرفية لدى المجالس المحلية بصورة متجانسة) وذلك  بهدف ردم الهوة الموجودة بين المجالس المحلية  والمضي قدماً صوب تلبية استحقاقات الحكم الرشيد ضمن أطر من العمل المتناسق الذي تسعى الحكومة المؤقتة لتفعيله من خلال إعادة تشكيلها وتفعيل وزارتها وهيئاتها في بيئات متنوعة بتنوع الظروف التي تعيشها المناطق الخارجة عن سيطرة النظام.

التصنيف مقالات الرأي

أجرى محمد منير الفقير الباحث في مسار الإدارة المحلية وتعزيز الممارسة الديمقراطية بمركز عمران مداخلة هاتفية عبر راديو الكل ناقش فيها الورقة التي نشرها المركز حول آليات تعاطي المجالس المحلية مع شكاوى السكان، حيث استعرض الباحث المنهجية التي اعتمدتها الدراسة في اختيار المجالس التي جرى تقييم آليات الشكاوى لديها، وأهم الأسباب الموجبة لشكاوى السكان المحليين والآليات المختلفة التي تعتمدها المجالس في التعاطي مع الشكاوى إضافة إلى استعراض أهم ملامح النموذج الذي اقترحته الورقة من أجل إيجاد منظومات مؤسسية متكاملة تضمن استقبال الشكاوى وفق معايير واستمارات محددة ومتابعة الشكوى ومعالجة الطلب ضمن تسلسل إداري واضح يراعي عدم تضارب الجهات المعنية بالنظر بالشكوى إضافة إلى إمكانية إعادة النظر بالشكوى ضمن المجلس المحلي أو من خلال هيئات قضائية محلية ومرجعيات اجتماعية في حال لم يتم معالجة الشكوى من خلال المنظومة المؤسسية للمجلس المحلي.

 

ساهمت عدة عوامل في تطور أداء المجالس المحلية منذ بدء تشكّلها. ويُعدّ سعي المجالس لمشاركة السكان واحداً من أهم تلك العوامل، حيث تتضمن أنظمتها الداخلية حق السكان بالشكاية على أداء المجالس المحلية أو أعضائها. كما عملت المجالس على إيجاد آليات للتعامل مع هذه الشكاوى، حيثُ تُظهر البيانات أنها تتعلق في معظمها بأداء المجلس ككل أكثر من تعلقها باختيار كوادره.

ومن خلال التقييم لعدد من المجالس المحلية يُمكن القول أن آليات التعامل مع الشكاوى لدى المجالس لم ترتقِ بعد لأن تكون نظاماً متكاملاً يتضمن مؤشرات تدل على فعالية الشكاوى وآليات التعامل معها، خصوصاً في ظلّ ما تواجهه المجالس من تحديات تعوق قدرتها على حل الشكاوى ومنها: نقص الكوادر القانونية والإدارية المؤهلة للنظر في الشكاوى، تضارب في الأدوار بين المجالس والهيئات التنفيذية بخصوص الجهة المكلفة النظر بالشكاوى وضعف موارد المجالس، إلا أن جهود المجالس في هذا المجال تعتبر خطوة جيدة على طريق الحكم الرشيد.

مقدمة

تولي هيئات الإدارة المحلية أهمية لشكاوى السكان باعتبارها إحدى الأدوات التي يعبرون من خلالها عن مطالبهم وتوقعاتهم من تلك الهيئات، وهو ما دفعها لتبني إجراءات نصّت عليها أنظمتها الداخلية للتعامل مع تلك الشكاوى. ومن الطبيعي أن تتنوع آليات التعاطي مع الشكاوى باختلاف شكل وطبيعة النظام السياسي القائم ومدى توافر القيم المؤسساتية والخبرات الإدارية التي تتيح آليات التعبير عن هذا الحق وتعزّزه.

 ففي عهد نظام الأسد الأب وكذلك الابن، لم تحقق الشكاوى مقصدها في رد المظالم وتصويب أداء المؤسسات، سواءً بسبب القبضة الأمنية التي كانت تطال كل من يحاول الإصلاح أو بسبب هيمنة الفساد على مؤسسات الدولة. الأمر الذي أدى إلى تفشي الثقافة السلبية لدى المواطنين وإحجامهم عن ممارسة حقهم الرقابي لعلمهم المسبق بعدم جدوى ذلك. وبحكم حالة الانسداد الذي وصل إليه نظام الأسد وتراكم الأزمات وتحوّلها إلى أزمة شاملة، قامت الثورة السورية لتأسيس عقد اجتماعي جديد يتوافق عليه السوريين ويتيح للمجتمع إمكانية التعبير عن نفسه وفق آليات مؤسساتية، وبما يكسر احتكارية أقلية مصلحية تدير الدولة بشكل يناقض هوية المجتمع ومصلحته.

 ثم أتت المجالس المحلية كأحد أهم مفرزات الثورة السورية وأحد رهاناتها في إنجاز التحول نحو نظام جديد يحقق قطيعة مع نظام الأسد، كآلية لتأطير وتنظيم مشاركة السكان في إدارة الشأن العام واستعادة حقوقهم التي سلبت منهم ومنها حق الترشح والانتخاب والمحاسبة. ولكي تتمكن المجالس من إنجاز الرهان المعقود عليها، كان لا بد لها من تعزيز تطبيقها لمبادئ الحكم الرشيد وفي مقدمتها الشفافية، وتوفير الآليات التي تتيح للسكان ممارسة حقهم الرقابي عبر عدة آليات وأهمها آليات الشكاوى ومعالجتها.

 تأتي هذه الورقة البحثية ضمن سياق ما سبق، لتحاول تقصّي أسباب شكاوى السكان وما إذا كانت تتصل بأداء المجالس أو كوادرها، وتبحث كيفية التعاطي معها وتحديات المجالس المحلية في ذلك من خلال عملية رصد للمجالس وتحليل البيانات المتحصلة، وصولاً إلى اقتراح معالم نموذج أمثل لتعاطي المجالس مع تلك الشكاوى

شكاوى السكان على المجالس: الأسباب وطرق التعبير

 تبنى السكان في ظل نظام الأسد موقفاً سلبياً مفاده أن الشكوى لا تساعد في نيل مطلب أو حل مشكلة أو رد اعتبار رغم وجود العديد من الإجراءات والهيئات الرسمية المكلفة قانوناً بمتابعة الشكوى ورد المظالم. ويعود السبب في انتشار هذه القناعة إلى عدة أسباب منها:

 1.       هيمنة الفساد والروتين على مؤسسات الدولة؛

 2.       غياب العدالة أمام القانون وتنامي المحسوبيات؛

 3.       الخشية من التعرض لمضايقات من قبل المتنفذين في الدولة؛

 4.       ضعف المعرفة بالإجراءات القانونية والمؤسسات المكلفة بالنظر في الشكوى نظراً لتضارب الصلاحيات وغموض القوانين ذات الصلة.

 ومع تزايد مظالم السكان وضياع الحقوق كان لا بد من العمل على تصحيح مسار العلاقة القائمة بين الدولة والمجتمع وإعادة رسم حدود السلطة وتعزيز قدرة المجتمع على التعبير عن نفسه سياسياً واستعادة حقوقه، فكانت الثورة السورية التي أوجدت مناخاً من الحرية لمناقشة قضايا الشأن العام ومكّنت السكان في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد من التعبير عن مطالبهم وشكواهم حيال الهيئات الثورية العسكرية والمدنية ومنها المجالس المحلية.

 ويلحظ من خلال تتبع شكاوى السكان تجاه المجالس المحلية أنها تتصل بالأداء أكثر من ارتباطها بأعضاء المجالس دون أن يعني ذلك غياب الشكاوى الشخصية رغم قلّتها. وربما يفسر ما سبق بالآلية المتبعة في تشكيل المجالس والتي تقوم على ترشيح الهيئات المحلية لشخصيات محلية معروفة لعضوية المجالس ومن ثم فتح باب الطعون، وهو ما يحول غالباً دون وصول شخصيات إشكالية لعضوية المجالس. وتتعدّد الأسباب الموجبة لشكاوى السكان على المجالس، فمنها ([1]):

 1.       ضعف القدرة على توفير الخدمات الأساسية لاسيما في قطاع البنية التحتية؛

 2.       ضعف تبني معايير معتمدة في تحديد المستفيدين من الخدمات، مما يفتح الباب للمحسوبيات؛

 3.       تبني قرارات لا تتماشى مع أولويات السكان؛

 4.       عدم وضوح الجهة المسؤولة عن توفير الخدمات لاسيما في المناطق التي يوجد فيها أكثر من هيئة تنفيذية؛

 5.       ضعف الشفافية فيما يتعلق بنشر الإجراءات والمشاريع والميزانيات؛

 6.       ضعف القدرة على فرض القرارات المتخذة لغياب ذراع تنفيذية (شرطة محلية) بمقابل وجود هيئات تنفيذية أخرى قادرة على فرض قراراتها؛

 7.       ضعف الاستقلالية الناجمة عن تدخل الهيئات التنفيذية في عمل المجلس؛

 وتتنوع طرق تعبير السكان المحليين عن شكاويهم بين طرق مباشرة وغير مباشرة، رسمية وغير رسمية. ففي حين يلجأ البعض للتعبير عن شكواهم بشكل مباشر من خلال مناقشتها مع الجهة المختصة ([2])، يفضل آخرون مناقشة الأمر ضمن محيطهم الاجتماعي دون رفعها للجهة المختصة. وبينما يميل البعض لاتّباع الآليات القائمة للتعبير عن شكاواهم، يفضل آخرون اللجوء إلى المظاهرات والاحتجاجات ([3]). ويمكن تفسير هذا التباين بعدة عوامل منها:

 1.       مدى وجود آليات معروفة وموثوقة لدى العديد من السكان للتعبير عن شكواهم؛

 2.       مدى ثقة السكان بالمجالس المحلية وكفاءتها؛

 3.       مدى إتاحة المعلومات والإجراءات والقوانين والميزانيات للسكان؛

 4.       روح المسؤولية العامة وثقافة اللجوء للشكاوى لدى السكان لتحقيق مطالبهم وتصويب الأداء.

آليات تعاطي المجالس مع الشكاوى: الواقع والتقييم

 تدرك المجالس المحلية أهمية التعاطي مع الشكاوى التي يطرحها السكان، فنجاحها في احتواء الشكاوى عبر معالجتها بما يتوفر لها من إمكانيات أو تبيان حقيقة الموقف بشأنها عبر إتاحة المعلومات لأصحاب الشكوى يسهم في ترسيخ شرعيتها وتصويب أدائها. ويظهر من خلال عملية رصد المجالس تنوع الآليات التي لجأت إليها المجالس في التعاطي مع الشكاوى ومن أبرزها: 

 1.       اللقاءات الجماهيرية: تعتبر الآلية الأكثر شيوعاً لدى المجالس لا سيما في الوحدات الإدارية الصغيرة، وقد تكون اللقاءات على نطاق واسع يشمل جميع السكان أو على نطاق ضيق يضم القيادات المحلية فقط ([4]). ويتم في هذه الاجتماعات الاستماع لشكاوى السكان والردّ عليها وتدوين ذلك في محاضر اجتماعات رسمية.

 وتمتاز هذه الآلية بما يلي:

 أ‌.         سهولة إجرائها باعتبارها لا تتضمن إجراءات بيروقراطية معقدة؛

 ب‌.     السرعة في الرد على موضوع الشكوى؛

 ت‌.     تحقيق المشاركة المجتمعية.

 أما بخصوص سلبياتها فمن أبرزها:

 أ‌.         ضعف الانضباط التنظيمي لا سيما مع كثرة عدد الحضور وإمكانية تحولها لسجالات شخصية؛

 ب‌.     مخاطر أمنية ناجمة عن عمليات القصف التي تقوم بها قوات نظام الأسد وحلفائه.

 2.       مكتب الشكاوى: لجأت بعض المجالس إلى تشكيل مكاتب متخصّصة لمتابعة الشكاوى، ويعتبر هذا التوجه حديثاً ([5]) حيث لم يلحظ في هيكليات المجالس عند بداية تشكيلها، ويلحظ انتشارها في مجالس المدن التي تحتوي على هيكليات إدارية أكثر تحديداً من حيث الأدوار والصلاحيات. تتميز هذه الآلية بكونها تخصّصية ([6]) وبأنها تعمل وفق إجراءات محددة ([7]) وإن كانت لم ترقَ بعد إلى نظام متكامل للشكاوى. أما سلبياتها فتتجلى بما يلي:

 أ‌.         ضعف وعدم كفاية الكادر القانوني والإداري المكلف بمتابعة الشكاوى؛

 ب‌.     ضعف إلمام السكان بإجراءات التقدم بالشكوى؛

 ت‌.     ضعف آليات التأكد من متابعة الشكاوى وإصدار التقارير الرسمية بخصوص ذلك.

 3.       التواصل الإلكتروني: تتبع أغلبية المجالس هذه الآلية بحيث يتم التواصل معها عن طريق صفحاتها الرسمية المتاحة على شبكة الانترنت، إما عبر كتابة تعليق على العام أو إرسال رسالة خاصة تتضمن موضوع الشكوى. وتتميز هذه الآلية بسهولتها، إلا أن هنالك الكثير من السلبيات تعتريها ومنها:

 أ‌.         ضعف انتشار الانترنت في العديد من المناطق التي تديرها المجالس؛

 ب‌.     سهولة تعرض صفحات المجالس للقرصنة؛

 ت‌.     كثرة الشكاوى الوهمية التي يطرحها البعض بأسماء مستعارة للتشويش على المجالس.

 4.       صندوق الشكاوى: تبنى عدد من المجالس فكرة وضع صندوق لتلقي الشكاوى، حيث يقوم السكان بإيداع شكواهم في الصندوق الذي يخصّصه المجلس لذلك، ويقوم موظف مسمّى من قبل المجلس بعرضها على المكتب التنفيذي للنظر بشأنها ([8]). وتتمتع هذه الآلية بعدد من الإيجابيات ومنها:

 أ‌.         قدرتها على الوصول لأكبر شريحة من السكان لوجود الصناديق في أماكن عامة؛

 ب‌.     كون هذه الآلية تتضمن إجراءات بيروقراطية معقدة مما يسهل على السكان اللجوء إليها لطرح شكاواهم.

 أما سلبياتها فمنها:

 أ‌.         إمكانية تعرض الصناديق للتخريب؛

 ب‌.     ضعف وعي السكان بممارسة حقهم في التقدم بشكاوى.

 5.       الهيئات المجتمعية: تفضّل بعض المجالس التواصل مع مجتمعاتها من خلال قنوات اتصال مجتمعية تضمّ وجهاء البلدة كالشخصيات العامة ورجال الدين، باعتبارهم يتمتعون بمصداقية ومكانة اجتماعية معتبرة لدى السكان. وتقوم هذه الآلية على تشكيل هيئات مجتمعية تأخذ عدّة أشكال منها: مجلس عائلات، لجان تواصل، منتديات خاصة([9])، على أن تقوم هذه الهيئات بعرض الشكاوى ومناقشتها مع المجلس وإبلاغ السكان بالنتائج المتحصّلة. ومن إيجابيات هذه الآلية:

 أ‌.         إمكانية الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من السكان؛

 ب‌.     توفر عامل المصداقية والثقة لاعتمادها على قنوات اتصال تقليدية ذات مكانة؛

 ت‌.     قدرتها على تحقيق المشاركة المجتمعية.

          أما سلبياتها:

 أ‌.         وجود إشكاليات في تشكيل الهيئات المجتمعية من حيث عدم مراعاتها أحياناً للتوازنات الاجتماعية أو انفتاحها على تأثيرات الهيئات التنفيذية والقوى العسكرية على الأرض؛

 ب‌.     سعي تلك الهيئات أحياناً إلى لعب دور منافس للمجالس في إدارة شؤون الوحدات الإدارية.

 6.       الاستبيانات المحلية: لجأ عدد من المجالس إلى توزيع استبيانات للوقوف على آراء السكان ومطالبهم واقتراحاتهم. وتفضل المجالس هذه الآلية لمساعدتها في تحديد أولويات السكان وقياس مستوى رضاهم عن أداء المجلس بأرقام إحصائية يسهل التعامل معها ([10]). وفيما يتعلق بالسلبيات فمتعددة منها:

 أ‌.         ضعف كفاءة الكادر الفني المكلف صياغة وتوزيع الاستبيان؛

 ب‌.     الافتقاد إلى برامج تقنية تخصصية لتحليل البيانات؛

 ت‌.     وجود مشاكل ميدانية تعوق تنفيذ الاستبيان.

 7.       الباب المفتوح: فتح باب التواصل المباشر للسكان المحليين لتقديم شكواهم للمجلس سواءً للمكتب التنفيذي أو المكتب صاحب العلاقة ([11]). وتتميز هذه الآلية بكونها سهلة ومباشرة ومتاحة للجميع، إلا أنها وبالمقابل لا تخلو من السلبيات وفي مقدمتها:

 أ‌.         ضعف مأسسة بعض المجالس وهو ما يفضي إلى تعدد الأدوار؛

 ب‌.     عدم وضوح الصلاحيات فيما يتعلق بالجهة المعتمدة للنظر في الشكوى؛

 ت‌.     ضعف وعي السكان بممارسة حقهم بالشكوى؛

 ث‌.     التغيير المتكرّر لمراكز عمل المجالس بسبب استهدافها المتكرر من قبل قوات نظام الأسد وحلفائه؛

 وفي تقييم عام لآليات الشكاوى المتّبعة في المجالس المحلية يمكن القول:

 ·        لا تُمثل الإجراءات التي تتبعها المجالس في التعاطي مع الشكاوى نظاماً متكاملاً معتمداً يشمل استقبال الشكاوى والتحقق منها وحماية المراجعين ومعالجة الشكوى والمتابعة؛

 ·        تشمل الإجراءات المتبعة من قبل المجالس للتعاطي مع الشكاوى آليات رسمية وأخرى غير رسمية، ويعود السبب في لجوء المجالس إلى آليات دون أخرى لعدة عوامل منها:

 -          مستوى مأسسة المجلس وخبراته الإدارية؛

 -          حجم الوحدة الإدارية؛

 -          الاستقرار الذي تتمتع به الوحدة الإدارية؛

 -          مستوى وعي السكان بحقهم في التقدم بشكوى.

 ·        أقرت العديد من المجالس منذ بداية تشكيلها حق الشكوى وآليات ممارستها في أنظمتها الداخلية، إلا أن إيجادها لآليات ممارسة هذ الحق يعتبر حديثاً نسبياً؛

 ·        لا توجد مؤشرات كافية للتأكد من فاعلية الإجراءات التي تتبعها المجالس للتعاطي مع الشكاوى، حيث تواجه العديد من التحديات في هذا المجال ومنها:

 -          نقص في الكوادر القانونية والإدارية المؤهلة للنظر في الشكاوى؛

 -          تضارب الأدوار بين المجالس واله يئات التنفيذية الأخرى القائمة على الأرض فيما يتعلق بالجهة المكلفة بالنظر في الشكاوى ومتابعها؛

 -          ضعف موارد المجالس وهو ما يحدّ من قدرتها على التدخل لمعالجة شكاوى السكان لا سيما الجانب الخدمي.

معالم نموذج مقترح للشكاوى في المجالس المحلية

 أوجدت المجالس المحلية عدداً من الإجراءات للتعاطي مع الشكاوى بحسب ما أتاحه لها سياقها المحلي وإمكانياتها التي تتوافر لها. ويعتبر ما سبق ركيزة أساسية للبناء عليه لاقتراح نموذج للتعاطي مع الشكاوى يحقق الأهداف التالية:1ذ

·        استقبال كافة الشكاوى ومعالجتها وفق إجراءات واضحة؛

 ·        تعزيز شرعية المجالس؛

 ·        تطوير أداء المجلس ونوعية خدماته المقدمة؛

 ·        زيادة وعي السكان بحقهم في المساءلة والمحاسبة.

 ولكي يتمكن النموذج من إنجاز الأهداف المتوخاة منه فإنه يستلزم توافر العناصر التالية فيه: المرونة، الوضوح، الدقة، الشفافية، المشاركة، سيادة القانون، إمكانية الوصول. وبناءً على ما سبق تطرح الورقة معالم نموذج للشكاوى في المجالس المحلية يتضمن:

 1.       نظام استقبال الشكاوى: يتضمن الإجراءات التي يتبعها السكان للتعبير عن شكواهم بشكل رسمي. ويجب أن تتمتع هذه الإجراءات بالوضوح وإمكانية الوصول من قبل الجميع، إضافةً للمرونة والسرعة في استقبال الشكاوى وإحالتها للجهات المختصة داخل المجلس.  ويتحقق ما سبق من خلال:

 -          إعداد نظام مكتوب لاستقبال المراجعين للمجالس المحلية؛

 -          تشكيل وحدات إدارية متخصّصة ضمن المجالس لاستقبال الشكاوى؛

 -          اعتماد آليات عدة لاستقبال الشكاوى على أن يتم تأطيرها قانونياً ومؤسساتياً؛

 -          نشر تقارير دورية بخصوص الشكاوى التي تم استقبالها؛

 -          تعزيز شفافية المجالس المحلية من خلال إتاحة نظامها الداخلي وإجراءاتها وقوانينها وميزانياتها للسكان؛

 -          توعية السكان بحقهم في المساءلة والمحاسبة من خلال التقدم بالشكاوى.

 2.       نظام حماية المراجعين: الإجراءات التي تضمن الحماية لصاحب الشكوى وعدم التعرض له أو إيذائه. ويعتبر هذا مكوناً رئيسياً في نظام الشكاوى، فكلما توفرت إجراءات الحماية والسرية للمراجعين تشجع السكان على ممارسة حقهم في التقدم بشكاوى. وضمن ما سبق يقترح الآتي:

 -          وضع قوانين تحدد حقوق وواجبات أصحاب الشكاوى وإجراءات حمايتهم؛

 -          وضع نظام للتظلم وتعويض أصحاب الشكاوى في حال تعرضهم للمضايقات أو الأذى بسبب ممارستهم حقهم في التقدم بشكاوى؛

 3.       نظام التحقق من الشكوى: إجراءات التحقق من صلاحية الشكوى حتى يتم أخذها بعين الاعتبار وإحالتها للجهات المختصة. ويعتبر هذا النظام ضرورياً لفرز الشكاوى المحقة من جهة وتخفيف العبء الإداري على المجلس من جهة أخرى.  وفي هذا الشأن يقترح الآتي:

 -          إعداد نظام مكتوب يحدد المعايير والإجراءات لاستقبال الشكاوى؛

 -          وضع نماذج محددة للشكاوى تتضمن بيانات صاحب الشكوى وموضوع الشكوى والجهة ذات الاختصاص ورقم الشكوى؛

 -          اعتماد البرامج التخصصية لحفظ بيانات المراجعين وأرشفة الشكاوى وتصنيفها.

 4.       نظام معالجة الشكاوى: الإجراءات والآليات المعتمدة للنظر في موضوع الشكوى ومعالجتها، ولتحقيق فاعلية أكبر في معالجة الشكاوى يتوجب توافر الآتي:

 -          ضبط هيكلية المجالس فيما يتعلق بتحديد أدوار وصلاحيات الجهات المختصة للنظر بموضوع الشكوى؛

 -          وضع إطار زمني للرد على الشكوى وإعلام صاحب العلاقة بذلك؛

 -          معالجة موضوع الشكوى عبر إصدار القرارات والتعليمات والقوانين وتنفيذها بالتعاون مع الهيئات التنفيذية؛

 -          نشر التقارير بخصوص الشكاوى التي تمت معالجتها والتي ما تزال قيد النظر.

 5.       نظام المتابعة والاعتراض: الإجراءات التي يلجأ إليها صاحب الشكوى في حال عدم قناعته بالنتائج والقرارات التي تم التوصل إليها من قبل المجلس، ويعتبر ذلك حق لصاحب الشكوى على أن ينظم وفق الآتي:

 -          تشكيل لجان تخصّصية محايدة للنظر في موضوع الشكوى على أن يتم الاستعانة بالقيادات المحلية؛

 -          وضع نظام للنقض والتظلم يتضمن الحق في اللجوء للهيئة القضائية المحلية للبت في موضوع الشكوى.

 

الخاتمة

للسكان حق مساءلة ومحاسبة الهيئات المحلية ولهم في ذلك أدوات عدة ومنها الشكوى التي يعبروا من خلالها عن رضاهم أو عدمه عن تلك الهيئات ومطالبهم وتوقعاتهم منها. وفي حين زهد السكان في ممارسة هذا الحق في ظل نظام الأسد لقناعتهم بعدم فاعلية هذه الآلية، إلا أنهم ومع تحررهم من سلطته أصبحوا أكثر جرأة في التعبير عن شكواهم ومطالبهم تجاه الهيئات المحلية التي تشكلت لسدّ حالة الفراغ ومنها المجالس المحلية.

 وتمثل شكاوى السكان على عمل المجالس المحلية العاملة في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية ظاهرة صحّية في حال تم تأطيرها قانونياً ومؤسساتياً وتوظيفها لتجاوز مكامن الضعف وتحسين جودة الخدمة المقدمة وتعزيز التواصل مع السكان بما يسهم في ترسيخ شرعية المجالس وتطوير أدائها. أما في حال التعاطي السلبي معها فإنه من المتوقع وكما دلت الوقائع تعثر المجالس وفقدانها لمقومات الاستمرارية. وإدراكاً من المجالس لأهمية التعاطي مع شكاوى السكان فقد ضمنت هذا الحق في أدبياتها واتبعت مروحة متنوعة من الآليات للتعاطي معها مع ما يعتريها من إيجابيات وسلبيات، ومما يلحظ أنها ما تزال جنينية في طور التشكل، كما تفتقد لمؤشرات كافية للتأكد من فاعليتها.

 ولتعزيز قدرة المجالس على التعاطي مع الشكاوى فإنه يتوجب العمل بالتوازي على ثلاثة مسارات، يتصل الأول بالمجالس المحلية من خلال البناء على ما تحقق ومراكمة الخبرات وتأطير ذلك قانونياً ومؤسساتياً، في حين يتصل المسار الثاني بالسكان المحليين لجهة نشر الوعي لديهم بأهمية ممارسة حقهم في الشكوى وفق قواعد منضبطة ومحددة، أما المسار الثالث فيتعلق بالجهات الداعمة التي يتوجب عليها رفد المجالس بالموارد التي تعزز قدرتها على التعاطي مع موجبات الشكاوى، إضافةً إلى الاستمرار في تدريب كوادرها ورفدها بالاختصاصين في هذا المجال.

 



([1]) للمزيد حول شكاوى السكان المحليين على المجالس المحلية مراجعة، استطلاعات رأي وشكاوى برسم المجالس، ملحق المجالس المحلية، جريدة سوريتنا، الرابط http://goo.gl/QkV1b4

([2]) توجيه أهالي بلدة تسيل شكوى رسمية للمجلس المحلي بخصوص لجنة الخبز، الصفحة الرسمية للمجلس المحلي في بلدة تسيل، تاريخ 28-11-2014، رابط إلكتروني https://goo.gl/JT59CF

([3]) شهدت بعض المجالس مظاهرات تطالب بإسقاطها إثر اتهام السكان لها بالتقصير وعدم معالجة مطالبهم وشكاويهم، للمزيد حول ذلك مراجعة، مظاهرات في “تفتناز” الإدلبية للمطالبة بإسقاط المجلس المحلي في البلدة، راديو الكل، تاريخ 16-1-2016، رابط http://goo.gl/d6S9Nh

([4]) اجتماع بعض وجهاء البلدة لمداولة مشاكل البلدة والبحث عن حلول لها، ‏المجلس المحلي في عينجارة وريفها‏، تاريخ 17-4-2016، رابط إلكتروني https://goo.gl/TTLMfv ، أيضاً أنظر لقاء جماهيري بين المجلس المحلي لإعزاز والأهالي، المبادرة السورية للشفافية، تاريخ 3-3-2015، رابط إلكتروني http://goo.gl/O32Y2g

([5]) المجلس المحلي لمدينة بنّش يحدث مكتب لاستقبال الشكاوى، موقع المبادرة السورية للشفافيةـ تاريخ 27-5-2015، رابط إلكتروني http://goo.gl/vV0iSK

([6]) تقرير صادر عن مكتب ديوان الشكاوى العام لشهر نيسان 2016، الصفحة الرسمية للمجلس المحلي لمدينة حلب على الفيس بوك، تاريخ 1-5-2016، رابط إلكتروني https://goo.gl/ZZDj7Z

([7]) آلية رد المظالم التي من الممكن أن تحصل في المجلس أو مع الناس، المجلس المحلي لإدارة بلدة كنصفرة، تاريخ 31-3-2016، رابط https://goo.gl/d7pFc0

([8]) سراقب: استحداث صندوق شكاوى للمواطنين، المبادرة السورية للشفافية، تاريخ 18-2-2015، رابط إلكتروني http://goo.gl/4hKFUU

([9]) المجلس المحلي يدعو لاجتماع مناديب العائلات في البارة، المجلس المحلي في بلدة البارة، تاريخ 17-3-2016، رابط إلكتروني https://goo.gl/khpMIQ ، أيضاً أنظر، الأتارب: منتدى لتعزيز التشاركية والتخفيف من حدّة النزاعات، المبادرة السورية للشفافية، تاريخ 12-10-2015، رابط إلكتروني http://goo.gl/lYlhfx

([10]) استبيان المجلس المحلي في بلدة معرة حرمة للوقوف على عمل المجلس وأراء السكان، الصفحة الرسمية المجلس المحلي في بلدة معرة حرمة، تاريخ 18-3-2016، رابط إلكتروني https://goo.gl/Oz6qwU

([11]) بيان المجلس المحلي في جبالا للسكان حول مراجعة المجلس في حال وجود شكاوى، الصفحة الرسمية للمجلس المحلي في جبالا، تاريخ 24-4-2016، رابط إلكتروني https://goo.gl/SPbuq9

 

التصنيف أوراق بحثية

في إطار تغطية الشأن الداخلي السوري قام راديو الكل بإجراء لقاء صوتي مسجل مع الباحث أيمن الدسوقي من مركز عمران للدراسات الإستراتيجية بتاريخ 8-8-2016 للتعليق على الورقة التحليلية التي أصدرها المركز بعنوان"الدور الإداري والخدمي للمجالس المحلية في المرحلة الحالية والانتقالية:قراءة تحليلية في نتائج استطلاع رأي"، ركز اللقاء بشكل رئيسي على المادة البحثية من خلال طرح مجموعة تساؤلات تناولت الدور الخدمي للمجالس وأولوياتها في هذا الجانب، وما هي العوامل التي تعزز من دور المجالس في توفير الخدمات من جهة والعوائق التي تحد من دورها من جهة أخرى، كما تطرق الباحث إلى الموارد المالية للمجالس لاسيما الذاتية منها. واختتم الباحث مداخلته بالتنويه إلى أهمية العمل على تعزيز الموارد الذاتية للمجالس من خلال توفير دراسات بهذا الخصوص والعمل ضمن خطة إستراتيجية متكاملة

 

 

 

أجرى مركز عمران للدراسات الاستراتيجية استطلاعاً لرأي المجالس المحلية العاملة في مناطق سيطرة القوى الوطنية، شمل الاستطلاع 105 مجالس في المحافظات السورية الآتية: دمشق؛ ريف دمشق؛ حلب؛ إدلب؛ درعا؛ القنيطرة؛ حمص؛ حماة؛ اللاذقية.
وفي حين قدمت القراءة الأولى للاستطلاع تحليلاً للدور السياسي الذي يمكن أن تؤديه المجالس في المرحلة الحالية والانتقالية، فإن القراءة الحالية ستتناول الدور الإداري والخدمي للمجالس المحلية حالياً وفي المرحلة الانتقالية، من حيث تحديد النطاق الجغرافي للخدمات، وطبيعة الفئات المستهدفة بالخدمات، وما هي أولويات المجالس في الجانب الخدمي. إضافةً لتحديد تموضع المجالس ضمن خارطة العمل المحلي الخدمي ودرجة مركزية الأدوار الإدارية التي تقوم بها على المستوى المحلي، والعوائق التي تحول بينها وبين قيامها بأدوارها. كما سيتم تناول طبيعة الأنشطة الاقتصادية القائمة في مناطق عمل المجالس وأهم مواردها المالية، وما هي الأسباب الكامنة وراء ضعف الجباية المحلية، والتطرق إلى آليات تدخل المجالس المحلية في عملية التنمية من خلال اضطلاعها بالأدوار الإدارية والخدمية.

ملخص تنفيذي

أجرى مركز عمران للدراسات الاستراتيجية استطلاعاً لرأي المجالس المحلية العاملة في مناطق سيطرة القوى الوطنية، شمل الاستطلاع 105 مجالس في المحافظات السورية الآتية: دمشق؛ ريف دمشق؛ حلب؛ إدلب؛ درعا؛ القنيطرة؛ حمص؛ حماة؛ اللاذقية.

وفي حين قدمت القراءة الأولى للاستطلاع تحليلاً للدور السياسي الذي يمكن أن تؤديه المجالس في المرحلة الحالية والانتقالية، فإن القراءة الحالية ستتناول الدور الإداري والخدمي للمجالس المحلية حالياً وفي المرحلة الانتقالية، من حيث تحديد النطاق الجغرافي للخدمات، وطبيعة الفئات المستهدفة بالخدمات، وما هي أولويات المجالس في الجانب الخدمي. إضافةً لتحديد تموضع المجالس ضمن خارطة العمل المحلي الخدمي ودرجة مركزية الأدوار الإدارية التي تقوم بها على المستوى المحلي، والعوائق التي تحول بينها وبين قيامها بأدوارها. كما سيتم تناول طبيعة الأنشطة الاقتصادية القائمة في مناطق عمل المجالس وأهم مواردها المالية، وما هي الأسباب الكامنة وراء ضعف الجباية المحلية، والتطرق إلى آليات تدخل المجالس المحلية في عملية التنمية من خلال اضطلاعها بالأدوار الإدارية والخدمية.

وقد خلصت نتائج استطلاع الرأي إلى ما يلي:

•    تضطلع أغلب المجالس المحلية بدور إداري وخدمي مركزي ضمن مناطق عملها؛
•    يغلب على خدمات المجالس المحلية تغطيتها للحيز الجغرافي الذي يقع ضمن نطاقها الإداري؛
•    تقدم غالبية المجالس المحلية خدماتها للسكان المحليين والنازحين على حدٍ سواء؛
•    يحتل قطاع البنية التحتية المرتبة الأولى في سلم أولويات عمل المجالس المحلية، فيما يحوز الدفاع المدني على أدنى هذه المراتب؛
•    تتصدر قلة الموارد المالية قائمة العوامل التي تحد من قدرة المجالس المحلية على توفير الخدمات؛
•    تتنوع الأنشطة الاقتصادية القائمة في مناطق عمل المجالس المحلية بين أنشطة خدمية وزراعية وتجارية، في حين يغيب عنها النشاط الصناعي؛
•    ما تزال المجالس المحلية تعتمد على الدعم المالي الذي توفره المنظمات المانحة، مع تنامي اعتمادها على الضرائب من خلال تفعيل آليات الجباية المحلية؛
•    يعد انخفاض القدرة الاقتصادية للسكان المحليين العامل الأهم في ضعف الجباية المحلية؛
•    تتركز آليات تدخل المجالس المحلية في عملية التنمية على التنسيق مع الجهات الداعمة بشكل رئيسي.

معلومات الاستطلاع

-    تاريخ الدراسة: من 1-1-2016 إلى 3-2-2016
-    التنفيذ: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية
-    عينة الاستطلاع: 105 مجلس محلي

جدول توزع العينة


15

منهجية البحث

1.    مجتمع العينة

تم اختيار عينة غرضية من ضمن المجالس المحلية للمحافظات والمجالس الفرعية التابعة لها، وذلك في المناطق الخارجة كلياً أو جزئياً عن سيطرة نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية والإدارة الذاتية الكردية، نظراً لقدرة المجالس في هذه المناطق على القيام بأدوار عدة ضمن الحدود الإدارية لمناطقها.

2.    حجم العينة وتوزيعها

شملت عينة الاستطلاع 105 مجلساً محلياً من إجمالي عدد المجالس البالغ 427. حيث استجاب من كوادر تلك المجالس 62 رئيس مجلس و32 عضو مكتب تنفيذي و11 عضو، فيما توزعت العينة على محافظات دمشق وريف دمشق وحلب وإدلب ودرعا والقنيطرة وحمص وحماه اللاذقية، وتفاوت توزع العينة على المجالس الفرعية وفقاً لتفاوت عدد المجالس الفرعية في كل محافظة.

3.    وثوقية العينة

حرص الباحثون على طرح أسئلة الاستبيان وعرضها على المستجيبين بغض النظر عن آرائهم الشخصية أو توقعهم لاتجاه نتائج الاستطلاع، كما تم التركيز على صياغة الأسئلة بطريقة محايدة لا تؤثر على آراء المستجيب.

4.    مدة الاستطلاع

استغرقت عملية الاستطلاع ما يزيد عن الشهر، حيث بدأ التواصل مع المجالس المحلية اعتباراً من 1-1-2016 وحتى 3-2-2016، تلا ذلك عملية تفريغ البيانات ثم تحليلها واستخلاص النتائج النهائية.

5.  منهجية التحليل

تم تقسيم عملية التحليل إلى جزأين وفق هدف الدراسة المتمثل في رصد توجهات المجالس المحلية ومدى اضطلاعها بأدوارها على المستويين الإداري والسياسي، وبالتالي فإن هذا القسم من التحليل يتناول نتائج الاستطلاع ضمن التساؤلات التي تم طرحها حول الدور الإداري والخدمي للمجالس المحلية ومدى حيازتها لأهم مقوماته ومسؤولياته.

وتأتي عملية إدماج عملية الاستطلاع للدورين السياسي والإداري من منطلق وجود جدلية مستمرة بين فاعلية دور المجالس المحلية في الدفع السياسي ودورها الرئيس في إدارة المجتمعات المحلية وتحقيق مصالحها وتمثيلها.

المقدمة

يشكل توفير الخدمات الأساسية أحد المسؤوليات التي تعمل عليها الدولة عبر مؤسساتها لتحقيق استقرار وتنمية مجتمعها. وقد شهد الوضع الإداري والخدمي في سورية قبل الثورة تراجعاً حاداً لوحظ من خلال الاختناقات الخدمية التي تكرّرت دون أن يكون هنالك مقاربة شاملة لمعالجتها، وهو ما حوّل الأزمات من قطاعية إلى بنيوية كشفت عجز نظام الأسد عن إدارة الدولة والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى جانب عوامل أخرى لقيام الثورة السورية والتي هدفت إلى إيجاد نظام سياسي جديد يتمتع بالشرعية والفاعلية.

وكأسلوب لمعاقبة المناطق التي خرجت عن سيطرته، لجأ نظام الأسد إلى حرمانها من الخدمات عبر إيقاف تزويدها بها وتعمد إلحاق الضرر بمنشآتها الخدمية. وإذا ما أضفنا إلى ذلك، التدهور السابق لقطاع الخدمات قبل الثورة، يتضح حجم المشكلة التي كان على المجالس المحلية أن تواجهها لتوفير الخدمات للسكان باعتبارها هيئات تمثيلية خدمية.  

وفي حين تناولت دراسة سابقة لاستطلاع رأي قام به مركز عمران لمئة وخمس مجلس محلي حول الدور السياسي للمجالس المحلية، ستركز هذه الدراسة على دورها الإداري، من حيث طبيعته ونطاق خدمات المجالس جغرافياً وديمغرافياً وأولوياتها والعوائق التي تحدّ من قدرتها على توفير الخدمات، إضافةً إلى تحديد المصادر المالية للمجالس ومنها الجباية المحلية وعوامل ضعفها، وصولاً إلى الدور التنموي للمجالس وآليات تدخلها في هذا المجال.

الدور الإداري للمجالس

أحدث الصراع الدائر في سورية طلباً متزايداً على الخدمات مما شكّل عبئاً إضافياً على الإدارات المحلية المكلفة بإدارة شؤون السكان، وتعتبر المجالس المحلية إحدى هذه الإدارات بما تحوزه من شرعية التمثيل. لذا كان من المهم تناول الدور الإداري والخدمي للمجالس من حيث طبيعته، ونطاق الخدمات والأولويات في هذا المجال، والتحديات التي تواجه المجالس في توفير الخدمات للسكان.

ويتراوح الدور الإداري والخدمي للمجالس بين المركزي والثانوي، فإما أن تقوم بتأدية هذا الدور بمفردها بما يتوفّر لها من إمكانيات وموارد أو أن تؤديه بالتشارك مع هيئات محلية أخرى توافقاً أو تنافساً. وتظهر نتائج استبيان دور المجالس المحلية في المرحلة الحالية والانتقالية محوريّة الدور الإداري والخدمي للمجالس سواءً باعتبارها الجهة الوحيدة وهو ما أجاب به 50% من عينة الاستبيان، أو باعتبارها جهة مركزية إلى جانب جهات عدّة وهو ما أفاد به ما نسبته 41%، في حين وصف 7% دور مجالسهم بأنه يقتصر على التنسيق، مقابل 2% يعتقدون بأنه دور ثانوي.

1
ولعلّ أبرز ما يفسر مركزية دور المجالس المحلية في توفير الخدمات، الأسباب الآتية:

1.    استقطاب الكوادر المتخصّصة: وهو ما تعمل عليه المجالس بشكل حثيث من خلال إجراء مسابقات تعيين تستند إلى معايير مهنية. وهذا الدور يزداد أهمية خاصة مع كثرة الحديث عن وقف إطلاق النار وتفعيل المسار السياسي حيث أن المجالس المحلية هي أحد الجهات المرشحة لاستقطاب المدنيين المتخصصين ممن حارب في صفوف الفصائل العسكرية؛
2.    الخبرات المكتسبة: حيث أتيح لكوادر المجالس اكتساب خبرة نوعية في إدارة العمل الخدمي العام سواءً ممّا تحقق لها في ورشات التدريب أو ما اكتسبته خلال عملها الميداني؛
3.    الاستقرار المؤسساتي: الذي يتيح للمجالس تنفيذ برامجها في قطاع الخدمات والتي غالباً ما تستلزم وقتاً زمنياً طويلاً؛
4.    العلاقات البينية: كلما تمتّعت المجالس بعلاقات إيجابية مع الهيئات المحلية العسكرية منها والمدنية، تمكنت من تعزيز دورها الخدمي بسبب ما توفره تلك الهيئات لها من دعم مجتمعي ولوجستي؛
5.    توفر الجهات الداعمة: على الرغم مما يواجه المجالس من عجز مالي يعيق دورها الخدمي، إلا أن توفر جهات داعمة يمكّنها من لعب دور متقدم في توفير الخدمات.

يغلب على خدمات المجالس المحلية تغطيتها للنطاق الجغرافي الذي يقع ضمن نطاقها الإداري، حيث أجاب 63% من العينة عن وصول خدمات مجالسهم إلى كافة مناطق القطاع الإداري الذي يتولون إدارته، في حين أجاب 32% بأن الخدمات تصل إلى غالبية المنطقة الجغرافية التي تتبع لهم إدارياً وليس كلها، وأفاد ما نسبته 5% بأن خدماتهم مقتصرة على أجزاء فقط من النطاق الجغرافي لوحداتهم الإدارية.

2
ويمكن أن تفسّر شمولية خدمات المجالس للوحدات الإدارية التي تديرها بما يلي:

1.    قدرة المجالس على التحرك بحرية ضمن مناطق عملها مع تراجع التهديدات الأمنية التي تحد من حركتها؛
2.    توفر عدد كاف من الكوادر كفيل بتخديم النطاق الإداري لمنطقة عمل المجالس؛
3.    تقسيم النطاق الإداري إلى قطاعات جغرافية يسهل تخديمها؛
4.    توفر دعم لوجستي من قبل فصائل المقاومة الوطنية مما يتجلى بتوفير الحماية والمواصلات لكوادر المجلس؛
5.    وجود دعم مجتمعي يزيد من تقبّل دور المجالس ويسهّل عمل كوادرها.

وبالنظر إلى التركيبة السكانية للمجتمعات المحلية يلاحظ تغيّرها بفعل حركات الانزياح الديموغرافي بحثاً عن الأمن ومتطلبات المعيشة، وهو ما أحدث نقاشاً حول فئة السكان التي يتوجب على المجالس تخديمها، إضافةً إلى مدى أحقيّة مشاركة النازحين في المجالس تشكيلاً أو انتخاباً.  ووفقاً لنتائج الاستبيان لا تفرق معظم المجالس بين السكان الأصليين والنازحين في عملها الخدمي، حيث أجاب 95% من العينة بأن خدماتهم تشمل الفئتين معاً، في حين أجاب 3% باقتصارها على السكان الأصليين دون النازحين، مقابل 2% قالوا بأنها مخصّصة للنازحين إلى المناطق التي تديرها مجالسهم.

3

ويمكن أن يعزى توجه المجالس لعدم التمييز في خدماتها بين السكان الأصليين والنازحين إلى ما يلي:

1.    توفر موارد كافية تمكن المجالس من تخديم كلا الشريحتين؛
2.    استقرار النازحين في المجتمعات المضيفة وهو ما يسهّل على المجالس تخديمهم؛
3.    اعتبار المجالس النازحين لمناطق عملها مواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات في جميع الأراضي السورية.

وتعمل المجالس على توفير خدماتها وفق سلم أولويات يتم تحديده بناءً على معرفة احتياجات مجتمعاتها، وقد أظهرت نتائج الاستبيان ترتيب المجالس لأولوياتها الخدمية وفق الآتي:

1.    خدمات البنية التحتية بما يشمله ذلك من صيانة شبكات الطرق والمياه والصرف الصحي والمنشآت العامة؛
2.    خدمة التعليم وتأمين مستلزمات العملية التعليمية (رواتب مدرسين، طباعة كتب مدرسية، تنظيم الامتحانات)؛
3.    خدمة الإغاثة في المرتبة الثالثة من خلال توفير السلال الإغاثية بالتعاون مع الجهات الداعمة والهيئات المحلية؛
4.    خدمات الصحة عبر توفير المراكز الصحية ومستلزماتها الطبية؛
5.    الدفاع المدني من حيث تأمين الآليات وتدريب الكوادر.

4

ويمكن أن تعزى النتيجة السابقة إلى وجود تحول في نمط الإدارة المتّبع من قبل المجالس من الإدارة العفوية القائمة على ردود الفعل إلى الإدارة المنظّمة التي تتوخى تحقيق أهداف محددة بآليات واضحة، حيث يلاحُظ احتلال قطاع البنية التحتية الأولوية في سلم أولويات خدمات المجالس المحلية، لما له من دور في تحقيق الاستقرار للمجتمعات المحلية، علماً أن المجالس تواجه تحدياً كبيراً في عملية إصلاح هذا القطاع نظراً لحجم الضرر الذي لحق به جرّاء استهدافه المنظّم من قبل قوات الأسد والفصائل الموالية له. في حين يفسر حلول الدفاع المدني في أدنى سلم أولويات المجالس بوجود هيئات مستقلّة متخصّصة تمارس عملها في هذا المجال بالتعاون مع المجالس.

وتواجه المجالس المحلية عدة تحديات تؤثر سلباً على قدرتها في توفير الخدمات، جاءت وفق الترتيب الآتي حسب ما أظهرته نتائج الاستبيان: 1) ضعف الموارد المالية، 2) قلة الكوادر، 3) صعوبات أمنية، 4) مشاكل إدارية، 5) تدخل فصائل المقاومة الوطنية في عمل المجالس.

5

تعمل المجالس المحلية في بيئة متغيرة وذات مخاطر عالية تؤدي إلى خلق هذه التحديات، ويمكن أن يفسر تصدّر عامل قلّة الموارد المالية قائمة التحديات بالآتي:

1.    ضعف قدرة المجالس على استجلاب الدعم من الجهات المانحة؛
2.    تراجع حجم تمويل الجهات المانحة وهو ما يلاحظ من تقليص برامجها التدخلية؛
3.    ضعف تطوير المجالس لمواردها الذاتية لأسباب موضوعية وذاتية.

البيئة الاقتصادية للمجالس

تحتاج المجالس إلى موارد مالية كافية لتتمكن من توفير خدماتها للسكان، وكلما نجحت المجالس في تنويع مواردها المالية، تمكّنت أكثر من توفير الخدمات بشكل مستقرّ وبنوعيّة أفضل. وتعتبر البيئة الاقتصادية التي تعمل فيها المجالس إحدى العوامل المؤثرة في حجم ونوعية مواردها المالية. ويلاحظ من نتائج الاستبيان، التنوع في النشاط الاقتصادي لمناطق عمل المجالس بحيث يتضمن كلاً من الأنشطة الخدمية 54% والزراعية 42% والتجارية 4%، في حين يغيب عنها النشاط الصناعي.

6

ويمكن تفسير هذه النتيجة بالآتي:

1.    افتقاد البنية التحتية والكوادر المدربة اللازمة لتوطين الصناعة؛
2.    هجرة رؤوس الأموال اللازمة لتأسيس نشاط صناعي؛
3.    تعرض المنشآت الصناعية الكبيرة الخاصة والعامة للتدمير وعمليات النهب أو نقلها لمناطق تقع تحت سيطرة نظام الأسد أو إلى خارج سورية؛
4.    عدم استقرار إمدادات الطاقة والمواد الأولية وهو ما يزيد من تكاليف الإنتاج؛
5.    اعتماد المناطق التي تديرها المجالس في توفير مستلزماتها من المواد المصنعة إما على نظام الأسد أو على دول الجوار وهو ما أضعف فرص قيام نشاط صناعي محلي؛

مما تفيد به النتائج أيضاً وجود تنوع في الموارد المالية للمجالس بحيث تشمل موارد ذاتية وخارجية رتبتها المجالس المحلية من حيث وفرتها وفق الآتي:

1.    دعم المنظمات بما فيها المنظمات الحكومية وغير الحكومية الإقليمية منها والدولية؛
2.    الضرائب والرسوم المحلية التي تتقاضاها المجالس من المكلفين مالياً؛
3.    الدعم الذي توفره مؤسسات المعارضة الرسمية كالائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة؛
4.    الإيرادات المالية الناجمة عن مشاريع إنتاجية تعود ملكيتها للمجالس وأيضاً تشغيل واستثمار الأملاك العامة التي تديرها ضمن نطاقها الإداري؛
5.    الإيرادات المالية الناجمة عن الهبات والتبرعات التي يقدمها الأفراد بشكل مباشر وغير مباشر؛

7

ويمكن تفسير توجه المجالس للاعتماد المتزايد على الضرائب بعدة أسباب منها:

1.    رغبة المجالس في تنويع مواردها الذاتية خاصة مع تراجع الموارد الخارجية؛
2.    رغبة المجالس في توفير خدمات مستقرة للسكان المحليين؛
3.    أحقيتها في فرض الضرائب استناداً إلى ما تتمتع به من شرعية.

وقد لجأ عدد من المجالس لتفعيل الجباية المحلية بهدف التقليل من العجز المالي الذي تعاني منه. وتشير الوقائع إلى انخفاض الإيرادات المالية المتحققة عن الجباية في مناطق عمل المجالس مقارنة بمثيلتها في مناطق سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" ومناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية. وقد رتبت العينة الأسباب التي تحد من فاعلية الجباية المحلية وفق الآتي:

1.    انخفاض مستوى دخل السكان المحليين؛
2.    ضعف تعاون السكان المحليين مع جهود المجالس المحلية في هذا المجال؛
3.    غياب آلية موحدة لتنظيم الجباية؛
4.    ضعف تعاون فصائل المقاومة الوطنية مع المجالس؛
5.    ضعف الشفافية المالية للمجالس وهو ما يحول دون التزام السكان بدفع ما عليهم من مستحقات مالية.

8

ورغم ما حققته المجالس من تقدم ملحوظ فيما يتعلق باحتساب الضرائب وآليات جبايتها إلا أنها لم تبلغ بعد حجم الإيرادات المتحصلة في مناطق سيطرة كل من تنظيم "الدولة الإسلامية" والإدارة الذاتية. وعن أسباب ضعف الجباية يأتي في مقدمتها انخفاض القدرة الاقتصادية للسكان المحليين نتيجة عدة عوامل:

1.    ارتفاع نسبة البطالة إلى مستويات قياسية نتيجة غياب مشاريع إنتاجية توفر فرص عمل كافية؛
2.    اعتماد قسم كبير من السكان على المساعدات الإنسانية لتوفير متطلباتهم الحياتية؛
3.    انخفاض قيمة الليرة السورية التي ما تزال تعتبر العملة الرسمية المتداولة وهو ما أثر سلباً على مداخيل السكان التي تعتبر بالأصل شحيحة.

ولعل أبرز ما يفسر النتائج التي خلص إليها الاستبيان فيما يتعلق بأسباب ضعف الجباية المحلية هو الآتي:

1.    عدم قناعة المكلفين مالياً بدفع ما عليهم من التزامات لا سيما وأن لديهم تساؤلات حول الشفافية المالية للمجالس واعتراضات حول نوعية الخدمة المقدمة لهم واستقرارها؛
2.    الطواعية في دفع الالتزامات المالية وغياب إجراءات ملزمة بحق المتخلفين عن الدفع؛
3.    ضعف حس المسؤولية والالتزام لدى قسم كبير من المكلفين مالياً واعتبار التهرب من دفع الضرائب أمراً لا يستوجب المساءلة المجتمعية ولا القانونية؛

دور المجالس المحلية في التنمية

واصل الاقتصادي السوري تدهوره بفعل الإدارة غير الرشيدة من قبل نظام الأسد، إضافة إلى ما خلفته الحرب من آثار سلبية عليه. وقد انعكس ذلك سلباً على السكان وتجلى في فقدان العديد منهم لمصدر رزقه وتحول جزء كبير منهم إلى متلقين للدعم الذي توفره الهيئات المحلية والمنظمات الداعمة. وقد أدى تفاقم المعاناة الإنسانية والمعيشية مع استمرار الحرب وانخفاض الموارد المتاحة لحدوث تحول في طبيعة تدخل المنظمات الداعمة في المجتمعات المحلية حيث أصبحت تركز بشكل أكبر على المقاربة التنموية لتوفير مصادر رزق للسكان. وتعتبر المجالس المحلية أحد الفاعلين في هذا المجال وتتنوع أشكال التدخلات التي تقوم بها والتي رتبتها عينة المجالس حسب الآتي:

1.    التنسيق مع الجهات الداعمة في توطين مشاريع التنمية المحلية؛
2.    إقامة مشاريع تنموية بما يتوفر لها من موارد مالية؛
3.    تقدم الدعم المادي لمشاريع تنموية؛
4.    بناء قدرات السكان المحليين من خلال ما توفره لهم من تدريب؛
5.    توفير استشارات ودعم فني للمشاريع التنموية؛

9

ويمكن تفسير هذا التوجهات وأولوياتها بالآتي:

1.    ضعف قدرة المجالس الذاتية على إقامة مشاريع تنمية محلية نتيجة ضعف الموارد؛
2.    توقف العديد من مشاريع التنمية التي بدأتها المجالس نتيجة عدم توفر الدعم المادي الكافي والأوضاع الأمنية غير المستقرة؛
3.    عدم جاهزية المجالس للعب دور محوري في عملية التنمية من حيث الكوادر والآليات؛
4.    تركيز المجالس جهودها في قطاع الخدمات على حساب مشاريع التنمية؛
5.    منافسة هيئات محلية ذات إمكانيات كبيرة للمجالس في مجال التنمية وهو ما يضعف حضورها في هذا المجال؛

الخاتمة

تظهر نتائج الاستبيان مركزية الدور الخدمي للمجالس وشمولية خدماتها من حيث النطاق الجغرافي والديمغرافي بحيث تشمل القطاع الإداري الذي تديره وكلاً من السكان المحليين والنازحين دون تمييز، وتُقدم المجالس خدماتها وفق أولويات يأتي في مقدمتها قطاعي البنية التحتية والتعليم. وتواجه المجالس تحديات عدة تحد من دورها الخدمي ومن أبرزها قلة الموارد المالية وقلة الكوادر وهو ما يتطلب منها العمل على صياغة استراتيجية متكاملة لمعالجة مكامن الضعف وتعزيز نقاط قوتها في هذا المجال.

وبالنظر إلى البيئة الاقتصادية لمنطقة عمل المجالس، فيلاحظ تنوع النشاط الاقتصادي القائم فيها يأتي في مقدمتها النشاط الخدمي ثم الزراعي ثم التجاري، في حين يغيب النشاط الصناعي عن مناطق عمل عينة المجالس لأسباب موضوعية وذاتية. وتترك البيئة الاقتصادية أثرها على الموارد المالية للمجالس والتي تشمل: الضرائب والرسوم المحلية، وإيرادات المشاريع التنموية، وموارد خارجية تتضمن الدعم الذي توفره الجهات المانحة ومؤسسات المعارضة والأفراد. وفي حين أظهرت النتائج استمرار اعتماد المجالس على الإيرادات الخارجية كمورد مالي إلا أنها أظهرت في الوقت نفسه تقدم الضرائب كمورد ذاتي يعاني من مشاكل عدة أبرزها انخفاض مستوى دخل السكان المحليين وعدم تعاونهم مع جهود المجالس في الالتزام بسداد ما عليهم من التزامات مالية.

ونتيجة استمرار الصراع وتنامي حجم الاحتياجات الإنسانية اضطرت الجهات المانحة والمجالس المحلية لتبني حلول تنموية على حساب التدخلات النقدية والعينية المباشرة بما يسهم في توفير مصادر دخل للسكان وإحداث تغيير نوعي في المجتمعات المحلية. وتعتبر المجالس أحد الفاعلين في عملية التنمية وتسهم في ذلك من خلال ما تقوم به من دور تنسيقي نظراً لضعف مقوماتها الذاتية.

التصنيف أوراق بحثية
الجمعة, 22 تموز/يوليو 2016 12:54

المجالس المحلية والأدوار المأمولة

كان استحقاق إعادة إنتاج دور الدولة وفق رؤية الثورة، في المناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد، ولا زال الاستحقاق الأكثر تحدياً، مع ما تطلبه ذلك من تعزيز مشاركة المجتمع في إدارة مصالحه ومساءلة الجهات التنفيذية والتقريرية (أو التشريعية فيما يتعلق باتخاذ القرار والمساءلة) على المستوى المحلي والرقابة على أدائها بما يضمن تحقيق سلطة المجتمع ككل وكسر تغوّل المنظومات العسكرية على المجتمع، وصولاً إلى تعزيز سلطة المجتمع بدءاً من المستويات المحلية ومروراً بتعزيز المشاركة الشعبية على مستوى القرار الوطني وتجاه استحقاقات رسم خارطة المستقبل وتقرير المصير.

في الوقت الذي استمر فيه التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري انطلاقاً من التفاعل بين الرؤى السياسية المختلفة للحل من جهة وانعكاسات الواقع الميداني والعسكري على تقييم هذه الرؤى وفعاليتها وواقعيتها، وفي المقابل مدى فرض الواقع الميداني لمقاربات جديدة للحل السياسي، فإن المقدمات التي ريما تغيب عن حسابات أصحاب المصلحة الرئيسيين في الملف السوري هو مدى انعكاس الحالة الاجتماعية وتأثيرها في بناء هذه الرؤى وبروز آثارها المباشرة على الواقع الميداني وأيضاً في اعتبارات الحل السياسي واستدامته.

لا يمكن فهم القضية السورية وصولاً إلى صياغة جملة من المبادئ المؤسسة لآليات التعاطي مع الملف وإداراته وحل إشكالياته دون الرجوع إلى جذر المشكلة السورية المتمثل في وهن العقد الاجتماعي وهشاشته بنتيجة تهميش المجتمع السوري وتغييبه عن المشاركة في إدارة مصالحه والرقابة على أداء الدولة وأجهزتها، وأيضاً في تحقيق المجتمعات لذواتها وحيازة مواردها بعدل وتكافؤ، ما يعزز الانتماء إلى الرابطة الوطنية ويفكك حالة الخصومة وحتى العداء بين الدولة والمجتمع ، الأمر الذي بالغ النظام في إهماله وصولاً إلى الانفجار السوري العظيم .

كان امتحان الإدارة المحلية للمناطق التي خرجت عن سيطرة نظام الأسد في سوريا بمثابة الاستحقاق الأهم الذي واجهته المجتمعات المحلية في المناطق الثائرة ، من حيث إعادة إنتاج دور الدولة في هذه المناطق وفق رؤية الثورة، وما يتطلبه ذلك من تعزيز مشاركة المجتمع في إدارة مصالحه ومساءلة الجهات التنفيذية  والتقريرية (أو التشريعية فيما يتعلق باتخاذ القرار والمساءلة)على المستوى المحلي والرقابة على أدائها بما يضمن تحقيق سلطة المجتمع ككل وكسر تغوّل المنظومات العسكرية على المجتمع، وصولاً إلى تعزيز سلطة المجتمع بدءاً من المستويات المحلية ومروراً بتعزيز المشاركة الشعبية على مستوى القرار الوطني وفي استحقاقات رسم خارطة المستقبل وتقرير المصير.

في ضوء ما سبق قدّم نموذج الإدارة المحلية رسالتين عمليتين:

كانت الأولى لنظام الأسد وعنوانها قدرة المجتمعات المحلية على إعادة إنتاج الدولة وفق نموذج اللامركزية، الأمر الذي استدعى من النظام التركيز على استهداف المجالس المحلية تارةً و مهادنتها تارةً أخرى عبر الضغط على حاجتها الدائمة لتأمين الخدمات، وذلك بهدف تهميش دورها ضمن مجتمعاتها بشكل مباشر من خلال إحياء بلدياته ضمن مناطقها كأحد استحقاقات الهدن أو عدم التعرض، وضخ الدعم المستمر لهذه البلديات بموارد الخدمة والإدارة رغم افتقارها للشرعية الثورية وشرعية التمثيل الشعبي، أو بشكل غير مباشر عبر احتكاره لتأمين الخدمات القطاعية من تعليم وكهرباء وصحة وغيرها ضمن مناطق هذه المجالس.

وأما الرسالة الثانية فتوجهت للفاعلين الدوليين والإقليميين حيث قدمت المجالس المحلية نفسها كبديل عن نظام الأسد، والضامن لمؤسسات الدولة ومنظوماتها عبر اعتماد لوائح قانونية ومعايير لجودة الحكم الرشيد يزداد التوافق عليها بين المجالس يوماً بعد يوم (يمكن التدليل على ذلك باعتماد معظم المجالس المحلية للائحة التنفيذية للقانون 107 الصادرة عن الحكومة السورية المؤقتة مع مراعاة خصوصيات كل مجلس وأيضاً بإطلاق الحكومة المؤقتة بالتعاون مع منظمة التعاون الألمانية GIZ  "مشروع معايير أداء المجالس المحلية في سوريا" والذي اعتمد بشكل أساسي على المجالس نفسها في رسم إطار هذه المعايير وتحديدها)، الأمر الذي يعزز شرعية هذه المجالس بالمجمل، وفي نفس الوقت ضمان مصالح السكان المحليين بغض النظر عن أي مصلحة أخرى من خلال تمثيلهم والتعبير عن تطلعاتهم ، ما منحها المشروعية الكافية للقيام بهذا الدور وهو ما استدعى من بعض الأطراف الإقليمية والدولية السعي للتخفيف من آثار هذا الدور عبر دفع بعض منظمات المجتمع المدني المحلية لمزاحمة المجالس المحلية على الأدوار المنوطة بها لتحقيق رؤى الداعمين وتوجهاتهم، وأحياناً من خلال السكوت على تجاوزات بعض الفصائل القريبة من هذه الدول ومزاحمتها أيضاً لدور المجالس المحلية .

ورغم كل القصور الذي شاب أداء الكثير من المجالس المحلية نتيجة للأسباب الموضوعية آنفة الذكر وغيرها أو نتيجة لأسباب ذاتية مرتبطة ببنية هذه المجالس وآليات عملها، فإن قدرة المجالس المحلية على الارتقاء بأدائها وإثبات دورها في مجتمعاتها تزداد يوماً بعد يوم.

ويلمس المراقب لمنحى عمل المجالس المحلية في سوريا تطوراً ملحوظاً في وعي الإدارة المحلية لدى المجتمع المحلي ووعي للمجالس المحلية نفسها بذاتها وأهمية دورها ومحوريته، وأيضاً أهمية مأسسة هذه المجالس وحيازتها لأدوات الإدارة والخدمة وتعزيز الموارد ورفدها ذاتياً، حيث بدأ يُلحظ تزايد اعتماد المجالس المحلية لآليات مؤسسية معيارية كاعتماد آليات الشكاوى والجباية المحلية إضافةً إلى إدارة فعاليات التنمية المحلية وغير ذلك.

يضاف إلى ما سبق جملة من الأدوار التي ينبغي على المجالس المحلية القيام بها بصورة مؤقتة تبعاً لطبيعة الظرف الذي تعيشه البلاد وضعف الحالة المركزية التي تنظم عمل المجالس المحلية ضمن إطار دولتي، إضافةً إلى الهواجس المتزايدة من إعادة إنتاج المنظومات العسكرية الحاكمة(حيث تتدرج العلاقة مع البنى العسكرية من الصدام أو التنافس إلى النأي بالنفس إلى التفاهم وتقاسم الأدوار)، والعودة إلى دائرة تهميش السكان في المرحلة الحالية من خلال عدم استثمار المستوى التمثيلي الذي يميز المجالس المحلية وحضورها في تقديم الخدمات وإدارتها، في التفاعلات السياسية عبر الدفع السياسي أو المشاركة السياسية في رسم معالم الحل وملامح المستقبل  بحسب درجة تردد أداء البنى السياسية الثورية.  حيث أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية على 104 مجالس محلية، (ضمن دراسة بعنوان دور المجالس المحلية في المرحلة الحالية والانتقالية) أن أغلبية المجالس تنظر بإيجابية لهذه البنى (الموقف من الهيئة العليا للتفاوض) في حين يرى قرابة نصف هذه المجالس أن دورها سياسي وخدمي في ذات الوقت. ويعود ذلك إلى أن أغلب المجالس المحلية كانت إفرازاً طبيعياً لحالة البنى الثورية التي وجدت نفسها في مواجهة أسئلة المجتمع المحلي فيما يتعلق بإدارة مصالحه وتقديم الخدمات له فتحولت صوب عمل المجالس المحلية بما يحمله من أبعاد خدمية إدارية ونحو العمل السياسي، مدفوعةً برؤيتها السياسية كقوى ثورية طالبت منذ البداية بالتغيير السياسي، فيما آثرت مجالس أخرى الاكتفاء بالأدوار الخدمية التي تميز مهام المجالس المحلية في حالات الاستقرار.

لا تشكل النقاط الإيجابية التي سلط هذا المقال الضوء عليها في أداء ومنظور عمل المجالس المحلية طابعاً عاماً يسم عمل كل المجالس المحلية في سوريا، وإنما يمثل ميلاً محموداً لسيرورة نسق تفكير المجالس تتفاوت في تحقيقه واقعياً ولكنها تسعى إليه، وهو ما سوف نتناوله تفصيلاً في مقالات قادمة.

  

التصنيف مقالات الرأي

مشاركة الباحث في مسار الإدارة المحلية، محمد منير الفقير، على قناة دار الإيمان الفضائية، للحديث حول الورقة التي أصدرها ‫ ‏مركز عمران للدراسات الاستراتيجية‬ مؤخراً تحت عنوان: "دور ‫‏المجالس المحلية‬ في المرحلة الحالية والانتقالية: قراءة تحليلية في نتائج استطلاع رأي".
تناولت المقابلة توضيحاً لأهم الاستنادات التي اعتمدها الباحثون في إعدادهم للورقة.

ملخص تنفيذي

قام مركز عمران للدراسات الاستراتيجية بإجراء استطلاع رأي للمجالس المحلية العاملة في مناطق سيطرة القوى الوطنية، شمل 105 مجالس في المحافظات السورية الآتية: دمشق؛ ريف دمشق؛ حلب؛ إدلب؛ درعا؛ القنيطرة؛ حمص؛ حماة؛ اللاذقية. يُركّز الاستطلاع على طبيعة الدور الذي تمارسه المجالس المحلية في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية بشكل خاص وفي كافة المحافظات السورية بشكل عام، بالتزامن مع المساعي الدبلوماسية الأممية لإيجاد تسوية للقضية السورية، على اعتبار أنَّ المجالس المحلية تُشكل أحد أبرز الحوامل الُمهيئة للاستقرار في المرحلتين الحالية والانتقالية.

وقد خلصت نتائج استطلاع الرأي إلى ما يلي:

•    تمارس المجالس المحلية دوراً خدمياً بالدرجة الأولى مُستندة على شرعيتها المبنية على قبول المواطنين، ولكنها تمتلك في نفس الوقت كُمونَ ومقومات الفاعلية السياسية؛
•    تغلب آليتي التوافق والانتخاب على تشكيل المجالس، في حين يلحظ اعتماداً أضعف على آليتي التعيين والمبادرة الفردية؛
•    تعتبر العلاقة التي تربط المجالس المحلية بغيرها من مؤسسات المعارضة الرسمية وفصائل المقاومة الوطنية إيجابية عموماً؛
•    رغم وجود ميل عام لدى عينة المجالس لقبول مبدأ التفاوض على المستوى الوطني، إلا أن ذلك لا ينسحب على قبولها لاتفاقيات الهدن المحلية؛
•    أكدت غالبية العينة على ضرورة حصر موضوع التفاوض ببحث قضية تشكيل هيئة الحكم الانتقالي؛
•    حازت الهيئة العليا للتفاوض على دعم أغلبية العينة، في حين تبنت النسبة المتبقية موقفاً مغايراً لذلك؛
•    أكدت عينة المجالس على أن عقدة الأسد تمثل العائق الأبرز الذي يحول دون نجاح العملية التفاوضية؛
•    يتبنى ما يزيد عن ثلثي العينة اللامركزية الإدارية ضمن إطار وطني كنمط لإدارة سورية وتحقيق مطالب المجتمعات المحلية وتنميتها؛
•    يأتي الجانب الخدمي والسلم الأهلي في سلم أولويات عمل المجالس المحلية في المرحلة الانتقالية.


تمهيد

تُعتبر المجالس المحلية أحد أهم إفرازات الثورة السورية لتعبيرها عن التحول الذي طرأ على طبيعة العلاقة مع المركز من جهة، ولكونها أداة لإدارة المرحلة الحالية والانتقالية من جهة أخرى. وعقب مرور ما يقارب الأربع سنوات على نشأة المجالس المحلية وما حققته من منجزات وما أثير حولها من إشكالات، ومع وجود مساعٍ دولية لدفع العملية السياسية التفاوضية واستثمار المجالس في هذا المجال نظراً لدورها الحالي الذي يكسبها شرعية حقيقية منبثقة من الأرض، فإنه من الأهمية بمكان دراسة دور المجالس في المرحلة الحالية والانتقالية في كلا المجالين الخدمي والسياسي بهدف تحليل طبيعة ذلك الدور والعوامل المؤثرة فيه، وصولاً إلى اقتراح توصيات من شأنها تمكين المجالس المحلية كأحد محركات الدفع السياسي.

تُسلط هذه الورقة التحليلية الضوء على الدور السياسي للمجالس المحلية وتجلياته كما في نموذج اتفاقات الهدن المحلية الجزئية، وتُحاول تحليل طبيعة علاقة المجالس مع قوى المعارضة العسكرية والسياسية، وتصوراتها حول العملية التفاوضية من حيث موقفها من التفاوض كوسيلة للحل ومحددات رؤيتها السياسية وعلاقتها بالهيئة العليا للتفاوض، وأخيراً تبحث طبيعة ومعوقات الدور الذي من الممكن أن تؤديه المجالس المحلية في المرحلة الانتقالية.

المجالس المحلية: دور خدمي قائم ومقومات لدور سياسي ناشئ

تتنوع آليات تشكيل المجالس المحلية ما بين انتخاب وتوافق إلى تعيين ومبادرة فردية، حيث أظهرت نتائج الاستطلاع أن غالبية المجالس المستطلعة تشكَّلت عبر آلية التوافق المحلي حيث أشار 57% إلى ذلك مقارنة بـ 38% من العينة أشارت إلى الاستناد على آلية الانتخاب. وأظهرت النتائج بالمقابل ضعف الاعتماد على آليتَي التعيين والمبادرة الفردية في التشكيل حيث بلغتا مجتمعتين ما نسبته 5% من إجمالي إجابات العينة.

1


**يُمكن أن يُفسّر اعتماد التوافق كآلية سائدة حالياً لتشكيل المجالس بغياب عوامل الاستقرار الأمني وحركات الانزياح الديمغرافي التي لا تتيح لجميع السكان المحليين المشاركة بالانتخابات، إضافة إلى قدرة هذه الآلية على تجاوز إشكاليات تقنية تكتنف العملية الانتخابية (لوائح الناخبين، القانون الانتخابي، الدوائر الانتخابية، عملية الاقتراع) وهو ما يحتاج إلى خبرات قانونية وتخصصية قد لا تتوافر بالضرورة على نطاق واسع في المجتمعات المحلية.
وبمقارنة نتائج الدراسة الحالية مع نتائج سابقة خلصت إليها دراسة مؤشرات احتياجات المجالس التي قامت بها وحدة المجالس المحلية بالتعاون مع مركز عمران فإنه يلحظ تنامٍ طفيف في الاعتماد على الانتخابات كآلية للتشكيل، حيث ارتفعت النسبة من 35.75% في الدراسة السابقة لتصل إلى 38% في الدراسة الراهنة، وهو ما تدلل عليه الوقائع الميدانية من حيث تنظيم عملية انتخابات محلية تطورت من حيث آليات التمثيل وحجم المشاركة كما هو الحال في الغوطة الشرقية. وبغض النظر عن آلية التشكيل انتخاباً كانت أم توافقاً فإنها تعتبر دليل على وجود مشاركة السكان في المجالس وهو ما يمنحها شرعية لا تتوافر لدى العديد من الإدارات المحلية القائمة ولا الكيانات السياسية في سورية.


أما من حيث الأدوار التي مارستها المجالس المحلية في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية فقد تفاوتت حسب ما أتيح لها من إمكانيات وما تحقق لها من قبول محلي وشبكة علاقات ضمن السياق الذي تعمل فيه.  وقد أظهرت نتائج الاستطلاع توصيف 57% من العينة لدور مجالسهم بأنه خدمي يقوم على تقديم الخدمات المحلية للسكان في مجالات الإغاثة والبنية التحتية والصحة والتعليم، في حين أجاب 42% بأنه دور ثنائي يشمل إضافةً إلى تقديم الخدمات على دور سياسي من أبرز تجلياته: إصدار مواقف وبيانات سياسية، حضور فعاليات سياسية، تنظيم مظاهرات، عقد مصالحات مجتمعية، إجراء مفاوضات محلية مع النظام والقوات الموالية له. أما النسبة المتبقية من العينة وتبلغ 1% فعرَّفَت دورها بأنه سياسي بحت.

2


**تجلى الدور الخدمي للمجالس بشكل أكبر من الجانب السياسي رغم امتلاك المجالس كموناً عالياً ومقومات الفاعلية السياسية وهي:
1.    الشرعية المحلية المستمدة من تمثيلها للسكان المحليين عبر انتخابات أو توافقات محلية؛
2.    الدور الوظيفي الملاحظ في نجاحها النسبي في الاضطلاع بممارسة وظائف الدولة في المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد وقدرتها على تمثيل جميع مكونات المجتمع المحلي واتجاهاته السياسية والفكرية واستقطاب الكفاءات وتأهيل قادة المجتمع المحلي للمشاركة في إدارة الشأن العام؛
3.    الاعتراف السياسي من قبل جميع الأطراف حيث اضطر النظام للتعامل مع بعضها وعقد معها مفاوضات (اتفاق الزبداني) وكذلك المنظمات الإقليمية والدولية التي تعتبر الكثير من المجالس المحلية شريكاً أساسياً في تنفيذ عملياتها الإنسانية، كذلك المعارضة السورية والفاعليات المحلية والدول التي تواصلت معها ورتبت شراكات معها فضلاً عن حضورها في وثائق الحل السياسي.
ويمكن إيجاز أبرز ما يُعيق إمكانية تطور الدور السياسي للمجالس بما يلي:
1.    نظرة القائمين عليها بأنها هيئات يغلب عليها الطابع الخدمي؛
2.    تضارب المصالح وتنازع الأدوار بين المجالس المحلية من جهة والقوى العسكرية والسياسية للمعارضة من جهة أخرى؛
3.    غياب عملية سياسية مستقرة تتيح للمجالس ممارسة دور متقدم يتجاوز الدور الخدمي.


المجالس المحلية وقوى المعارضة: منظور إيجابي لعلاقات متشابكة

أظهرت نتائج الاستطلاع تقييماً مقبولاً بشكل عام من قبل عينة المجالس لعلاقتهم بمؤسسات المعارضة الرسمية كالائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة، حيث وصف 37% من العينة علاقتهم بالائتلاف بالإيجابية عموماً مقابل 25% ممن رأوا بأنها سلبية، ووصفها 38% بأنها مقبولة. وفيما يتعلق بالحكومة المؤقتة، عبَّر 45% من العينة عن تقييم إيجابي للعلاقة معها مقابل 21% وصفوها بالسلبية، و34% أشاروا بأنها مقبولة.

 3


وينسحب التقييم الإيجابي أيضاً على العلاقة التي تربط المجالس بفصائل المقاومة الوطنية، حيث عبَّر ما نسبته 89% من العينة بأنها جيدة جداً أو جيدة، فيما أفاد 10% أنها مقبولة، مقابل 1% وصفوها بالسلبية.

 4


**تتحدد علاقة المجالس بمؤسسات المعارضة الرسمية بعدة متغيرات أبرزها:

1.    الدعم المادي؛
2.    الشرعية السياسية والدولية؛
3.    الدور الوظيفي؛
4.    العلاقات الشخصية.

وبناء على ما سبق يمكن تفسير التقييم الإيجابي لهذه العلاقة بما يلي:

1.    إدراك المجالس أن ضعف دور مؤسسات المعارضة الرسمية يتصل بعوامل موضوعية، كالإرادة الإقليمية والدولية، أكثر مما يتصل بعوامل ذاتية ذات صلة بالمعارضة نفسها؛
2.    اعتقاد المجالس بأهمية وجود جهة مركزية تنسق عمل المجالس المحلية وتدير أولويات عملها إضافة إلى الحاجة لوجود حامل سياسي على المستوى الوطني يزيح عن كاهل المجالس المحلية هذا العبء ويصرفها باتجاه ميادين الخدمة والإدارة المحلية؛
3.    وجود علاقات شخصية بين أعضاء المجالس وشخصيات المعارضة الرسمية، إضافةً إلى عضوية بعض أعضاء المجالس في بُنى المعارضة السياسية الرسمية؛
4.    وجود اعتمادية نسبية من قبل المجالس على هذه المؤسسات كقنوات رسمية للتواصل مع الجهات الداعمة.

ومن جهة أخرى، تطورت علاقة المجالس المحلية مع فصائل المقاومة الوطنية من تضارب مصالح إلى علاقات تتسم بالإيجابية دون أن ينفي ذلك استمرار التنافس بينهما ولكن بأشكال أخرى، ويمكن تفسير هذا التحول بعدة عوامل أبرزها:

1.    إدراك الفصائل لأهمية مشروع المجالس في إدارة شؤون المجتمعات المحلية وأن تعاونهم معها في حل قضايا المجتمع المحلي يسهم في تعزيز شرعيتها؛
2.    التحول في آليات تدخل الفصائل في المجالس من تدخل مباشر كان يمارس على اختيار المجالس وعملها إلى آخر يتم من خلال قنوات مجتمعية (هيئات محلية ووُجهاء) وهو ما ساهم في تخفيف الاحتكاك السلبي بين الطرفين.



منظور المجالس للعملية التفاوضية: قبول مشروط بحل سياسي محفوف بالمعوقات

حظيت مقولة الحل السياسي للقضية السورية بقبول إقليمي ودولي لاسيما بعد تنامي التهديدات الأمنية والأزمات الإنسانية للصراع وتجاوزهما حدود الجغرافية السورية. وفي إطار دفع العملية التفاوضية تم إصدار عدد من القرارات الأممية وتشكيل هيئة عليا للتفاوض لتكون طرفاً مفاوضاً لنظام الأسد انبثقت عن مؤتمر الرياض للمعارضة السورية بعد أن كان التفاوض على المستوى الوطني من اختصاص الائتلاف الوطني، وتم عقد جولة من المباحثات إلا أنها لم تُحقق إنجازاً يُذكر في جسر الهوة بين طرفي التفاوض. وعلى اعتبار أنَّ المجالس المحلية هيئات شرعية تُمثل رأي السكان المحليين، إضافةً إلى أنه سبق لها القيام بمفاوضات محلية مع نظام الأسد في عدة حالات غلب عليها الطابع المحلي ومن أهمها اتفاقيات الهدن، كان من المهم استطلاع رأيها حول العملية التفاوضية. وقد عبَّر 57% من عينة المجالس عن قبولها لفكرة التفاوض مع نظام الأسد من حيث المبدأ كوسيلة للحل النهائي في حين عارض ذلك 38% من العينة نفسها، وعزف 5% عن التعبير عن رأيهم حيال فكرة التفاوض.

5

ومن الجدير بالذكر أن قبول المجالس المحلية للتفاوض مع نظام الأسد لا ينسحب على قبولها لاتفاقيات الهدن المحلية، حيث عارض ثلثا العينة اتفاقيات الهدن المحلية باعتبارها تصُبّ في مصلحة نظام الأسد، مقابل تأييد ما يزيد عن ريع العينة بقليل لفكرة الهدن باعتبارها تصُب في إنعاش المجتمعات المحاصرة، في حين عزف 15% من العينة عن إبداء رأيهم في هذا الموضوع.

6


**عقد النظام السوري وحلفاؤه منذ بداية عام 2013 عدداً من الهدن مع الفاعلين المحليين في المناطق التي خرجت عن سيطرته، تتركز في مناطق ذات أهمية استراتيجية كالموقع الجغرافي أو الثقل الديمغرافي وهو ما يتبين من خلال انتشارها في محيط العاصمة وحمص ودرعا وحماة. وقد بلغ عددها تقريباً -بغض النظر عن استمراريتها أو انتهائها-ما يزيد عن 27 هدنة يُضاف إليها عدد من الهدن التي ما يزال التفاوض بشأنها قائماً في عدة مناطق من محافظات القنيطرة ودرعا وريف دمشق.

وقد لجأ النظام إلى الهدن كحلول تسكينية محدودة مدفوعاً بعاملين أساسيين:

1.    عسكري-أمني: فنظراً لعدم قدرته على الحسم العسكري في ظل انخفاض قدرته التعبوية على شن عمليات عسكرية بشكل متزامن في عدة مناطق لجأ النظام إلى المفاضلة بين مناطق استراتيجية وأخرى يمكن الاستغناء عنها تكتيكاً؛
2.    سياسي: دفع النظام رؤيته للحل السياسي القائمة على تحوير المطالب من حل سياسي شامل يقوم على إعادة توزيع السلطة وإشراك ممثلين عن قوى المجتمع السوري في الحكم بما يكسر من احتكار السلطة والموارد إلى مطالب محلية تتمحور حول مطالب إنسانية بالدرجة الأولى. بالمقابل اضطُرت عدد من المجالس المحلية للقبول بالهدن لتحقيق مكاسب محلية في مقدمتها إنهاء المأساة الإنسانية في ظل استمرار الصراع واستنزاف كلا الطرفين وترهل استجابة المجتمع الدولي لمطالب الشعب السوري. ويمكن الاستدلال على ما سبق بنوعية المطالب التي تضمنتها اتفاقيات الهدن وفي مقدمتها رفع الحصار وإخراج المعتقلين ووقف القصف وإعادة الخدمات الأساسية.

ويمكن أن يفسر الموقف الرافض لاتفاقيات الهدن والذي بلغ ثلثي العينة بما يلي:

1.    الأثر المتدني للهدن على أحوال ومعيشة المجتمعات المحلية وهو ما تعزز صحته الوقائع الميدانية؛
2.    عدم التزام نظام الأسد بالبنود الواردة في اتفاقيات الهدن لا سيما فيما يتعلق بإخراج المعتقلين والسماح للمواد الإغاثية بالدخول للمناطق المحاصرة فضلاً عن تقييد حركة السكان المحليين في مناطق الهدن؛
3.    غياب ضمانات جدية لاتفاقيات الهدن وضعف آليات مراقبتها؛
4.    الخشية من التأثير السلبي لاتفاقيات الهدن على الحراك الثوري من خلال اختراقه أمنياً وإغراق مناطق الهدن بالأزمات.


وعلى الرغم من قبول المجالس لفكرة التفاوض مع نظام الأسد إلا أنهم يشترطون اتخاذ الأخير إجراءات محددة رتبتها المجالس من حيث أولويتها وفق الآتي:

1.    وقف إطلاق النار والقصف الجوي؛
2.    سحب الميليشيات الأجنبية؛
3.    إطلاق سراح المعتقلين؛
4.    فك الحصار عن المناطق المحاصرة؛ وأخيراً إدخال المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة من الصراع.

7

وفي حين يتمسك وفد الأسد بموقفه القائم على أولوية محاربة الإرهاب ويعتبره بوابة الحل السياسي، تُصرّ المعارضة والقوى الوطنية على ثوابتها في ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات كاملة لإدارة ملفات المرحلة الانتقالية. وحول رأي المجالس المحلية فيما يخصّ أولويات التفاوض، أكدت غالبية العينة بما نسبته 89% على ضرورة حصر موضوع التفاوض ببحث قضية هيئة الحكم الانتقالية، في حين رأى 9% بوجوب تطرق المفاوضات لموضوعَي هيئة الحكم الانتقالية ومحاربة الإرهاب.

8

وفيما يخص موقف المجالس المحلية من الهيئة العليا للمفاوضات ومدى تمثيلها لها، أظهرت النتائج أن 55% من العينة يرَون أن هيئة التفاوض تُمثل المجالس، في حين تبنَّت النسبة المتبقية موقفاً مُغايراً.

9

أما فيما يخص إجراءات التفاوض وسياق العملية التفاوضية، فقد أبدت غالبية المجالس المحلية تأييدها لإجراء التفاوض، إلا أنها في الوقت نفسه لا تنظر بإيجابية إلى السياق والتوجه الذي ستبدأ من خلاله العملية السياسية نظراً لاعتقادها بوجود العديد من المعوّقات التي تحول دون نجاح العملية التفاوضية والتي رتبتها المجالس المحلية كالآتي:

1.    عقدة الأسد؛
2.    غياب إجماع دولي؛
3.    غياب جهة تمثل السكان؛
4.    الفصائل العسكرية؛
5.    المعارضة السياسية.

10


**ينطلق قبول المجالس المحلية لمبدأ التفاوض مع نظام الأسد من عدة اعتبارات، أهمها:

1.    وجود قناعة لدى المجالس بصعوبة الحسم العسكري وفق معايير الواقعية السياسية وخاصة بعد التدخل الروسي، مقابل وجود قبول إقليمي ودولي لأطروحة الحل السياسي لتسوية الصراع؛
2.    استثمار أداة المفاوضات لتحقيق مكاسب خدمية وإنسانية وحقوقية؛
3.    إحراج النظام سياسياً واختبار جديته في التوصل لحل سياسي.

وإن كانت المجالس تميل للقبول بالتفاوض إلا أنه قبول مشروط بمحددات تشكل مجتمعة السقف السياسي المجمع عليه من قبل المجالس وهي:

1.    وقف إطلاق النار وإيقاف العمليات العسكرية؛
2.    سحب الميليشيات الأجنبية من الأرض السورية؛
3.    تحقيق المطالب الإنسانية التي نصت عليها القرارات الأممية من إطلاق سراح المعتقلين وفك الحصار عن المناطق المحاصرة وإدخال المساعدات الإنسانية دون قيود؛
4.    الحفاظ على وحدة سورية وإدارتها من خلال هيئة حكم انتقالية لا مكان للأسد فيها؛
5.    إعادة تشكيل المؤسسة الأمنية والعسكرية على أسس وطنية؛
6.    محاسبة المتورطين في ارتكاب جرائم بحق الشعب السوري.

ويلحظ من ترتيب المجالس لإجراءات ما قبل التفاوض تركيزها على المطالب ذات الطابع الأمني والعسكري عوضاً عن تركيزها على المطالب الإنسانية، ويمكن تفسير ذلك باعتقاد المجالس بأن ما تواجهه من أزمات إنسانية هو نتيجة لتأزم الوضع الميداني، وبالتالي فإن وقف التصعيد العسكري وسحب الميليشيات سيعزز من قدرتها على التعامل مع الملفات الإنسانية والأزمات الخدمية. ورغم تأييد ما يزيد عن نصف عينة المجالس بقليل للهيئة العليا للتفاوض إلا أن النسبة المتبقية لا تعتبر الهيئة ممثلة لها وهي تمثل كتلة حرجة لا يستهان بها، ويمكن تفسير موقفها بعاملين رئيسين وهما:

1.    طريقة تشكيل الهيئة العليا للتفاوض وشعور المجالس باستمرار تهميشها؛
2.    ضعف التواصل بين الهيئة العليا للتفاوض والمجالس المحلية للاستماع إلى رأي الأخيرة حول مجريات الأحداث ومعرفة آخر التطورات السياسية من قبل الهيئة باعتبار أن المجالس معنية بالأمر أكثر من غيرها لاحتكاكها اليومي بالسكان المحليين وتمثيلها لهم.


وضمن تصورات الحل السياسي تُطرح قضية شكل الدولة والصيغة الأمثل لإداراتها، حيث تتراوح الطروحات بين اللامركزية السياسية واللامركزية الإدارية. وبالنظر إلى موقف المجالس المحلية حيال نمطي الإدارة فقد أظهرت النتائج تبني ما يزيد عن ثلثي العينة بقليل للامركزية الإدارية، مقابل تبني ما يقارب ثلث العينة للامركزية السياسية.

16

كما أشارت غالبية العينة إلى ضرورة وجود إطار ناظم لعملها على المستوى الوطني وهو ما عبر عنه 98% من العينة، مقابل معارضة 2% لهذا التوجه.

12


**إن ميل المجالس المحلية للامركزية الإدارية كنمط لإدارة الدولة السورية ينبع من حرصها على وحدة سورية واعتقادها بأن منح المجتمعات المحلية صلاحيات أوسع ضمن اللامركزية الإدارية كفيل بأن يحقق مطالبها في الجوانب الخدمية والتنموية والثقافية، بالمقابل فإن اللامركزية السياسية من شأنها أن تؤدي إلى إيجاد كيان سياسي هش قوامه وحدات سياسية متنافسة فيما بينها وهو ما ينبئ بصراعات مستمرة. وفيما يخص تأييد المقترح بخصوص تشكيل إطار وطني ناظم لعمل المجالس فإنه ينبع من التزام المجالس بالشراكة على المستوى الوطني مع الإدارات المحلية من جهة وقناعتها بأنها بحاجة إلى إطار وطني يُنسق الأولويات ويشكل مرجعية إدارية لها في مزاولة مهامها.


دور مأمول وتحديات قائمة للمجالس في المرحلة الانتقالية

تُعتبر المجالس المحلية أحد الآليات التي يُعول عليها لإدارة المرحلة الانتقالية بحكم شرعيتها من جهة وما تراكم لديها من خبرات في إدارة ملفات هذه المرحلة من جهة أخرى. وفيما يتعلق بترتيب المجالس لأولوياتها في المرحلة الانتقالية فقد جاءت وفق الآتي:

1.    توفير الخدمات الأساسية؛
2.    تعزيز السلم الأهلي؛
3.    توفير الأمن المحلي والتنمية الاقتصادية؛
4.    دفع العملية السياسية.

13

وأشارت نتائج الاستطلاع إلى إدراك المجالس المحلية أنَّ دورها في المرحلة الانتقالية منوطٌ بقدرتها على التعامل مع التحديات التي ستُواجهها والتي رتبتها وفق الآتي:

1.    ضعف الموارد؛
2.    التجاذب السياسي والانقسام المجتمعي؛
3.    الحصول على الشرعية؛
4.    صعوبات أمنية.

14


**يفسر تركيز المجالس المحلية على أولوية توفير الخدمات في المرحلة الانتقالية بقناعتها بأن دورها خدمي بالدرجة الأولى وهو ما أظهرته نتيجة سابقة ذات صلة بالموضوع، بالإضافة إلى اعتقادها بأن الخدمات هي الحاجة الأبرز للسكان المحليين وأن نجاحها في توفيرها يمنحها الشرعية المحلية ثم الدولية، كما يُسهم في استعادة الأمن والاستقرار للمجتمعات المحلية. وتدرك المجالس أيضاً أن العائق الأكبر أمام ممارسة مهامها في المرحلة الانتقالية يكمُن في ضعف الموارد وهو ما يفسر بحجم الطلب الكبير على الخدمات المهيئة للاستقرار من قبل السكان المحليين.


الخاتمة

تُمارس المجالس المحلية بشكل عام ثلاثة أدوار وهي:

1.    الدور الخدمي؛
2.    الدور السياسي؛
3.    الدور التنموي.

ورغم أن نتائج الاستطلاع أظهرت ميل المجالس المحلية في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية للتركيز على الدور الخدمي على حساب الدور السياسي لاعتبارات عدة، إلا أنها مارست الفعل السياسي في عدة مناسبات ومن أبرز تجلياته: إصدار بيانات ومواقف سياسية تمثل رأي المواطنين الذين منحوها الشرعية الحقيقية على الأرض، حضور فعاليات سياسية، تنظيم مظاهرات، عقد مصالحات مجتمعية، إجراء مفاوضات محلية مع النظام والقوات الموالية له، إبداء الرأي في العملية التفاوضية.

وفي ظل الحراك السياسي القائم لدفع العملية التفاوضية للتوصل إلى حل سياسي ينهي الصراع الدائر، فإنه من الأهمية بمكان تعزيز الدور السياسي للمجالس واستثماره لأجل تعزيز الموقف التفاوضي للمعارضة ولاحقاً لدفع العملية السياسية وحماية المكتسبات الناجمة عنها من محاولات الثورة المضادة الرامية لإجهاض الحراك الثوري. ولا يخفى على المراقب أن المجالس المحلية تملك كموناً عالياً يؤهلها لتشكيل هيئات سياسية مستندة على شرعية شعبية محلية تجعلها تتفوق عن كافة الأجسام السياسية الحالية.

ولتحقيق ما سبق يتوجب توفير حزم دعم تستهدف تعزيز قدرات وموارد المجالس وتمكينها مؤسسياً من الصمود في وجه التحديات المختلفة من خلال رفدها بعوامل النجاح المؤسسي والمالي وبرامج بناء القدرات والتدريب المستمر لاسيما فيما يتعلق بالعمل السياسي، إضافة إلى تأطير علاقة المجالس بغيرها من هيئات الحراك الثوري المدنية والعسكرية على قاعدة وحدة الهدف ووفق مبدأ توزع الأدوار وتكاملها.



ملحق: معلومات الاستطلاع

تاريخ الدراسة: من 1-1-2016 إلى 3-2-2016
عينة الاستطلاع: 105 مجلس محلي
التنفيذ: مركز عمران للدراسات الاستراتيجية

جدول توزع العينة

15

منهجية البحث

1.    مجتمع العينة
تم اختيار عينة غرضية من ضمن المجالس المحلية للمحافظات والمجالس الفرعية التابعة لها، وذلك في المناطق الخارجة كلياً أو جزئياً عن سيطرة نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية والإدارة الذاتية الكردية، نظراً لقدرة المجالس في هذه المناطق على القيام بأدوار عدة ضمن الحدود الإدارية لمناطقها.

2.    حجم العينة وتوزيعها
شملت عينة الاستطلاع 105 مجلساً محلياً من إجمالي عدد المجالس الموثقة والبالغ 427. حيث استجاب من كوادر تلك المجالس 62 رئيس مجلس و32 عضو مكتب تنفيذي و11 عضو مجلس، فيما توزعت العينة على محافظات دمشق وريف دمشق وحلب وإدلب ودرعا والقنيطرة وحمص وحماه اللاذقية، وتفاوت توزع العينة على المجالس الفرعية وفقاً لتفاوت عدد المجالس الفرعية في كل محافظة.

3.    وثوقية العينة
حرص الباحثون على طرح أسئلة الاستبيان وعرضها على المستجيبين بغض النظر عن آرائهم الشخصية أو توقعهم لاتجاه نتائج الاستطلاع، كما تم التركيز على صياغة الأسئلة بطريقة محايدة لا تؤثر على آراء المستجيب.

4.    مدة الاستطلاع
استغرقت عملية الاستطلاع ما يزيد عن الشهر، حيث بدأ التواصل مع المجالس المحلية اعتباراً من 1-1-2016 وحتى 3-2-2016، تلا ذلك عملية تفريغ البيانات ثم تحليلها واستخلاص النتائج النهائية.

5.    منهجية التحليل
تم تقسيم عملية التحليل إلى جزأين وفق هدف الدراسة المتمثل في رصد توجهات المجالس المحلية ومدى اضطلاعها بأدوارها على المستويين الإداري والسياسي ، وبالتالي فإن هذا القسم من التحليل يتناول نتائج الاستطلاع ضمن التساؤلات التي تم طرحها حول دور المجالس المحلية في التأثير على العملية السياسية، وموقفها من الأداء السياسي للبنى السياسية الثورية وتفاعلها مع الاستحقاقات المختلفة، والميل السياسي العام للمجالس المحلية، في حين سيتناول القسم الثاني من التحليل  الدور الإداري للمجالس المحلية ومدى حيازتها لأهم مقوماته ومسؤولياته.

وتأتي عملية إدماج عملية الاستطلاع للدورين السياسي والإداري من منطلق وجود جدلية مستمرة بين فاعلية دور المجالس المحلية في الدفع السياسي ودورها الرئيس في إدارة المجتمعات المحلية وتحقيق مصالحها وتمثيلها.

التصنيف أوراق بحثية

بقدر ما عكسته الهدنة من هشاشة تتبع لطبيعة التعاطي الدولي مع الملف السوري؛ إلا أنها فرضت متغيرات جديدة على واقع الصراع السوري. فالهدنة التي فشلت إلى حد ما في تثبيت وقف إطلاق النار؛ نجحت بشكل أكبر في فرض مجموعة من المعطيات الجديدة على الأرض، والتي استتبعت استراتيجيات جديدة من الفاعليين المحليين، واستحدثت مسارات مختلفة في التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، لتبدأ بصياغة واقع مختلف عما قبل الهدنة لا يزال قيد التشكيل، تكاد تبرز ملامحه عبر مجموعة المتغيرات التي فرضتها الهدنة على الأرض. ما يضع المعارضة السورية أمام تحديات جمة على كل الصعد، ويفرض عليها ديناميات داخلية لتحرك فعال على المستوى التكتيكي والاستراتيجي.

أعلنت كلٌ من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية في بيان مشترك بتاريخ 27 فبراير/شباط 2016 عن التوصّل لاتفاق هدنة في سوريا يستثني كلاً من تنظيمي "الدولة الإسلامية" و "جبهة النصرة". وقد بُنيَ الاتفاق على أرضية مشتركة بين موسكو وواشنطن بدعم دولي، لتثبيت وقف إطلاق النار والأعمال العدائية، واستئناف العملية السياسية في جنيف وفقاً لخارطة الطريق في القرار 2254.  وشهدت تلك الهدنة منذ بدايتها ما يزيد عن 2000 خرقاً من قبل نظام الأسد، كان آخرها حملة شرسة قادها النظام بدعم من حُلفائه على مدينة حلب بالتوازي مع تعثّر المسار السياسي في جنيف.

ورغم ما عكسته الهدنة من هشاشة نتيجة طبيعة التعاطي الدولي مع الملف السوري، إلا أنها فرضت متغيرات جديدة على واقع الصراع. فالهدنة التي فشلت إلى حدّ ما في تثبيت وقف إطلاق النار، نجحت بشكل كبير في فرض مجموعة من المعطيات الجديدة على الأرض، استتبعت بدورها استراتيجيات جديدة من الفاعليين المحليين، كما استحدثت مسارات مختلفة في التعاطي الدولي والإقليمي مع الملف السوري، لتبدأ بصياغة وتشكيل واقع مختلف عمّا قبل الهدنة؛ الواقع الذي إلى الآن ما زال قيد التشكيل، إلا أن ملامحه تكاد تبرز عبر مجموعة المتغيرات التي فرضتها الهدنة على الأرض.

أولاً: ملامح واقع ما بعد الهدنة

ساهم اتفاق الهدنة وما رافقه من تطورات محلية إقليمية ودولية، بالدفع باتجاه صياغة واقع جديد لمسار الصراع السوري. ويستند هذا الواقع إلى مجموعة متغيرات فرضتها الهدنة على الرغم من أنه لم يتم تثبيتها بشكل نهائي إلا أن ملامحها تكاد ترتسم بوضوح، ولعل أبرزها:

1.    استراتيجية تطويق الأزمة

عكست الهدنة إرادة دولية في تثبيت خطوط التماس بين المعارضة والنظام عبر حدود الهدنة التي تُعد تقسيماً غير معلن لمناطق النفوذ، وتثبيتاً لها إلى أمد يبدو بعيد، إضافة إلى نقل الملف السوري إلى الساحة السياسية عبر المفاوضات في جنيف، مقابل توجيه الفاعلية العسكرية باتجاه محاربة الإرهاب.

2.    تعزيز سياسة المحاور

مع بداية توقيع الهدنة بدأت تلوح في الأفق بوادر لتبلور توافق روسي أمريكي -وإن كان غير متطابق في كل الملفات-ووجهة نظر موحدة حول طبيعة الحل السياسي تُهمش باقي الفاعلين الدوليين في الملف السوري، وهو الأمر الذي أدى إلى تعزيز سياسة المحاور على المستوى الدولي إزاء فرض واشنطن وموسكو رؤيتهما على باقي الفاعلين، حيث بات الفاعل الخليجي إضافة إلى تركيا يمثلون محوراً يتقاطع بدرجة كبيرة مع المحور الأوروبي، مقابل الأسد وطهران اللذان يمثلان محوراً آخر. في حين بدت روسيا وأمريكا اللتان أخذتا تبتعدان عن شركائهما ووكلائهما الإقليمين والمحليين، لتقتربا من تقديم نفسيهما كطرف "راعٍ للحل السياسي وليس ضالع في الصراع"، أقرب لمحور ناشئ في وجه باقي المحاور، من حيث التعاطي مع الملف السوري.

3.    أولوية مكافحة الإرهاب

كرست الهدنة على الأرض اختزال القضية السياسية السورية بملف مكافحة الإرهاب، والسعي لتقديمه على حساب الإشكالية الحقيقية المتمثلة بحضور الأسد، الأمر الذي انعكس في محاولات إخضاع المقاربات السياسية وتفاصيل العملية التفاوضية في جنيف لمدخل مكافحة الإرهاب وأولوياته، مما ساهم بشكل كبير في خلق حالة تعطيلية في مسار المفاوضات السياسية.

4.    استراتيجية جديدة للتنظيم

بحكم استثنائه من الهدنة ونقل الصراع إلى مجال مكافحة الإرهاب، تحوَّل تنظيم الدولة "الإسلامية" إلى هدف معلن لجميع الفاعليين على الأرض، ما فرض على التنظيم تغيير الاستراتيجية العسكرية لتحركاته، والتي بدت خلال الهدنة أنها قائمة على تجنب الفاعلية العسكرية الأقوى، والمتمثلة بقوات نظام الأسد والمليشيات الشيعية وما يؤمَّن لهما من غطاء جوي روسي، إضافة لقوى "سوريا الديمقراطية" وما يؤمَّن لها من غطاء جوي أمريكي، والتوجه إلى الجهة الأضعف عسكرياً، والتي مثلتها مجاميع المعارضة المسلحة، وهذا ما يُفسر انسحاب التنظيم من تدمر وهجماته في ريف حلب الشمالي.

5.    النصرة كإشكالية متنقلة

أدى استثناء جبهة النصرة من الهدنة دون وضع قواعد وآليات محكمة لاستهدافها إلى خلق إشكالية متنقلة في جسد المعارضة العسكرية، نتيجة لتداخل نفوذ النصرة مع أغلب جبهات المعارضة. وقد أدت هذه السيولة إلى تأمين غطاء الشرعية الدولية لاستهدافها من قبل قوات نظام الأسد وموسكو، وإحداث ارتباك حقيقي بين صفوف المعارضة نتيجة عدم وجود أي آليات للتعاطي مع هذا الواقع الجديد. ومن هنا يمكن استنتاج إصرار الروس وبعض الأطراف الدولية في فيينا على استثناء جبهة النصرة من الهدنة، على الرغم من إدراك واقع الأرض المعقد والمتشابك وتحديداً في الشمال السوري، ولكن يبدو أنه كان لابد من تثبيت هدنة تحتمل الخرق على شماعة النصرة.

6. اختبار الخطط البديلة PLAN B

أكدت الخروقات المتكررة للهدنة من قبل نظام الأسد -وخاصة الحملة الأخيرة على حلب التي هددتها بشكل مباشر، إضافة لتعثر المفاوضات السياسية وعدم التعاطي بجدية معها- على عدم وجود أي خطة بديلة PLAN B لدى الفاعلين الدوليين الداعمين للثورة، حيث أظهرت ارتباكاً حقيقياً، وتحديداً أمام الأجندة الإيرانية، واضحة المعالم كبديل للهدنة والقائمة على الحسم العسكري واستعادة المناطق الاستراتيجية من المعارضة وتحديداً  حلب، مما جعل من الهدنة غطاء حقيقياً استثمره الإيرانيون ونظام الأسد لاستكمال استراتيجيتهم بأدوات مختلفة، بل سَعَوا لتطويع الحضور الروسي ضمن هذ الاستراتيجية ما زاد مؤشرات التنافس بين موسكو وطهران.

7. موسكو وطهران ومؤشرات التنافس

كشّفت الهدنة وما شهدته من تطورات عسكرية على الأرض، عن تصاعد مؤشرات التنافس بين موسكو وطهران في الملف السوري، وتحديداً في حلب، والذي لم يصل لدرجة التضارب ولكن بات يبدو بشكل واضح تنافساً حول التصور المختلف لطبيعة الحل السياسي لكل من الطرفين. ويبدو من هذا التنافس أن الأسد إلى الآن يستفيد من هوامشه مع الاقتراب بشكل أكبر من الأجندة الإيرانية ومحاولة تجاوز الالتزام الروسي بالهدنة في حلب. ولعل خسارة الأسد والإيرانيين التي بدأت في "تل العيس" وانتهت في "خان طومان" بريف حلب الجنوبي، وهي مناطق نفوذ المليشيات الإيرانية؛ مثّلت رسالة واضحة من الروس لعدم تدخلهم في نجدة النظام، بأن الدعم الروسي أساس للصمود والتقدم، وهي الرسالة التي سبقها تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأن "الأسد ليس حليفنا"، في محاولات سعي موسكو لتقديم نفسها كراعٍ للحل السياسي وليس طرفاً تابعاً للأجندة الإيرانية. انظر الخريطة رقم (1)

خريطة رقم (1) توضح مواقع النفوذ والسيطرة – ريف حلب الجنوبي – 10 أيار 2016


8. ضعف استراتيجية المعارضة

عادت الهدنة من جديد لتؤكد على مجموعة من نقاط الضعف في بنى المعارضة العسكرية على مستوى عدم وضوح الاستراتيجية الدفاعية لصد الخروقات أو على مستوى الردود التكتيكية، ما حال بينها وبين استثمار الهدنة لصالحها، وهذا ما انعكس في خلافات القوى العسكرية في الغوطة الشرقية (جيش الإسلام/فيلق الرحمن)، إضافة للتحركات غير المحسوبة في ريف حلب الشمالي. ويُقابل ذلك التعثر نهج أكثر وضوحاً لنظام الأسد، والذي طوع عبره الهدنة والعملية السياسة كغطاء لتحركات وخروقات عسكرية لا تبدو عبثية بقدر ما تبدو مدروسة، إذ توزعت خروقات النظام على عدة مستويات، أبرزها:

- خروقات استنزافية تهدف إلى استنزاف فصائل المعارضة العسكرية فقط، كمعارك الساحل الأخيرة والقصف المتواصل على جبال الأكراد والتركمان.
- خروقات للضغط السياسي كالمجازر التي ارتكبتها قوات الأسد في مدينتي كفرنبل ومعرة النعمان، إثر إعلان الهيئة العليا للتفاوض عن تعليق مشاركتها في مفاوضات جنيف.
- خروقات استراتيجية تمثلت في الحملة الأخيرة على حلب والسعي لحصارها وإبعادها خارج نطاق الهدنة.

إن مجمل تلك الوقائع التي أفرزتها الهدنة وتقاطعها مع الظرف الإقليمي والدولي، تبدو بأنها تصب في مصلحة الأسد وحلفائه، والذين يسعون للتماهي معها واستثمارها عبر عدة أدوات سياسية وعسكرية، أبرزها:

1.    الهدن المحلية التي يتبعها نظام الأسد في محيط دمشق، لضبط حزام العاصمة.
2.     الاعتماد على الخروقات المنظمة خارج هذا الحزام لاستنزاف قوى المعارضة.
3.    استثمار الفاعلية الروسية للتوسع في مناطق تنظيم الدولة وتقديم نفسه كشريك في مكافحة الإرهاب.
4.    استخدام أدوات التعطيل السياسي في جنيف، سواء عبر سياسة الإغراق بالتفاصيل التي يتبعها النظام، أو بعض المنصات التي ساهم بتشكيلها لخرق جسد المعارضة (حميميم، الأستانة، القاهرة).
5.    استغلال المزاج الدولي القائم على تراجع الفاعلية الأمريكية في الملف السوري وتقارب وجهة نظر واشنطن وموسكو لتصور الحل السياسي، والقلق الأوروبي إزاء مكافحة الإرهاب وملف اللاجئين، وتراجع الفاعلية العربية نتيجة

تعقد ملفات دول الربيع العربي والدعم من بعض الأنظمة العربية، إضافة إلى رضى حذر من تل أبيب إزاء هذا الوقع المعقد في سورية والاكتفاء بمنطقة آمنة في الجنوب، وانحسار وارتباك أدوات المحور الثلاثي (تركيا، السعودية) أمام الحاجز الأمريكي الروسي.

إن ما يلجأ إليه الأسد وحلفائه ولايزالون خلال فترة سريان الهدنة؛ يضع المعارضة السورية أمام تحديات جمة على كل الصعد، ويفرض عليها ديناميات داخلية لتحرك فعَّال على المستوى التكتيكي والاستراتيجي، فبقدر ما تمثله المرحلة المقبلة من محاولات تضييق لأفق المعارضة؛ إلا أنها لاتزال تؤمن هامش تحرك حقيقي قد يحوِّلها من طرف متأثر إلى طرف مؤثر في الواقع الذي لايزال قيد التشكل.

ثانياً: هوامش تحرك المعارضة السورية

إن محاولات تثبيت الهدنة وفرض خارطة طريق في القرار 2254 لا يمثل بداية حل للأزمة السورية، بقدر ما يُنذر بنقل الصراع إلى صُعد مختلفة تماماً، وتشكيل واقع جديد يتناسب ووجهة النظر الأمريكية الروسية (قيد التشكل)، الأمر الذي يتطلب من المعارضة تغيير الأدوات واستحداث أخرى تتناسب والظرف القائم، والذي يُمثل تهديداً حقيقياً للثورة السورية. إن هذا يفرض على المعارضة التحرك على عدة مستويات واستغلال ما يتاح لها من هوامش التجاذبات الدولية وخلق أخرى تصب في صالح الثورة، ولعل أبرز التحركات التي يفرضها واقع الهدنة -وما سبقه وما قد يتلوه-على المعارضة السورية، تتمثل فيما يلي:

1.    على المستوى العسكري

•    تشكيل غرف عمليات مشتركة على مستوى المحافظات ومحاولة استثمار الهدنة لإعادة هيكلية حقيقية وتدعيم نقاط الضعف في جسد المعارضة وتقوية نقاط الاشتباك مع النظام.
•    رسم سيناريوهات جاهزة للخروقات المحتملة للهدنة من قبل نظام الأسد، وتحديد أساليب وآليات الرد وفقاً لتحديد نقاط ضعف النظام والجبهات الأقوى للمعارضة، بحيث تخرج الردود على الخروقات من خانة ردَّات الفعل لتقترب من الاستراتيجية، ومن الحالة الدفاعية إلى الهجومية.
•    استثمار الهدنة للتوسع وكسب أراضٍ جديدة على حساب تنظيم الدولة، لإبعاد خطر شن حملات مشتركة "تخادم" بين نظام الأسد والتنظيم على مناطق المعارضة. ويمكن أن يتم ذلك عبر توجيه فاعلية عسكرية منظمة باتجاه مناطق سيطرة التنظيم، والسعي لاحتكار نقاط الاشتباك معه وتعزيزها، لتأمين مناطق نفوذ للمعارضة بالدرجة الأولى، وقطع الطريق على القوى الساعية لاحتكار نقاط الاشتباك مع التنظيم استعداداً لمرحلة مكافحة الإرهاب.
•    محاولة التوصل إلى اتفاق مع جبهة النصرة، يضمن إبعاد تجمعات عناصرها ومقراتها الرئيسية عن مناطق المدنيين، وذلك لسحب ذريعة قصف المدنيين بحجة مكافحة الإرهاب.
•    مقاومة محاولات تجزئة الهدنة من قبل النظام وحلفائه وسياسة الاستفراد بالمناطق، كالمحاولات الأخيرة للدفع بحلب خارج طوق الهدنة، ما يفرض على المعارضة العسكرية التعاطي مع الهدنة بشكل شامل جغرافياً، كإشغال عدة جبهات لفرض عودة جبهة واحدة إلى الهدنة. وهنا يبرز أهمية تشكيل غرف العمليات على مستوى المحافظات ورفع وتيرة التنسيق العسكري البيني. بالمقابل فإن المعارضة السياسية تمتلك في مواجهة استراتيجية تجزئة الهدنة أدوات التعطيل السياسي عبر تعليق المشاركة في المفاوضات أو الانسحاب منها.

2.    على المستوى السياسي

•    السعي دولياً لاستثمار عدم تطابق الرؤى الإيرانية -الروسية حول مستقبل سورية السياسي، والاستفادة من هوامش التنافس بين موسكو وطهران في هذا الإطار، ما يفرض على المعارضة التحرك باتجاه الانفتاح الجزئي على موسكو، خاصة وأن وجهة النظر الروسية تكاد تتماهى مع الأمريكية، وتحول الروس إلى فاعل لا يمكن تجاوزه في الملف السوري.
•    استثمار الموقف الأوروبي (بريطانيا، ألمانيا، فرنسا) باتجاه زيادة الضغط من خلال الملف الإنساني ضمن التفاوض، وترجمة خروقات النظام خلال الهدنة وما تخللها من جرائم الحرب إلى قرارات دولية صادرة عن مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، بدعم تلك الدول.
•    الدفع باتجاه ضغط سعودي على النظام المصري، لاستثمار ترأس جمهورية مصر العربية لمجلس الأمن في الشهر الحالي، لإحالة خروقات النظام والملف الإنساني إلى مجلس الأمن، علماً أن المندوب المصري قد عطّل اقتراح بريطانيا وفرنسا لإحالة ملف حلب إلى مجلس الأمن.
•    الدفع باتجاه قيام المملكة العربية السعودية بضبط موقف عربي موحد، يعترف بالهيئة العليا للتفاوض كممثل شرعي وحيد للشعب السوري في المفاوضات، ومنع تشكُّل محور لدى بعض الدول العربية يقترب من المشروع الروسي للحل عبر منصات بديلة.
•    سعي الائتلاف والهيئة العليا للتفاوض لقطع الطريق على أي محاولة من المنصات السياسية المستحدثة في جنيف (حميميم، الأستانة، القاهرة، مجلس المرأة الاستشاري)، لإحداث أي شرخ داخل جسد الهيئة، وذلك عبر تدعيم بنية الهيئة، وحشد الشارع السوري من خلال تظاهرات في الداخل ودول الشتات، لإعلان أن الهيئة العليا هي الممثل الشرعي الوحيد عن الثورة السورية في مفاوضات جنيف.

3.    على المستوى الاستراتيجي

طالما أن المزاج الدولي يسير باتجاه إدارة الأزمة وتطويقها عبر الهدنة لأمد متوسط على الأقل؛ فهذا يفرض تعزيز إدارة المناطق المحررة بشكل فعَّال، عبر زيادة تمكين القوى المحلية المدنية، المتمثلة بالمجالس المحلية والسعي لشرعنتها دولياً. وتُعتبر هذه الخطوة مُلحة واستراتيجية بالنسبة للمعارضة لعدة أسباب أبرزها:
أ‌.    تسيير وخدمة شؤون المدنيين في ظل أزمة قد تطول، مما يعزز شرعية المجالس التي تستند أصلاً لسلطة الشعب انتخاباً أو توافقاً.
ب‌.    تأمين شرعية دولية للمناطق المحرّرة، عبر القوى المحلية المدنية على الأرض.
ت‌.    إعادة تشغيل مؤسسات الدولة الإدارية، بعد أن دمرها قصف النظام، كخطوة على طريق استعادة وظائف الدولة، وسحب ذريعتها من نظام الأسد.
ث‌.    تفريغ الفصائل العسكرية لمهامها الأساسية في حماية الجبهات وليس الإدارة المدنية.

إلا أن هذه الخطوة تفرض على المعارضة السورية توحيد أطر العمل السياسي العسكري وتوجيهها لدعم القوى المدنية، ما يستوجب على الفصائل العسكرية التنازل عن بعض المهام المدنية التي سيطرت عليها، وإعادة تسليمها إلى المجتمع المدني والتفرغ للجبهات. وقد يساعد في ذلك تشكيل غرف العمليات على مستوى المحافظات، إذ أن نظام القطاعات "الجبهات" ما يزال يعوق تحرك قوى المجتمع المدني، نتيجة تشابك السلطات والنفوذ وفقاً لهذا النظام. بالمقابل لابد من سعي حقيقي من المعارضة السياسية (الهيئة العليا للمفاوضات، الائتلاف الوطني) لحشد دولي سياسي للاعتراف بشرعية المجالس المحلية في الهيئات والمنظمات الدولية، (جامعة الدول العربية، مجلس التعاون الخليجي، مجموعة أصدقاء الشعب السوري، منظمة التعاون الإسلامي) كإدارة مدنية شرعية للأراضي المحررة.

إن إحداث أي تغيير في سياق واقع ما بعد الهدنة، والذي يبدو أنه يسير باتجاه الثبات النسبي، لا يمكن أن يتم قبل تغيير داخلي وحقيقي في استراتيجية المعارضة السورية، عبر دينامية داخلية تفرض نفسها بشكل حقيقي على معادلة التدافع الدولي، مستندة في ذلك إلى تدعيم القرار المركزي –العسكري السياسي-على المستوى الوطني والذي تمت خسارته لصالح عدة أطراف.

إن أساس هذه الدينامية هو الإيمان بالعمل المؤسساتي واليقين أنه الطريق الأكثر نجاعة لإحداث فرق في مسار الثورة السورية ضمن هذه المرحلة الحرجة، والانطلاق من حقيقة أن الثورة هي جزء من التغيير وليست هي التغيير، وإنما هناك آليات ومراحل أخرى لا تكتمل مسيرة التغيير دونها، ولا تقل صعوبة عن الثورة ذاتها.

التصنيف تقدير الموقف

تواصل القوات الروسية استهداف كل من يقاتل "تنظيم الدولة" سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد استهدف قصفها الجوي مقار لقوات الجيش الحر في بداية القصف وغيره من الفصائل التي قاتلت التنظيم من بداية 2014 دونما دعم أو دفع من أي جهة إيماناً بأن الإرهاب دخيل على سورية، وما يستدعي الانتباه استهداف الطيران الروسي المتعمد لبنى الإدارة المحلية التي أفرزتها الثورة في المناطق التي خرجت عن سيطرة قوات الأسد منذ عام 2012 لسد الفراغ الإداري والخدمي الناجم عن تغيب النظام لمؤسسات الدولة عن تلك المناطق، كما حصل مؤخراً في القصف الروسي الذي استهدف المجلس المحلي في ريف حلب. وقد تمكنت المجالس المحلية عقب مرور ما يزيد عن الثلاث سنوات على انطلاقتها من ترسيخ نفسها بحسب القدرات والموارد المتاحة لها كهياكل حوكمة محلية ذات دور مركزي في إدارة شؤون مجتمعاتها مستندة في ذلك على شرعية تمثيلها للسكان.

ولعل ما يفسر استهداف الطيران الروسي للمجالس خشية صانع القرار الروسي من نجاح مشروع المجالس في ترسيخ سلطة بديلة متكاملة ذات شرعية، وتمتلك من المقومات ما يمكنها من الاستمرارية والتعامل بمرونة مع متطلبات المرحلة القائمة والانتقالية، وبالتالي نفي الطرح الذي تتمسك به موسكو والمتمحور حول بقاء نظام الأسد كخيار وحيد ضامن للاستقرار وبأنه الأقدر على محاربة الإرهاب وضمان الأمن المجتمعي. وضمن ما سبق يفهم الحرص الروسي على وقف انهيار نظام الأسد وإبقائه قائماً وإعادة إنتاجه وتسويقه إقليمياً ودولياً من خلال الدعم العسكري والسياسي الذي توفره له ومحاربة أي بديل له.

وتجد مخاوف صانع القرار الروسي ما يدعمها، فقد أثبتت المجالس قدرتها على توفير متطلبات الاستقرار لمجتمعاتها وفق الموارد المتاحة لديها وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الأدوار التي تقوم بها حالياً في ظل تنامي الصراع والتي تشمل توفير الخدمات الحياتية الأساسية كالمياه والكهرباء والنظافة، ولعب دور تنموي لمجتمعاتها سواءً عن طريق إقامة دورات تأهيل ودعم التعليم أو من خلال إقامة مشاريع تنموية لا سيما في القطاع الزراعي، كذلك تقوم المجالس بلعب دور سياسي لا يمكن إغفاله باعتبارها هيئات برلمانية مصغرة يمارس المواطنون من خلالها حقهم في إدارة شؤونهم من خلال حق الانتخاب والترشيح والمحاسبة. كذلك تعتبر المجالس المحلية أحد أبرز الديناميكات التي تهيئ لطرح سياسي متماسك تبنى عليه المرحلة الانتقالية، حيث أنها تستطيع من إعادة بناء الدولة وتحقيق الأمن المجتمعي ومحاربة الإرهاب وتوفير الخدمات وتحقيق العدالة الانتقالية لقدرتها على التعامل بمرونة مع ملفات المرحلة الانتقالية، ومما يؤكد على ما سبق حضور المجالس في عدة مقاربات سياسية للحل طرحت من قبل عدة جهات ومراكز بحثية لم تلقَ القبول الكافي لترجمتها للواقع.

ولعل ما يزيد من مخاطر القصف الروسي على استمرارية مشروع المجالس قصور المقاربة السياسية في التعاطي مع الشأن السوري سواءً من قبل المبعوثين الدوليين الذين طرحوا عناوين للحل السياسي متناسين أصل المشكلة ومرددين لحجج مثل "وحدة المعارضة"، وأيضاً من قبل داعمي الثورة الذين اهتموا بتقوية هياكل المقاومة الوطنية العسكرية لمقاومة النظام والاحتلال الإيراني والروسي وخطر تنظيم داعش في حين لم يتم التركيز من قبلهم على توفير الدعم الفعلي الواجب لتقوية هياكل الحوكمة المحلية التي  تؤسس لاستقرار الحياة المدنية من خلال ما تقوم به من أدوار بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والهيئات المحلية.

وإضافة إلى ما سبق تواجه المجالس المحلية تحديات تؤثر سلباً على تطوير أدائها واستقرارها كتأطير العلاقة بينها وبين فصائل المقاومة الوطنية وتنمية مواردها الذاتية للتقليل من الاعتماد على الجهات المانحة ذات الدعم غير المستقر والمسيس أحياناً، وترسيخ مفاهيم الحكم الرشيد في ممارستها من خلال التأكيد على سيادة القانون والشفافية ومحاربة الفساد والتخطيط الاستراتيجي الأقدر على التعامل بكفاءة مع جذور المشكلة وليس مع نتائجها كما هو قائم، إضافة إلى تحقيق تكاملية إدارية على مستوى المحافظة الواحدة وبين المحافظات وبالتعاون مع مؤسسات المعارضة الرسمية، وبذلك يتم التأسيس لسلطة متكاملة قادرة على أن تواجه استحقاقات التحالف الثلاثي القائم بين النظام وإيران وروسيا لإجهاض الثورة.

وفي النهاية هي رسالة موجهة للمعارضة وفصائل المقاومة الوطنية والدول الداعمة للثورة بضرورة اتخاذ التدابير لحماية المجالس المحلية من الهجمة الأخيرة التي تتعرض لها من قبل روسيا وإيران وتمكينها بشكل أكبر من القيام بمهامها لخدمة السوريين في تشكيل البديل الإداري وتطوير آليات الحكم الديمقراطي المحلي على أسس جديدة تليق بتضحيات السوريين وتعيد الشعور بامتلاك السوريين لقرارهم الوطني وإدارة مواردهم ومقدراتهم ومؤسساتهم.

نشر على موقع السورية نت: http://goo.gl/qXMm8d

التصنيف مقالات الرأي