الإثنين, 21 كانون2/يناير 2019 11:57

الخلاف الأميركي التركي بشمال سورية يتأرجح

في تصريحه لموقع الجزيرة نت بتاريخ 18 كانون الثاني 2019، حول الخلاف الأميركي التركي على إدارة الأوضاع في شمال سورية؛ وضح معن طلاع الباحث في مركز عمران أن أنقرة تريد تلك المناطق غير مهددة لأمنها وبالتالي سحب كافة أنواع التسليح من الحدود فيما تسعى واشنطن لتوفير إطار سياسي يكفل لحلفائها في سورية الأمن والحفاظ على مكتسباتهم، وما بين الطموحين ستبقى تلك المنطقة أسيرة التفاهم الأمني القلق الذي ربما يبقى مجالا للشد والجذب واحتمال لجوء أنقرة إلى مسار أستانا لتحقيق هدفها". 

كما بيّن طلاع أن المسرح السوري سيبقى محكوماً بمنطق "التفاهمات الأمنية الظرفية" بين الفواعل الدولية والإقليمية، إلا أن تلك التفاهمات لم تشهد تطوراً ملموساً على مستوى التركي الأميركي وبشكل يفضي إلى إدارة مشتركة لبعض الملفات العالقة، في ظل سعي واشنطن لتسليم قواعدها بعد انسحابها إلى الأكراد في سورية، في حين تصر أنقرة على إلغاء القواعد نهائيا أو تسليمها إليها لتسلم لاحقا إلى قوى محلية سورية.

 

المصدر الجزيرة نت: http://bit.ly/2T6c0QW

يركز هذا التقرير على توصيف المشهد الميداني قبل الاتفاق والسياق العسكري الذي أفضى إلى اتفاق المنطقة العازلة ويوضح طبيعة هذا الاتفاق ودوافعه ومواقف القوى الميدانية حياله، مستعرضاً أبرز التحديات التي تعترضه لا سيما تلك المتعلقة بالميليشيات الإيرانية المنتشرة على محيط المنطقة او تلك المرتبطة بمصير هيئة تحرير الشام.

ما قبل الاتفاق: معركةٌ قاب قوسين أو أدنى

شهد مطلع شهر سبتمبر/أيلول 2018، تمركز حشود من قِبل قوات النظام وبعض الميلشيات المحسوبة على إيران بالقرب من إدلب، وتحديداً على الجبهات الاستراتيجية في محافظة إدلب([1])؛ إذ أكد النظام وحلفائه (مراراً وتكراراً) أنهم ماضون باتجاه استرجاع محافظة إدلب وذلك ضمن إطار استكمال استراتيجية "بسط السيطرة والنفوذ"؛ ومما عزز دوافع هذا الاسترجاع المتخيل أهمية المحافظة ودورها في تحسين ظروف التنمية التي تشكل أبرز تحديات النظام الراهنة؛ تلك الظروف التي ستتحسن باسترجاع  الطريقين الدوليين (M5)، (M4) وما سيشكله عودة الزخم التجاري من أثر مادي.

ناهيك عن نية النظام استثمار سيناريو "المصالحات" وتطبيقه على إدلب بغية إخراج المعارضة المسلحة هناك عن معادلات الصراع وبالتالي تجاوز أسئلة صراع النظام والمعارضة والانتقال إلى مستويات جديدة؛ وفي سبيل ذلك بدأت خطط الانتشار والتمركز والتي كان أغلبها قريباً من نقاط المراقبة التركية في إدلب، الأمر الذي استدعى من الجانب التركي بإرسال تعزيزات عسكرية على نقاط مراقبتها في كلٍ من:

 

زادت الحشود العسكرية من الجانب التركي والقوات الموالية نسبة التوتر في المنطقة، وارتفعت نسبة العمليات العسكرية من قبل الجبهة الوطنية وهيئة تحرير الشام من جهة وقوات النظام والميلشيات الإيرانية من جهة أُخرى.

بالعموم تشكلت مجموعة من الهواجس الروسية والتركية والتي ساهمت في اختبار الأدوات السياسية للحل، فعلى الجانب التركي ارتفعت وتيرة الحذر من تبعات تلك العملية على المستوى الإنساني التي سترتد بالدرجة الأولى على تركيا لا سيما بتلك المتعلقة بالقدرة على استيعاب موجة اللجوء والتي سوف تترافق مع هجوم قوات النظام، حيث يبلغ عدد سكان محافظة 3 ملايين مدني، ثلثهم من النازحين داخلياً بسبب النزاع المستمر منذ سبع سنوات؛ ناهيك عن الهاجس الأمني التركي الذي يرى بالعملية تهديداً لخطوط الدفاع الأمامية لمنطقتي درع الفرات وغصن الزيتون  وهي مناطق النفوذ التركي المشكلة كواقع صد ضد طموحات الPYD الذي لا يزال يسير بمفاوضات مع النظام؛ لذلك تعد خسارة إدلب أو انسحاب تركيا من نقاطة مراقبتها الـ 12 بمثابة إيعاز بقرب انسحاب تركيا من الشمالي السوري، لذا حاولت تركيا قبل 17 أيلول/ سبتمبر إلى الوصول إلى اتفاق يرضي أطراف الأستانة ولا يضر بمصالحها في الشمال السوري.

أما الهواجس المتعلقة بالجانب الروسي فتتمثل بالدرجة الأولى بعدم رغبة موسكو في إفشال اتفاق الأستانة بحكم اعتباره التحالف الدولي الأقوى الأن في سورية؛ كما تعي روسيا بأن وقوفها ضد الجانب التركي سوف يؤدي إلى تقوية العلاقة الأمريكية-التركية، وهذا أمر قد ينعكس على روسيا بشكل سلبي في سورية؛ كما طمحت موسكو في اختبار الأدوات السياسية بغية الحد من هجمات الطائرات المسيرة (Drones) على المواقع العسكرية الروسي في مطار حميميم وسهل الغاب؛ ناهيك عن أن العدد المحدود للقوات الروسية البرية أو القوات المحلية الموالية لها سيجعل الميليشيات الإيرانية هي القوات الأكثر قدرة على ملء أي فراغ في إدلب،  وهو أمر قد لا ترغب رسيا بحدوثه، خاصة بعد تجاربها في ريف حلب الشرفي، ريف الرقة الجنوبي، ومحافظة دير الزور.

ساهمت تلك الهواجس التركية والروسية في الدفع باتجاه عقد قمة طهران التي جرت في 7 أيلول/سبتمبر 2018 بهدف الوصول إلى مخرج يراعي كافة الهواجس؛ وعلى الرغم من وضوح الخلافات بين تلك الدول في هذه القمة؛ إلا أنه يمكن اعتبارها بمثابة "الخطوة الأولى" ضمن حركة الوصول لاتفاق المنطقة العازلة في إدلب والذي أعلنت عنه كلٍ من روسيا وتركيا في 17 أيلول/ سبتمبر 2018.

منطقة عازلة: تأجيل المعركة أم تزمين مناطق النفوذ

مع إعلان الاتفاق بين روسيا وتركيا حول إنشاء منطقة عازلة في إدلب، نشرت بعض الجهات الرسمية من الجانبين الروسي والتركي مواصفات تلك المنطقة؛ وكان الحديث في بداية الأمر على أنه سيتم اقتطاع 7.5 إلى 10 كم من مناطق الثوار ومثلها من مناطق النظام، أي ممنوع تواجد قوى الثورة السورية وقوات للنظام في هذه المنطقة، وسيتم تسيير دوريات تركية روسية مشتركة فيها، فيما سوف تقوم تركيا بدعم مناطق قوى الثورة السورية لوجستياً، وتبقى روسيا المشرفة على مناطق النظام([3]).

فيما بعد تم توضيح بند انسحاب الفصائل من المنطقة العازلة، وتم التأكيد أن الانسحاب يشمل "القوات المتشددة" بسلاحها الخفيف والثقيل، فيما يحق لقوى الثورة السورية البقاء ولكن تحت إشراف القوات التركية في المنطقة.

تمتد المنطقة العازلة من شمال غرب حلب بالقرب من بلدتي نبّل والزهراء والتي تعتبر من أبرز معاقل الميليشيات الموالية لإيراني في الشمال الحلبي وحتى بلدة صوران شمال حماة، وتلامس المنطقة العازلة حدود مدينة حلب ومعظم الأوتوستراد الدولي (M5) المار بمناطق سيطرة قوى الثورة السورية، وثم تمتد المنطقة العازلة من بلدة صوران شرقاً وحتى السقيلبية، أما الحدود الغربية للمنطقة العازلة فتمتد على طول سهل الغاب الأوسط وحتى جبل التركمان، وكذلك شهدت هذه المنطقة بناء مراكز للشرطة العسكرية الروسية والتي حدث على إثرها خلافات حادة مع قوات الفرقة الرابعة وقوات الدفاع المحلي الموالية لإيران.

ومع نهاية شهر أيلول\سبتمبر 2018، نشرت بعض المواقع الموالية للنظام خبراً تتحدث فيه بأن المنطقة العازلة لن تكون بالمناصفة بين مناطق سيطرتي قوى الثورة والنظام[4]، وأكد الخبر أن المنطقة سوف تكون في مناطق قوى الثورة السورية بعق 15 كلم بدأً من نقاط التماس وهو الأمر الذي تم نفيه من قبل الجبهة الوطنية للتحرير وفيلق الشام([5]).

 

أما فيما يتعلق بمواقف القوى العسكرية المتواجدة في إدلب فترى الجبهة الوطنية للتحرير (على لسان عمر حذيفة الشرعي العام) أن أمر ترسيم المنطقة العازلة هو حل مرحلي وليس نهائي، ولذلك فإن الدخول التركي للمناطق المحررة بحدودها الآنية هو قرار دولي ولن يتم الانسحاب إلا بقرار دولي آخر؛ كما صرح النقيب ناجي المصطفى "المتحدث الرسمي للجبهة الوطنية للتحرير" بأن  النقاط العسكرية التابعة لفصائل قوى الثورة السورية ستبقى تحت سيطرتها، وبكامل جاهزيتها "لأن النظام السوري والميليشيات الموالية لا تلتزم بالعهود والمواثيق".

من جهته وضح العقيد مصطفى بكور "المتحدث الرسمي لجيش العزة" بأن جميع نقاط جيش العزة توجد ضمن المنطقة العازلة، ولكنه ما زال وسيبقى بنقاطه العسكرية، وأي قرار بشأن سحب السلاح الثقيل أو تسليم النقاط سيُحدد لاحقاً خلال اجتماع مجلس الشورى الخاص بالجيش وبما يتناسب مع مصلحة الثورة([6])، ورفض الجيش (على لسان الرائد جميل الصالح القائد العام لجيش العزة) تسيير دوريات روسية في الجانب المحرر من المنطقة العازلة التي تم التوصل إليها في اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا، وأكد أن جيش العزة لن يقبل بأن تكون المنطقة العازلة من الجانب المحرر فقط وطالب بأن تكون مناصفة بين مناطق الثوار ومناطق النظام، مع التأكيد على رفض قيادة الجيش فتح الطرق الدولية في الشمال السوري (M5-M4) إلا بعد إطلاق سراح المعتقلين من سجون النظام.

تنفيذ الاتفاق: صعوبات مركبة

يعتبر الاتفاق "أفضل سيناريو" في الوقت الحالي بالنسبة لكل من تركيا وروسيا، وعلى الورق لا تشوب الاتفاق لا أي شائبة، لكن تنفيذه لن يكون مهمة سهلة، إذ أنه يجب أخذ عدة نقاط في الاعتبار قبل نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر 2018 من قِبل الجانب التركي والروسي؛ فأبرز تحديان على الجانب التركي يتمثلان في الآتي:

  • لا تخضع مناطق قوى الثورة السورية في إدلب فقط إلى سيطرة الجبهة الوطنية للتحرير، فهناك العديد من الفصائل والتي تم تصنيفها دولياً على أنهم فصائل متطرفة (هيئة تحرير الشام، حراس الدين، أنصار الإسلام، الجهاديين المستقلين الفصائل، خلايا داعش)، وهذا التشرذم والتعقيد بواقع السيطرة في إدلب يصعب من المهمة التركية ويفرض عليها التأني بالتعامل مع الواقع الأمني داخل المحافظة، فأي خلل أمني من الداخل يعتبر أخطر بأضعاف مضاعفة من الخطر الخارجي.
  • حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام تسيطر على 68 وحدة إدارية في محافظة إدلب والمواقع المحيطة بها، مقابل 180 وحدة إدارية مستقل أو تابعة للحكومة المؤقتة([7])، ولكن ما يعزز نفوذ حكومة الإنقاذ هو سيطرتها على الحدود الدولية، المعابر الداخلية مع مناطق سيطرة النظام، بالإضافة إلى سيطرتها على موارد المنطقة الرئيسية، لذا توجب على الجانب التركي بإيجاد صيغة وألية تسحب السيطرة المطلقة من حكومة الإنقاذ كمرحلة أولى، والعمل على تكوين جسم إداري جديد مكونه الأساسي هو من الكوادر المدنية التي لا تتبع لأي جهة دولية.

بينما على الجانب الروسي يعد الاختبار الأثقل هو التحكم في الميليشيات الإيرانية والسيطرة على قرارها؛ حيث عَجِزَت موسكو من تحقيق ذلك في عدة مناسبات سابقها ولعل أبرزها كان في محافظتي حلب ودير الزور، فما الذي يميز هذا الاتفاق؟ وما هي الضمانات الروسية على عدم محاولة الميليشيات بالاستفادة من تحول خطوط الدفاع الأولى في إدلب إلى منطقة عازلة منزوعة أو محدودة السلاح؟ خاصة أن الميليشيات الموالية لإيران تتمركز في مدينة حلب وأريافها، بعض المواقع في ريف حماه الشمالي، وقاعدة جورين في سهل الغاب. ويفيد الجدول أدناه بحجم هذا التواجد في المناطق المحيطة بالمنطقة العازلة وصعوبة ضبطه روسياً.

 

واقع الاتفاق واتجاهاته المحتملة 

لعل ما ميز المرحلة ما بعد إعلان اتفاق إدلب هو إسراع الجانب الروسي إلى تسويق جديته في تطبيق الاتفاق، حيث نشرت عدة وسائل إعلام روسية رسمية خبر انسحاب قوات النظام وعدة ميليشيات من جورين في سهل الغاب، كرناز في حماه الشمالي، وأبو دالي في ريف حلب الجنوبي، وهذا الأمر ليس كما نشره الروس([8])، حيث واجهت الشرطة الروسية عدة صعوبات في التعامل مع قوات النظام والميليشيات ولعل أبرزها كان في قاعدة جورين بسهل الغاب، حيث رفضت قوات الدفاع المحلي الموالية لإيران الانسحاب من مواقعها وكاد أن يصل الوضع إلى الاشتباك المباشر مع الشرطة العسكرية الروسية([9]). وفي نهاية المطاف رضخت روسيا إلى مطلب قوات الدفاع المحلي وأنشأت مركز صغير للشرطة العسكرية داخل القاعدة، طريقة تعامل روسيا مع هذه الحادثة من أهم المؤشرات التي تبرهن عدم قدرة روسيا ضبت الميليشيات الموالية لإيران([10]).

على صعيد الاستهداف العسكري، فلوحظ غياب الطيران الروسي بشكل كامل من بعد توقيع الاتفاق مع انخفاض نسبة الاستهداف الصاروخي من قبل قوات النظام، وغالبا ما يعلل إعلام النظام تلك الضربات بسبب وجود القوات المتطرفة أمثال هيئة تحرير الشام وحراس الدين. وفيما يتعلق بالواقع الأمني داخل مناطق سيطرة قوى الثورة السورية، لم يحدث أي تغير على صعيد الاغتيالات والمفخخات، فسياسية التصفية وإضعاف الهيكلية الأمنية موجودة في مناطق قوى الثورة منذ شهر نيسان/أبريل 2018، لذا لا يمكن ربط حوادث الاغتيالات والمفخخات التي حدثت في النصف الثاني من شهر أيلول/سبتمبر باتفاق المنطقة العازلة في إدلب.

 

ويعد ملف هيئة تحرير الشام وهو الملف الأكثر اختباراً للاتفاق؛ وهو أمر تعاملت معه الهيئة بشديد من الحرص فعلى الرغم من ظهور انقسام داخلي إلا أن الموقف العام اتى على شكل موافقة على الاتفاق على الأقل في الوقت الحالي؛ وتمثل بانسحاب هيئة تحرير الشام من محيط نقاط المراقبة التركية في ريف إدلب الجنوبي وتسليمها لفيلق الشام؛ وصد الهيئة بالتعاون مع الجبهة الوطنية لمحاولة بعض الميلشيات الموالية لإيران من التقدم على جبهة جبل التركمان؛ ومنعت فصيل حراس الدين من أن يقوم بعمل مضاد يستهدف مواقع النظام؛ كما سمحت حكومة الإنقاذ لبعض المنظمات بمعاودة نشاطها في مناطق مختلفة من إدلب، بعدما كانت تحظر أي نشاطٍ لها في إدلب([11]).

وفي هذا الصدد يوضح المطلعون على بنية الهيئة تنامي تيارين داخلها الأولى بقيادة (أبو محمد الجولاني) أمير التنظيم، ويبدي جاهزيته للانخراط في الجبهة الوطنية للتحرير، بينما التيار الثاني يقوده "أبو اليقظان المصري" ويرفض ذلك تماما، ويدفع نحو رفض الاتفاق، ولعل ما يؤكد ذلك هو حملة الاعتقالات التي قام بها الذراع الأمني لهيئة تحرير الشام واعتقلت مقاتلين من الجنسية المصرية من هيئة تحرير الشام دون توضيح سبب الاعتقال. وفي هذا السياق ينبغي التوضيح على أنه هناك ست مجموعات غادرت مع قياداتها إلى جهات أكثر تشدداً مثل حراس الدين وأنصار الإسلام.[12]

وعموماً في حال عملت الهيئة على المستوى الميداني على عرقلة الاتفاق فإنه يرجح إحدى السيناريوهين إما بدء عمل عسكري على هيئة تحرير الشام من قبل تركيا والجبهة الوطنية للتحرير؛ أو اقتناص الروس الفرصة ودعم النظام وحلفائه للدخول إلى إدلب مما يجعل تداعيات هذا الأمر مفتوحة وبالغة الحدية.

 

ختاماً؛ ينبغي التأكيد على أن هذا الاتفاق والذي أقل السيناريوهات ضرراً فإنه يحمل في طياته تحديات بالغة الأهمية تتطلب تعاملاً نوعياً حيالها؛ والبناء على هذا الاتفاق لضمان إعادة تمتين القوة الدفاعية وضبط البنية المحلية أمنياً وإدارياً؛ حيث أن التعاطي مع أن هذا الاتفاق على أنه اتفاق نهائي فإن معطيات الواقع الميداني تدلل على مؤشرات لا تزال قيد الاختبار.

 


 

([1]) سهل الغاب (جورين) – ريف اللاذقية الشمالي – ريف حماه الشمالي – ريف إدلب الجنوبي الشرقي.

([2]) مواصفات مدفعية الـ T-155: https://goo.gl/5UWkS3

([3]) سوريا: ما هي بنود اتفاق إنشاء منطقة منزوعة السلاح بإدلب؟ - BBC - 18 سبتمبر/ أيلول 2018 - https://goo.gl/dPyMh2

([4]) ارتباك في صفوف المعارضة مع اقتراب تطبيق اتفاق إدلب – جريدة الحياة – 1 تشرين الأول - https://goo.gl/TGLUkC

([5]) إدلب.. فيلق الشام ينفي الانسحاب من المنطقة العازلة – العربية - 30 سبتمبر/ أيلول 2018 - https://goo.gl/YVqNfz

([6]) “جيش العزة” يرفض شروط المنطقة العازلة في اتفاق إدلب – عنب بلدي - 30 سبتمبر/ أيلول 2018 - https://goo.gl/bvEcRB

([7]) المعلومات هي نتائج تقرير خاص غير منشور من مسار الإدارة المحلية في مركز عمران قبل نهاية عام 2018

([8]) أجرت وحدة المعلومات بتاريخ 3 تشرين الأول مقابلة مع المتحدث الإعلامي في الجبهة الوطنية للتحرير والذي أكد على أن انسحاب الميليشيات الإيرانية يجري ببطء وليس كما يصرح الإعلام الروسي.

([9]) أجرت وحدة المعلومات بتاريخ 1 تشرين الأول مقابلة مع مصدر خاص مقرب في مناطق النظام بسهل الغاب والذي أكد حدوث خلافات بين الشرطة العسكرية الروسية وقوات الدفاع المحلي الممولة من إيران.

([11])أكد أحد كوادر المجالس المحلية في جبل الزاوية بتاريخ 2 تشرين الأول أن حكومة الإنقاذ سمحت لبعض المنظمات الإغاثية بمعاودة مزاولة نشاطاتها ولكن بشكل مراقب.

 

التصنيف تقارير خاصة

تحظى محافظة إدلب بأهمية خاصة في مسار الأزمة السورية؛ إذ هي الملاذ الأساس للمهجَّرين والمعقل الأساس لهيئة تحرير الشام. وتتجه المحافظة نحو عدة مسارات تعتمد على سياسات عدة دول فاعلة، خاصة تركيا التي تريد استيعابها، في حين يتحين النظام الفرص لإخضاعها لسلطته.

مقدمة 

يقف المشهد السوري العسكري اليوم على مفترق طرق نحو تشكيل ترتيبات أمنية جديدة، وذلك بعد إنهاء النظام وحلفائه لجيوب عسكرية لقوى المعارضة في مناطق "سوريا المفيدة" واستحكام قبضتهم فيها، مقابل اتفاقيات تجميد الصراع أو خفض التصعيد في إدلب ودرعا. وتوجد أيضًا مناطق خارج سيطرة النظام أكثر استقرارًا بحكم تواجد ضامن عسكري مباشر مثل مناطق شمال شرق سوريا (قوات قسد مع قوات أميركية) أو مناطق شمال وشمال غرب سوريا (الجيش التركي وقوات المعارضة). وفي هذه الأثناء، يحاول النظام السوري وحلفاؤه استثمار المرحلة الراهنة لإعادة ترتيب مناطقه أمنيًّا؛ حيث يسعى الروس إلى دمج بعض الفصائل القريبة منه في الفيلق الخامس والسادس والسابع كما يجهدون في إعادة هيكلة وزارة الدفاع وهيئة الأركان. في المقابل، تنخرط إيران مدنيًّا وإداريًّا في بنى محلية واجتماعية واقتصادية مع تنظيم قواتها العسكرية وإعادة تمركزها في المناطق الحدودية لسوريا عمومًا، ولإجراء مناوشات في مناطق التماسِّ مع القوات الأميركية خصوصًا. ويتضح من قراءة المشهد السوري العام أنه مُتجه نحو تفاهمات جديدة لم تتبلور معالمها بعد، وعنوانها العريض هي تفاهمات أمنية لفتح الطرق الرئيسية بين المدن وخطوط التجارة المحلية والخارجية. 

وفي ضوء هذا المشهد وتحولاته المحتملة، تبدو إدلب وكأنها "المعضلة المؤجلة" حاليًّا لاعتبارها المحطة الأخيرة في سلسلة إجراءات وتفاهمات لإنهاء الصراع العسكري، ففيها خزان بشري كبير لنازحين من مختلف المناطق السورية، وتوجد فيها مجموعات مسلحة كثيرة بما فيها "مجموعات متشددة" عصية على الاندماج مع باقي الفصائل، ومنها ما تجذَّر في البنى الإدارية والمجتمعية بما له من سيطرة مسلحة كهيئة تحرير الشام، فضلًا عن أن ترتيبات الآستانة في إدلب لم تنتهِ بشكل كامل ما يعطي النظام وحلفاءه فرصة للاستثمار في هذه المعضلة واستغلالها أيما استغلال. 

ونظرًا لأهمية معضلة إدلب في مسار الأزمة السورية، تُقيِّم هذه الورقة المشهد العسكري والإداري، وكذلك الترتيبات الأمنية من حيث التماسك أو الهشاشة في هذه المحافظة، لتخلص إلى مقاربة لفهم الواقع في إدلب كما تستطلع المآلات والسيناريوهات المستقبلية المحتملة. 

تحديات سكانية وتنموية متزايدة 

تقع محافظة إدلب في أقصى الشمال الغربي لسوريا، وتُحاذي جزءًا من الحدود السورية-التركية، وقد بلغ عدد سكانها في 2011 حوالي 2.072.266 نسمة، وبلغت مساحتها 5464 كم2 ([1]). شاركت المحافظة بالثورة منذ أيامها الأولى لتخرج عن سيطرة النظام بشكل كامل في مارس/آذار 2015، بعد سيطرة قوات معارضة ومجموعات أخرى على مركزها. وبقيت كل من كفريا والفوعة "الشيعيتين" المحاصَرَتَيْن تحت سيطرة النظام ورهنًا لاتفاقية "المدن الأربعة" (كفريا-الفوعة/الزبداني-مضايا) بين إيران وأحرار الشام وهيئة تحرير الشام في أبريل/نيسان 2017. ومع استكمال ترتيبات الآستانة في 15 سبتمبر/أيلول 2017 واتفاقيات خفض التصعيد في إدلب، تمكَّن النظام وحلفاؤه الروس من السيطرة على أجزاء شرق سكة الحديد جنوب شرقي المحافظة، وتقدر مساحة المناطق التي سيطر عليها بما معدله 17.5% من مساحة المحافظة (متضمنًا مساحة كفريا والفوعة). 

تبرز أهمية إدلب كونها كانت الملجأ الأساس في تهجير قسري ممنهج من كافة المناطق إليها، منذ تهجير مدينة حمص القديمة في مايو/أيار 2014، ثم حلب الشرقية، ثم ريف دمشق، وانتهاء بتهجير ريف حمص الشمالي في مايو/أيار 2018 (ينظر الجدول أدناه[2].  كما تضمنت الهجرات مدنيين وعسكريين ومنتمين لمجموعات مصنفة كإرهابية، مما عقَّد المشهد الديمغرافي ووضع عبئًا كبيرًا على المنظمات الإغاثية والاجتماعية بسبب اختلاط السكان بالمجموعات المسلحة. ويُشير تقرير وحدة تنسيق الدعم أنه وحتى تاريخ 23 أبريل/نيسان 2018 بلغ عدد النازحين إلى الشمال السوري عمومًا من الغوطة الشرقية والقلمون حوالي 75339. ([3])

الجدول رقم (1) يوضح تحول إدلب إلى موئل لتهجير قسري ممنهج من كافة المناطق

 

بالمقابل، ترافق مع هذه الزيادات السكانية سياسات استجابة طارئة، خلقت مشكلات تحتاج إلى حلول تنموية. وبسبب حجم المسؤولية الكبيرة والضاغطة على المحافظة لم تجد الفعاليات الإدارية المحلية سوى المنظمات الدولية والمحلية لمساعدتها في حل أزمة المهجرين، وحاولت تشكيل نموذج (إسعافي) في إدارة المهجرين من خلال "الهيئة العامة لإدارة المهجرين" التي كان لها أدوار أولية في تخفيف العشوائية والفساد الحاصل في توزيع المساعدات وضبط احتياجات المخيمات وتقديمها للمنظمات([4])، إلا أن تردي الواقع الاقتصادي والإداري في المحافظة أسهم في تنامي المؤشرات التي تنذر باتساع حجم التحدي وازدياد صعوبات المعالجة. وشهد المستوى العام للأسعار ارتفاعًا ملحوظًا رافقه انخفاض كبير في سعر صرف الليرة التي وصلت إلى حدود 500 ليرة أمام الدولار بانخفاض قارب 90% للقيمة الشرائية. كما ارتفعت معدلات الفقر؛ إذ بلغت نسبة الفقر في المحافظة حوالي 90.5% في ([5])2015، وهي من أعلى النسب في سوريا. وإذا ما أضفنا نسب العوائل النازحة والمهجرة المحتاجة (حتى نهاية عام 2017) فإن النسبة العامة للفقر ستصل لمستويات بالغة الخطورة حيث يبلغ مجموع تلك العائلات 119.696 عائلة فيهم 107.622 عائلة ذات دخل شهري أقل من 40 دولاراً.([6]

كما أسهم تدهور الأداء الاقتصادي على كافة المستويات في الانكماش في النشاطات الاقتصادية وبروز العديد من النشاطات غير الرسمية كانتشار العمل العشوائي وتنامي ظاهرة "تجار الأزمة"؛ مما أفسح المجال أمام اقتصاد مواز يحاكي الرسمي المفترض، بإيراداته وشبكاته وتعاملاته التجارية. كما أن سوء الأحوال الأمنية وتدخل "الجماعات المسلحة" في مفاصل الإدارة، والقصف العنيف، وانتشار الاغتيالات، شكلت عوامل رئيسية لهروب أصحاب الأموال للخارج وعدم استقبال المحافظة لأي نوع من الاستثمارات، فانتشرت على إثر ذلك البطالة في ظل حاجة المواطنين الماسة للعمل من أجل كسب المال. 

بالعموم، فإن تزايد التحديات الناجمة عن تنامي الكثافة السكانية جراء سياسات التهجير وحركية النزوح المحلي فرضت على الفعاليات المحلية الإدارية والتنموية تحديات متنامية تستوجب منها إجراءات تراعي البُعد التنموي والاقتصادي في المحافظة، وهو الأمر الذي لا يزال متعثرًا بحكم السيولة الأمنية والاقتتال الداخلي من جهة، وتغليب منطق الاستجابة الطارئة بحكم المتغيرات المتسارعة في ملف المهجرين من جهة أخرى. 

مشهد عسكري وأمني مضطرب 

انخرطت محافظة إدلب -شأنها شأن معظم المحافظات- في الحراك السلمي والمظاهرات الشعبية منذ مارس/آذار 2011، ثم دخلت خط "الكفاح العسكري" الدفاعي ثم الهجومي في 2012، ثم جاءت سيطرة غرفة عمليات "جيش الفتح" على مدينة إدلب في مارس/آذار 2015. بالمقابل، استمرت جبهة النصرة ثم هيئة تحرير الشام كامتداد لها في قضم الفصائل الثورية المحلية والتمدد العسكري والإداري والمدني والتغلغل في مناطق إدلب. 

شكَّل تحرير مدينة إدلب في 2015 مُرتكزًا لنمو حركة النزوح لاحقًا إليها وإلى تمدد نشاط المجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني ثم الحكومة المؤقتة ثم اقتحام "حكومة الإنقاذ" كأداة إدارية لهيئة تحرير الشام المصنفة على لوائح الإرهاب. وزادت الأحداث من تداخُل الوجود العسكري مع اكتظاظ السكان النازحين في المحافظة وبالتالي من شدة التحديات الأمنية والاقتصادية. 

خضعت محافظة إدلب لعدة محاولات لوقف إطلاق النار أو خفض التصعيد والتوتر كان آخرها في 15 سبتمبر/أيلول 2017 في اجتماع الآستانة السادس بين روسيا وتركيا وإيران، وتمخض عن "تقاسم للأدوار والنفوذ"، ولكن لم تُنجز الخرائط التفصيلية وبقي الخلاف على بعض النقاط خاصة من الجانب الإيراني الذي أصر على تواجد قوات قريبة منه على الحواجز الفاصلة ونقاط المراقبة، بينما أصرت تركيا على إمساك الملف الأمني بمفردها. وأدى عدم حسم الملف إلى استغلال النظام وإيران للوضع واقتحمت قواته مناطق جنوب شرق محافظة إدلب شرق سكة الحديد في الشهر الأول من 2018 واستعادت السيطرة عليها. 

يُذكر أن نسب السيطرة قبل هجوم النظام كانت على الشكل التالي: 98.5% قوى الثورة مع انتشار لجبهة النصرة، و1.5% ميليشيات ممولة من إيران وقوات النظام. أما بعد هجوم ميليشيات إيران وقوات النظام فقد استطاع النظام أن يُسيطر على منطقة واسعة وصلت نسبتها إلى 16%، فأصبح توزُّع نسب السيطرة على الشكل التالي: 82.5% قوى الثورة متنازعة مع فصائل أخرى كجبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام، و 17.5% ميليشيات إيران وقوات النظام. ([7])

وإثر تقدم النظام السريع في جنوب شرق إدلب سارعت تركيا إلى تنفيذ بنود اتفاق الآستانة ونشرت عدة نقاط مراقبة عسكرية وصلت إلى عشر نقاط حتى 9 مايو/أيار 2018 (موضحة على الخريطة الرئيسية)، ويُتوقع أن تصل إلى 20 نقطة لتُحيط بكامل أنحاء المحافظة ثم التفرغ لضبطها أمنيًّا وعسكريًّا. ([8]) ويكمُن التحدي الأساسي في إدلب أمام الجيش التركي المنخرط في عمليات لمواجهة قوات الحماية الشعبية الكردية في سيولة المشهد أمنيًّا وانخراط هيئة تحرير الشام جغرافيًّا في أماكن المدنيين وتداخلها مع هيئات إدارية كحكومة الإنقاذ وبعض المجالس المحلية. 

 

خريطة تبين مناطق السيطرة والنفوذ بين القوى العسكرية المحلية والإقليمية في إدلب ومحيطها

أما فيما يتعلق بالمشهد الأمني في إدلب، فقد شهدت هيئة تحرير الشام إضعافًا لبنيتها وعلاقتها بالحاضنة المجتمعية من عدة أطراف منذ بداية دخول الجيش التركي إلى إدلب؛ فقد سعت تركيا لعدم الدخول في حرب مفتوحة لمواجهة الهيئة وتأسيس مراكز المراقبة لوقف إطلاق النار حسب اتفاق الآستانة مما أدى إلى انقسام صفوف الهيئة في الموقف تجاه الدخول التركي وانشقاق عدد من فصائلها ومرجعياتها. وقامت أطراف عديدة غير معروفة -يرى البعض أنها خلايا متبقية من تنظيم "الدولة الإسلامية" و"جند الأقصى"- ببث الفوضى الأمنية في مناطق سيطرة الهيئة عبر تنفيذ سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات. ومن الملاحظ من خلال تحليل بيانات الاستهداف الأخيرة خلال شهري مارس/آذار، وأبريل/نيسان 2018 أن أغلب أماكن حدوث الاغتيالات كانت في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام (انظر الشكل أدناه).

 

الشكل رقم (1) يوضح توزيع السيطرة العسكرية في "مناطق الاغتيالات" بإدلب

الشكل رقم (2) يبين توزيع الجهات التي استهدفتها حملة الاغتيالات الأخيرة في إدلب

وشهدت المحافظة في الآونة الأخيرة عدة تطورات أبرزها تشكيل تنظيم "حراس الدين" في 27 فبراير/شباط 2018 بقيادة أبوهمام الشامي القيادي في تنظيم "القاعدة"، وأعلن بيعته لتنظيم "القاعدة". وضم تنظيم "حراس الدين" الفصائل التالية: حراس الشام، وسرايا الساحل، وسرية كابل، وجند الشريعة، بالإضافة إلى قيادات "القاعدة" في مجلس الشورى الذي يضم: أبو حبيب طوباس، وأبو خديجة الأردني، وسامي العريدي، وأبو القسام، وأبو عبد الرحمن المكي، وعدد من القيادات السابقة في "جبهة النصرة" التي رفضت فك الارتباط بالقاعدة. بعد نحو أسبوع من إعلان تشكيل "حراس الدين"، أعلنت ثلاث فصائل أخرى انضمامها إليه، وهي: "جيش الملاحم"، و"جيش البداية"، و"جيش الساحل". التزم تنظيم "حراس الدين" الحياد في الاقتتال الذي اندلع بين "هيئة تحرير الشام" و"جيش تحرير سوريا" في ريفي حلب وإدلب، ولكن هذا لم يمنع من حدوث بعض الاشتباكات بين مقاتلي "هيئة تحرير الشام" ومقاتلي حراس الدين في منطقة ريف حماه الشمالي، وخاصة أن معظم المنتسبين لحراس الدين هم عناصر (محلية وأجنبية) سابقة في الهيئة وفي جند الأقصى، ومعظمهم باتوا على خلاف واضح مع التيار الأقل تشددًا في الهيئة، وعلى خلاف مع قوى الثورة السورية. وأعلن تنظيم "حراس الدين" التابع لتنظيم "القاعدة" وفصيل "أنصار التوحيد" (منشق سابقًا عن "جند الأقصى")، في 29 أبريل/نيسان 2018، اندماجهما ضمن حلف واحد حَمَل اسم "حلف نصرة الإسلام". وذكر بيان مشترك لـ "التنظيمين"، أن هدف اندماجهما "إقامة دين الله تعالى، وتطبيق الشريعة الإسلامية، ودفع العدو الصائل"، وذلك مِن "باب التعاون على البر والتقوى"، طبقًا للبيان. 

تنحصر سيطرة حلف "نصرة الإسلام المُبايِع لتنظيم "القاعدة" الآن في ريف حماه الشمالي وفي الريف الجنوبي من جسر الشغور في إدلب، ولكن الثقل الأساسي يكمُن في شمال حماه. ويبلغ عدد مقاتلي الحلف حوالي 2500 منهم 1000 أجنبي([9]). ومن المتوقع أن يزداد عدد الأجانب في التشكيل، خاصة مع قبول "هيئة تحرير الشام" التهدئة مع "جيش تحرير سوريا" وعدم فتح جبهات جديدة من النظام سواء من قوى الثورة أو غيرها. هذه الأسباب تجعل من "حلف نصرة الإسلام" الخيار الأخير والوحيد للأجانب كي يحموا أنفسهم في إدلب. لذا، من المرجح أن نشهد معارك بين هذا الحلف وقوى الثورة من جهة ومع الهيئة من جهة أخرى. يُذكر أن فصيلي "حراس الدين" و"أنصار التوحيد" شنَّا هجومًا مباغتًا، في مطلع شهر مايو/أيار 2018، على مواقع قوات النظام في ريف حماه الشمالي، وتمكَّنا من السيطرة على بلدة الحماميات وتلَّتِها الاستراتيجية بريف حماه، قبل أن ينسحبوا منها نتيجة غارات الطيران الروسي. 

تفكيك الخارطة الإدارية 

حدَّد القرار رقم 1378 للعام 2011، والصادر عن وزارة الإدارة المحلية التابعة للنظام([10])، التقسيمات الجغرافية المركزية للمحافظة بـ6 مناطق تضم 26 ناحية فيما تُقسَّم المحافظة إداريًّا لا مركزيًّا إلى 157 وحدة إدارية توزع على 15 مدينة و47 بلدة و95 بلدية تتمتع بالشخصية الاعتبارية و304 تجمعات([11])، إضافة إلى العشرات من القرى والمزارع والتجمعات التي لا تحظى بالشخصية الاعتبارية ولا تشملها التقسيمات الإدارية([12]).  ويُقدر عدد المجالس المحلية التي سقطت بيد النظام بحوالي 17 مجلسًا محليًّا معتمدًا، مقابل 140 مجلسًا محليًّا تديره قوى المعارضة.

الشكل رقم (3) يوضح توزيع نسب السيطرة على الوحدات الإدارية في إدلب بين النظام والفصائل السورية

ويُعاني المشهد الإداري في محافظة إدلب من هشاشة وتشظٍّ كبيرين، أسهم فيهما التداخل بين الحالتين السياسية والعسكرية في المحافظة، الذي انعكس على المنظومة الـمُهيكلة للمجالس المحلية بنشوء مجالس محلية غير معتمدة من الحكومة المؤقتة، وتضاعفت أعدادها بشكل كبير. كما أن تشكيل "حكومة الإنقاذ" من قبل شخصيات مرتبطة بتنظيم "هيئة تحرير الشام" المصنف إرهابيًّا من أطراف دولية([13]) وبحماية وقوة تنفيذية منها زاد في تعقيد المشهد وتداخل الجهات العسكرية بالتنظيمات الإدارية المدنية، وأسهم في تعدد المرجعيات وتضاربها، ويُضاف إلى ذلك انفلات منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدولية من عقال الضبط الحكومي. 

وحسب تقرير أولي لمسح ميداني أجراه مركز عمران للدراسات مع وحدة المجالس المحلية([14])، جرى في الفترة من  8 أبريل/نيسان 2018 وحتى 15 مايو/أيار 2018 في محافظة إدلب، فإن 59% من المجالس المحلية تُصنِّف نفسها بأنها تتبع إداريًّا للحكومة المؤقتة مقابل 7% تُصنف نفسها تابعة لحكومة الإنقاذ. ومن الملاحظات وجود عدد من المجالس التي تتبع الحكومة المؤقتة لكنها مرغمة على التعاون مع حكومة الإنقاذ، فيما تصنف 16% من المجالس نفسها بأنها مستقلة عن حكومتي الإنقاذ والمؤقتة. ومن أهم الملاحظات لفريق المسح الميداني كان عدم تطابق مناطق النفوذ العسكري لهيئة تحرير الشام مع تبعية المجالس المحلية؛ حيثُ تشكل المجالس المحلية التي لها تبعية إدارية للحكومة المؤقتة، رغم أنها تقع في مناطق السيطرة العسكرية لهيئة تحرير الشام، ما مُعدله 22% من مجالس المحافظة الفرعية. ويُمكن عزو ذلك لكون المجالس المحلية مُنبثقة عن الحاضنة الاجتماعية وتُمثل بدرجة كبيرة طبيعة المزاج العام الرافض لممارسات هيئة تحرير الشام. ويؤكد هذا التحليل استعداد عدد من المجالس التي زارها فريق المسح الميداني لانتخابات جديدة لمجالسها مثل أريحا وكفر تخاريم.

 

الشكل رقم (4) يبين توزيع نسب تبعية المجالس المحلية في إدلب

ومن أهم عناصر استحواذ حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام هي قدرتها على توفير الغاز والتحكم بمعابر تجارية مع النظام وصيانة وتوفير خدمات المياه للمنازل وإدارة المعابر الدولية التي تدر عليها دخلًا توزعه على عدد من المجالس المحلية التي تتبع لها، كما تجري زيارات ميدانية مكثفة للرقابة على عمل المجالس. واستحوذت أيضًا على أي دعم أو تمويل مستقل يأتي للمجالس لمنعهم من امتلاك استقلالية مالية، فمثلًا، كان مجلس كفر يحمول يملك أرضًا زراعية يقوم بتأجيرها ويستفيد من مواردها، لكن منذ سبعة أشهر استولت عليها حكومة الإنقاذ. 

عمومًا، يمكن تسجيل عدة ملاحظات تجاه فاعلية المؤسسات السياسية والإدارية المحلية والجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدني في محافظة إدلب، إذ تصطدم سياساتها بالعديد من العراقيل التي تحد من خياراتها، ويعود سبب ذلك أولًا: إلى التعارض في أجندات الجهات المسيطرة على المحافظة، وثانياً: لتشتت الإدارات والهيئات المدنية التي لا تزال تفتقر لرؤية استراتيجية موحدة تُمكنها من امتصاص صدمة النزوح وابتداع أدوات إدارة سياسية واقتصادية واجتماعية تتواءم مع الوضع غير المستقر للمحافظة، وثالثًا: للاعتمادية المفرطة على المنظمات الدولية والمحلية في تقديم المساعدات للسكان ومخيمات المهجرين والمجالس المحلية. 

إدلب والترتيبات السياسية والعسكرية المتوقعة 

رغم إنجاز اتفاق خفض التصعيد في إدلب ضمن الاجتماع السادس في الآستانة، في 15 سبتمبر/أيلول 2017، فإن الخرائط والتفاصيل الجزئية حول آلية المراقبة لم تُحسَم بين الأطراف الثلاثة بشكل نهائي. ولكن يبدو أن التقارب الروسي-التركي حول إدلب أكثر من تقارب الاثنين مع إيران. حيث صرح علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الأعلى في إيران، بأن "الخطوة القادمة لمحور المقاومة ستكون تحرير مدينة إدلب السورية([15]). وحذرت الأمم المتحدة عبر نائب المبعوث الدولي إلى سوريا للشؤون الإنسانية، يان إيغلاند، من اندلاع حرب في إدلب لكونها أصبحت أكبر مخيم للنازحين في العالم. كما حذر المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، من انتقال القتال إلى إدلب وتعريض المدنيين إلى خطر كبير. وفي نفس الوقت، تؤكد تركيا عبر عدة تصريحات للرئيس أردوغان أن إدلب وضبطها سيكونان الهدف القادم بعد عفرين ومنبج. ودعا وزير الخارجية الفرنسي، لو دريان، إلى ضرورة تقرير مصير إدلب من خلال عملية سياسية تتضمن نزع سلاح الميليشيات فيها. 

بالمقابل، لا يمكن فك مصير إدلب عن معطيات المشهد العسكري العام وجنوحه باتجاه تبلور طموحات إقليمية ودولية ناشئة تجعل هذا المشهد يدخل في مرحلة إعادة تشكل وترتيب جديد، سواء بالاتكاء على فكرة ومفهوم الدول الضامنة أو عبر ترسيم جديد لحدود النفوذ الدولي. وسينعكس هذا الترتيب الجديد حُكمًا (سلبًا أو إيجابًا) على العملية السياسية التي دخلت مرحلة من السيولة المغرقة منذ جنيف 8 وما تبعها من تطورات ميدانية -مثل عملية غصن الزيتون، ومحاولات إعادة ترسيم حدود منطقة إدلب، ومعركة "إسقاط" الغوطة الشرقية، والنفوذ الإيراني في الجنوب السوري- وما رافقها أيضًا من هشاشة في بنى الفاعلين السوريين، سواء المعارضة التي باتت جسمًا سائلًا يصعب ضبط توجهاته، أو النظام الذي يجد نفسه غير قادر على إرفاق السيطرة العسكرية بسيطرة سياسية واجتماعية (كما يتخيل)، وغير مؤهل لمواجهة استحقاقات مرحلة البناء وإعادة الإعمار. 

وفقًا لهذه المعطيات، يمكن الاستدلال فيما يتعلق بالمحافظة على أنها تسير وفق عدة اتجاهات يتضح التموضع التركي الرئيسي منها جميعًا، فتركيا رأت في اعتماد الخيارات الصلبة المدخل الأكثر حسمًا في مواجهة المهددات الأمنية التي تتعاظم ضدها، وسيكون لها تأثير واضح في الشمال السوري خاصة بعد شبه اكتمال تحقيقها لأهداف غصن الزيتون واستحواذها شبه المكتمل على الأجزاء الشمالية، بالإضافة إلى أدوار تركية محتملة ضمن مسار الآستانة فيما يخص محاربة جبهة تحرير الشام سواء عبر سياسات تفكيك أم مواجهة مباشرة عبر فصائل المعارضة، وفي ذات الوقت يُتوقَّع أن يخضع اتفاق الآستانة لخروقات مستمرة من قوات تتبع إيران وتميل إليها روسيا أحيانًا عندما تريد الضغط على تركيا، ثم تعود لتدعم الموقف التركي في تحصين هذه المنطقة أمنيًّا وإدارتها مدنيًّا. 

بالمقابل، يسعى النظام إلى الدفع باتجاه استعادة "السيادة الوطنية" عبر مقاربات عسكرية أو سياسية عندما يعجز عن استخدام أدوات الروس أو الإيرانيين. وقد يلجأ إلى عدة خيارات بالتوالي أو التوازي، أهمها:

  1. إنهاك منطقة إدلب أمنيًّا بتيسير مرور "أطراف متشددة" وتنفيذ عمليات أمنية واستهداف للشخصيات الثورية القادرة على جمع الحاضنة الشعبية. وتهدف هذه السياسة إلى إضعاف بنى المعارضة وإيجاد الحجج السياسية لعودة "سيادة مؤسسات الدولة". كما يسعى النظام إلى إفشال نموذج الإدارة المحلية وتصويره على أنه يتبع لمنظمات مصنفة دوليًّا إرهابية.
  2. استثمار مسار الآستانة بين الدول الثلاث: روسيا وتركيا وإيران، لتوسيع دائرة الدول المشاركة فيه وإعادة تعريف أدوار الضامنين، كالمطالبة بدور إيراني أكبر بهدف استخدامه للولوج إلى منطقة إدلب سياسيًّا.
  3. الدفع نحو صفقات أمنية جزئية بشكل ثنائي ومباشر مع القوى الدولية المتواجدة في سوريا، كتركيا وأميركا والأردن لتحييد القوى العسكرية السورية والأجنبية والسماح للنظام بعودة مؤسساته تدريجيًّا لاستعادة تحكمه بمفاصل الخدمات، ومن ثم إعادة اختراق الحاضنة والعودة الأمنية كما فعل في مناطق المصالحات.
  4. عقد صفقات لتحييد الطرق البرية والرئيسية والمعابر التجارية والدولية عن الصراع، وتبدو هذه الخطوة الأسهل على النظام لكونها تحقق مصالح مشتركة لكافة القوى، إلا أن النظام يريد منها إعادة امتلاك وظائف الدولة الأساسية وأجزاء من المواقع السيادية. 

خاتمة 

تتجه إدلب نحو عدة مسارات تعتمد على سياسات وردود أفعال عدد من الدول الفاعلة، خاصة تركيا التي تبدو الفاعل الرئيسي فيها. في حين يبدو أن النظام سيسعى بداية إلى عقد صفقات لفتح الطرق الدولية الرئيسية في سوريا وبالتالي عقد اتفاقيات تجارية مع مختلف المناطق مع تعزيز حالة الفوضى الأمنية في مناطق المعارضة في إدلب بشكل خاص. ويتوقع أن يخضع اتفاق الآستانة لمساومات ومنازعات من قوات تتبع النظام وإيران وتميل إليها روسيا أحيانًا عندما تريد الضغط على تركيا.

 

المصدر مركز الجزيرة للدراسات: https://bit.ly/2s95y01

 


 

([1])منظمة التنمية المحلية بالتعاون مع الحكومة السورية المؤقتة، "أطلس المعلومات الجغرافي، إدلب"، 17 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 9 مايو/أيار 2018):

 https://drive.google.com/drive/folders/0B9mAVSIoeDcPNFRKY1MzejNxV3c

يُشار إلى أن المكتب المركزي للإحصاء التابع للنظام يُقدِّر عدد سكان محافظة إدلب في عام 2016 بـ1445000 نسمة، وهو رقم يبدو أنه لا يشمل النازحين إلى المحافظة، (تاريخ الدخول: 9 مايو/أيار 2018):  http://www.cbssyr.sy/yearbook/2017/Data-Chapter2/TAB-4-2-2017.pdf

 ([2]) وحدة المعلومات، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، تقرير غير منشور، 8 مايو/أيار 2018.

([3]) وحدة التنسيق والدعم، "الكارثة في سورية: التهجير القسري من الغوطة الشرقية والقلمون"، 3 مايو/أيار 2018، (تاريخ الدخول 9 مايو/أيار 2018).

https://goo.gl/oHLb94

([4]) حيث عملت الهيئة على تقسيم المحافظة إلى قطاعات ضمن كل قطاع عدد معين من المخيمات بحيث يكون لكل قطاع مدير ولكل مخيم إدارة خاصة به تعمل على إحصاء أعداد المهجرين واحتياجاتهم المختلفة داخل المخيم من سلع وخدمات تشمل الصرف الصحي والتعليم والصحة والطعام...إلخ، وترفع هذه الحاجيات إلى إدارة القطاع الذي بدوره يوصلها للهيئة العامة حيث تجتمع لديه لوازم ونواقص المخيمات في قطاعات المحافظة كافة، فيتم توجيه المنظمات الإغاثية حسب تلك المعلومات.

([5]) المركز السوري لبحوث السياسات، "مواجهة التشظي"، 11 فبراير/شباط 2016، (تاريخ الدخول: 9 مايو/أيار 2018):

 https://goo.gl/b7ibW2

([6]) إحسان للإغاثة والتنمية، "تقييم الاحتياجات متعدد القطاعات في محافظة إدلب"، يناير/كانون الثاني 2017، تقرير غير منشور لدى المؤلف.

([7]) حسب تقدير وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، غير منشور، بالاعتماد على احتسابها باستخدام برنامج ال ArcGis بتاريخ 15 أبريل/نيسان 2018.

([8]) حسب الموقع التركي: http://www.suriyegundemi.com/2018/05/09/9620/ تاريخ الدخول 9 مايو/أيار 2018.

([9])  حسب مقابلة مع مصدر خاص في إدلب لدى وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية بتاريخ 8 مايو/أيار 2018.

([10])  اعتمد القرار 1378 على القانون الإداري 107 المتضمن معايير تقسيم الوحدات الإدارية بحسب عدد السكان في كل منطقة، كما اعتمد على الإحصاء السكاني للمكتب المركزي للإحصاء التابع لحكومة النظام للعام 2004 وتعديلاته للعام 2011 وفق معدل النمو السكاني في سوريا

([11]) يُقصد بالشخصية الاعتبارية تمتع الوحدة الإدارية بالذمة المالية المستقلة والأهلية القانونية للقيام بالتصرفات القانونية المختلفة كإبرام العقود وحق التقاضي أمام القضاء وإمكانية مقاضاتها من الغير، والموطن المستقل عن الأفراد المكونين لها، ووجود شخص يعبِّر عن إرادة هذه الوحدة ويتصرف باسمها ويمثلها، إضافة إلى تمتعها بالمسؤولية المدنية والإدارية الكاملة

([12]) منظمة التنمية المحلية، 17 يوليو/تموز 2016، (تاريخ الدخول: 9 مايو/أيار 2018): https://bit.ly/2s2Uv8H

([13]) تم تصنيف "هيئة تحرير الشام" كمنظمة إرهابية من طرف الولايات المتحدة الأميركية بتاريخ 10 مارس/آذار 2017، موقع وزارة الخارجية، (تاريخ الدخول: 9 مايو/أيار 2018): https://www.state.gov/j/ct/rls/rm/273854.htm

وانظر موقع السفارة الأميركية في دمشق، (تاريخ الدخول: 9 مايو/أيار 2018) إضغط هنا.

([14]) التقرير الأولي غير منشور بتاريخ 8 مايو/أيار 2018.

([15]) إيران: هدفنا القادم إدلب والوجود العسكري الأميركي لن يبقى شرق الفرات، موقع روسيا اليوم، تاريخ النشر: 13 أبريل/نيسان 2018: goo.gl/xmrxxc

 

التصنيف أوراق بحثية