تشهد مناطق الشمال السوريّ خرقاً أمنياً واضحاً، تتجلى أبرز جوانبه في وتيرة عمليات الاغتيال المستمرة ومعدلاتها المرتفعة، والتي تعد مؤشراً هاماً على تدهور حالة الاستقرار الأمني وتدني القدرة على ضبطها من قبل القوى المسيطرة، خاصة مع ازدياد محاولات الاغتيال ضمن تلك المناطق وتعدد دوافعها ومُنفذيها واختلاف أساليبها، وسط تجدد قصف النظام وحلفائه لبعض تلك المناطق، ما يزيد من تعقيد الوضع الأمني والقدرة على ضبطه.
وتتصف عمليات الاغتيال بالسريّة عادة، لناحية الجهة المنُفِّذة، إلا أن هناك نسبة كبيرة من تلك العمليات ضمن مناطق سيطرة الفصائل المعارضة تتبناها جهات محددة بشكل علني كـ "قوات تحرير عفرين"(1)، و"تنظيم الدولة"، في اختراق أمني واضح وصريح لتلك المناطق. وبالرغم من اختلاف وتيرة ومُعدّل عمليات الاغتيال من منطقة إلى أخرى ضمن الشمال السوري؛ إلا أنها تتقاطع في الإشارة إلى التراجع العام لمؤشرات الاستقرار الأمني.
وفي متابعة لملف الاغتيالات ضمن مناطق سيطرة الفصائل العسكرية المعارضة في الشمال السوري؛ صَمّمَتْ وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات، نموذجاً خاصاً لرصد تلك العمليات وتحليل البيانات المتعلقة بها، كمؤشرات للاستقرار الأمني(2). ضمن تقرير دوريّ يرصد وتيرة عمليات الاغتيال، موضّحاً نتائجها، وما أسفرت عنه، مقابل الجهات المُنفّذة -إن عُلِمت -وكذلك الجهات المُستَهدَفة. كما يسعى التقرير إلى تحليل تلك البيانات ومقاطعتها بين مختلف المناطق، في محاولة لرسم الملامح العامة للوضع الأمنيّ وقياس أوليّ لمؤشرات الاستقرار.
وعليه، يرصد هذا التقرير عمليات الاغتيال ضمن مناطق عدة في الشمال السوري، منها: ريف حلب الشمالي، الذي شكّل نطاق العمليات العسكرية: "درع الفرات" و"غصن الزيتون"، مقابل مدينتي تل أبيض ورأس العين "نبع السلام" في الشمال الشرقي، إضافة إلى ما تبقى من محافظة إدلب وريف حلب شمال غربي سورية. وذلك خلال الفترة الممتدة ما بين (كانون الثاني/يناير وكانون الأول/ديسمبر 2023)، إذ بلغ عددها 105 عمليات اغتيال، خلّفت 267 ضحية. وتوضّح البيانات انخفاضاً طفيفاً في معدل الاغتيالات، مقارنة بتقارير سنة 2022، التي أصدرها مركز عمران: (الاغتيالات في مناطق المعارضة خلال الفترة الممتدة من كانون الثاني حتى حزيران 2022)، والتي بلغت 70 عملية، خلّفت 263 ضحية(3). و(الاغتيالات في مناطق المعارضة خلال الفترة الممتدة من تموز حتى كانون الأول 2022)، والتي بلغ عددها 68 عملية، خلّفت 215 ضحية(4).
وقد توزعت عمليات الاغتيال الـ 105 المرصودة ضمن التقرير الحالي، بحسب الأشهر، على الشكل التالي: 12 محاولة اغتيال خلال شهر كانون الثاني/يناير، في حين بلغت خلال شباط/فبراير 4 محاولة، فيما لم تسجل أي محاولة خلال أذار/مارس، وشهد نيسان/أبريل 8 محاولة، بينما سجلت في أيار/مايو 3 محاولة، لترتفع في حزيران/يونيو إلى 8 محاولات. وارتفعت إلى 16 عملية خلال شهر تموز/يوليو، في حين بلغت خلال آب/أغسطس 12 عملية، فيما سُجِّلت 10 عمليات خلال أيلول/سبتمبر، وشهد تشرين الأول/أكتوبر 16 عملية، لتنخفض في تشرين الثاني/نوفمبر إلى 7 عمليات، بينما بلغت في كانون الأول/ ديسمبر 9 عمليات. ويسعى التقرير بعد رصد تلك العمليات، إلى دراستها وتحليلها واستعراضها بحسب مناطق السيطرة، والجهات المُستَهدَفة والمُنفِّذة، وطبيعة أداة التنفيذ، ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها، مقابل أثرها على مستوى الأمن والاستقرار في المنطقة.
تُظهر عملية الرصد الخاص بمناطق ريف حلب الشمالي الغربي "درع الفرات"، بلوغ معدل عمليات الاغتيال خلال سنة من الرصد: 51 عملية، أسفرت عن سقوط 144 ضحية بين قتيل وجريح. نفذت 38 منها عبر الطلق الناري، وأسفرت عن سقوط 119 ضحية بين قتيل وجريح، إذ حققت 33 عملية من 38 غايتها في تصفية الجهة المستهدفة، فيما فشلت 5 عمليات في تحقيق هدفها. أما بالنسبة للجهة التي تقف وراء تنفيذ تلك العمليات، فتشير البيانات إلى تنفيذ "قوات تحرير عفرين" 21 عملية(5)، ونُفِذَت عمليتين من قبل عناصر في الجيش الوطني(6)، في حين بقيت 15عملية مجهولة المنفذ. (الشكل 1) وكانت فصائل "الجيش الوطني" هدفاً لتلك الاغتيالات بواقع 14عمليات، مقابل 9 عمليات استهدفت القوات التركية، في حين تعرض المدنيون ل 15عملية منها واحدة استهدفت سائق شاحنة تركي الجنسية(7).
بالمقابل، نُفِّذَت 7 من 51 عملية عبر العبوات الناسفة والمفخخات، مخلّفةً بمجموعها 9 ضحية بين قتيل وجريح، استهدفت 3 من هذا العمليات عناصر الشرطة العسكرية والمدنية في المنطقة، في حين تعرضت تجمعات المدنيين ل 4 عمليات. وقد تبنّت "قوات تحرير عفرين" عملية واحدة(8)، لتبقى 6 عملية من عمليات العبوات الناسفة والمفخخات مجهولة المُنفِّذ.
من جهة أخرى، نُفِّذَت 3 عمليات عبر الطيران المسير، مخلّفةً 13 ضحية بين قتيل وجريح، استهدفت 2 منها الفصائل الإسلامية، واستهدفت واحدة الفصائل الجهادية(9). وقد تبنى التحالف الدولي عمليتين، في حين بقيت واحدة مجهولة المنفذ. وفي سياق متصل، نُفِّذَت 3 من 51 عملية عبر الخطف ثم القتل، (الشكل 2) مخلفة 3 ضحايا واستهدفت جميعها أفراد مدنيين، وبقيت جميعها مجهولة المنفذ.
الشكل 1: يبين توزع عمليات الاغتيال بالطلق الناري في مناطق ريف حلب الشمالي /"درع الفرات" بحسب الجهة المنفذة
الشكل 2: يبين توزع عمليات الاغتيال في مناطق ريف حلب الشمالي/"درع الفرات، بحسب أداة التنفيذ
ويتضّح من خلال أرقام وبيانات الرصد الخاصة بمناطق ريف حلب الشمالي الغربي، ثباتاً في معدل عمليات الاغتيال مقارنة بالتقريرين السابقين، الذين أصدرهما مركز عمران وشملَا الفترة الممتدة من كانون الثاني حتى كانون الأول 2022، إذ سجّلت تقارير العام السابق 52 عملية اغتيال خلال عام 2022، بالمقابل رصد التقرير الحالي 51 عملية.
بالمقابل، تُبيّن الأرقام انخفاضاً في معدل عدد الضحايا، مقارنة بتقارير العام السابق، التي سجّلت 182 ضحية، بينما بلغ مجموع عدد الضحايا خلال فترة الرصد الحالية 144 ضحية. ويُعزى ذلك إلى ارتفاع معدل عمليات الطلق الناري المباشر، إذ اعتمدت بنسبة 74.5% على عمليات إطلاق النار المباشر، التي استهدف أغلبها شخصيات عسكرية/مدنية بعينها، إضافة لاستهداف تجمعات مدنية خالصة. ما أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا، شكّلَت نسبة عناصر الجيش الوطني منهم 34.7%، مقابل 24.3% من المدنيين، و7.6% من الحركات الإسلامية، 31.9% من الجيش التركي، و1.3% من الحركات الجهادية. (الشكل 3)
الشكل 3: يبين توزع ضحايا الاغتيال في مناطق ريف حلب الشمالي / "درع الفرات"، بحسب الجهة المستهدفة
وفقاً للبيانات الخاصة برصد المنطقة؛ فإن الواقع ما يزال يشير إلى اتساع الخرق الأمني، مقابل عدم تقدم القوى المُسيطرة في ضبطه وتضييق حجم هذا الخرق، خاصة في ظل اتهامات لأطراف وجهات عدة بالسعي إلى زعزعة الأمن والاستقرار، وتقاطع مصالحها في ذلك؛ كحزب الاتحاد الديمقراطي"PYD" وخلاياه النشطة في المنطقة، الذين يعدون المنطقة امتداداً للنفوذ التركي، وجميعُ من فيها "أهدافٌ مشروعة"، دون التمييز بين مدنيين وعسكريين، إضافة إلى النظام الذي يسعى إلى زعزعة أمن المنطقة وإفشال أي نموذج أمني/حوكمي فيها.
ثانياً "عفرين" (مُنَفذ واضح)
من خلال رصد وتحليل البيانات لعمليات الاغتيال الخاصة بمدينة عفرين ومحيطها من المناطق، يتضح أنها شهدت بالعموم: 27 عملية اغتيال خلال عام 2023، أسفرت عن 89 ضحية بين قتيل وجريح. وقد نُفِّذَت 20 عمليات من مجموع العمليات الـ 27 عبر الطلق الناري، حققت 18 منها غايتها في تصفية الجهة المستهدفة. وكان عناصر الجيش الوطني هدف لها في 13 عملية، متسببة في سقوط 35 ضحية من الجيش الوطني بين قتيل وجريح، في حين استهدفت 3 عمليات جهات مدنية، أدت إلى سقوط 3 ضحايا، مقابل 4 عمليات استهدفت القوات التركية أوقعت 12 ضحية بين قتيل وجريح.
تبنت "قوات تحرير عفرين" 15 عملية إطلاق نار من 20 عملية، في حين نفذ عناصر يتبعون لفصيل معتدل واحدة منها(10)، لتبقى ال4 عمليات الباقية مجهولة المنفذ.
بالمقابل، وبحسب البيانات المرصودة، نُفِّذت 7 عمليات من مجمل العمليات الـ 27 عبر العبوات الناسفة والمفخخات (الشكل 4)، استهدفت عناصر الجيش الوطني في مرتين، وتعرضت الشرطة المدنية لعملية استهداف واحدة(11)، في حين تعرضت تجمعات المدنيين ل 4 عمليات. وقد أدى هذه العمليات إلى سقوط 29 ضحية بين قتيل وجريح، (الشكل 5). وقد تبنّت "قوات تحرير عفرين" أربع عمليات من مجموع عمليات العبوات الناسفة والمفخخات(12)، فيما بقيت الـ 3 عمليات الأخرى مجهولة المُنفِّذ.
الشكل 4: توزع عمليات الاغتيال في عفرين /"غصن الزيتون" بحسب أداة التنفيذ
الشكل 5: يبين توزع ضحايا العبوات الناسفة والمفخخات في عفرين / "غصن الزيتون"، بحسب الجهة المستهدفة
تُبيّن أرقام وبيانات الرصد الخاصة بمدينة عفرين ومحيطها، أن معدل عمليات الاغتيال لم يتغير مقارنة بتقارير العام السابق التي أصدرها مركز عمران، وغطت الفترة الممتدة من كانون الثاني حتى كانون الأول 2022. إذ سجّلت التقارير السابق 26 عملية اغتيال في تلك الفترة، كما رصد التقرير الحالي تنفيذ 27 عملية. وبالمثل، فإن تساوي عدد العمليات أدى إلى تقارب عدد الضحايا، فقد بلغت خلال عام 2023: 89 ضحية، مقابل 94 ضحية خلال عام 2022. وقد يُردّ ذلك إلى اختلاف الأهداف وتركز أدوات التنفيذ في أغلب العمليات الحالية، فقد اعتمدت بنسبة 74 % منها على الطلق الناري، في حين نُفِّذت 26% منها عبر العبوات الناسفة والمفخخات، التي استهدفت شخصيات عسكرية بعينها، وأخرى استهدفت مجموعات عسكرية وسط تجمعات مدنيين، مقابل عمليات استهدفت تجمعات مدنية. وقد شكّلت نسبة المدنيين من الضحايا 28.08%، مقابل 58.4% من عناصر "الجيش الوطني"، 13.4% من عناصر الجيش التركي المتواجد في المنطقة. (الشكل 6).
الشكل 6: يبين توزع ضحايا الاغتيال في عفرين / "غصن الزيتون"، بحسب الجهة المستهدفة.
وبحسب البيانات، بقيت 26% من العمليات المرصودة مجهولة المنفذ، في حين نفذ عناصر تابعون للجيش الوطني 3.7% من العمليات في المنطقة تبنت "قوات تحرير عفرين" 70.37% من العمليات المرصودة، (الشكل7) بشكل يشير إلى تركُّز عملياتها ونشاطها الأمني في عفرين ومناطق "درع الفرات". وقد استهدفت تلك العمليات في أغلبها عناصر "الجيش الوطني"، الذين تحولوا إلى أهداف متحركة داخل مدينة عفرين، سواء على المستوى الفردي عبر تصفية أفراد بعينهم، أم على مستوى جماعي عبر استهداف مجموعاتهم العسكرية. وغالباً ما يتم هذا الاستهداف وسط تجمعات مدنية، ما أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين. وتنسجم طبيعة تلك العمليات مع الرؤية المعلنة لقوات "تحرير عفرين"، والتي تعد المنطقة "امتداداً للنفوذ التركي" وتضع المقاتلين المحليين والعوائل المهجّرة ضمن الإطار ذاته، وبالتالي تكثّف من عملياتها وتشرعنها تحت هذا الغطاء، دون تمييز بين مدني وعسكري.
الشكل 7: يبين توزع عمليات الاغتيال في عفرين/ "غصن الزيتون"، بحسب الجهة المنفذة
بالمقابل، فإن حركة الاغتيالات في عفرين والتبني الواضح لها، يتناسب طرداً مع مستوى القدرة الأمنية للجهات المُسيطرة، فعلى الرغم من تسجيل مناطق "درع الفرات" نسبة أكبر بعمليات الاغتيال (51)، بينما في عفرين ومحيطها (27)؛ إلا أن ذلك لا يعني اختلافاً كبيراً في مستوى الضبط الأمني، خاصة وأن أغلب العمليات التي نُفِّذَت في عفرين كانت "نوعيّة"، ناهيك عن تبني أغلبها بشكل علني من قبل ما تدعى "قوات تحرير عفرين"، وتصاعد نشاطها بشكل يشير إلى ارتفاع مستوى تلك العمليات وتوسيع دائرة أهدافها، مقابل عدم إحراز تقدم كبير على مستوى الضبط الأمني من قبل الجهات المسيطرة.
يشير الرصد الخاص بمنطقتي رأس العين وتل أبيض، واللتين شكلتا نطاق العملية العسكرية "نبع السلام"، إلى بلوغ عمليات الاغتيال خلال عام 2023: 12 عملية اغتيال، أسفرت عن 16 ضحية بين قتيل وجريح، نُفِّذَت 10 منها عبر الطلق الناري، أسفرت عن 12 ضحية بين قتيل وجريح، وقد حققت 8 منها غايتها في تصفية الجهة المستهدفة. استهدفت 6 منها عناصر الجيش الوطني، مقابل 4 عمليات استهدفت أفراد مدنيين. (الشكل8) وبقيت جميعها مجهولة المنفذ. بالمقابل، نفذت عمليتين عبر العبوات الناسفة والألغام الأرضية، (الشكل9) وأسفرت عن سقوط 4 ضحايا بين قتيل وجريح، استهدفت واحدة منها عناصر الجيش الوطني(13)، في حين استهدفت الأخرى جهة مدنية. وبقيت الجهة المنفذة مجهولة في العمليتين.
الشكل 8: يبين توزع ضحايا الطلق الناري في مناطق رأس العين وتل أبيض/ "نبع السلا"، بحسب الجهة المستهدفة
الشكل 9: يبين توزع عمليات الاغتيال في مناطق رأس العين وتل أبيض/ "نبع السلام"، بحسب أداة التنفيذ
ويتضح من خلال البيانات الخاصة بمدينتي رأس العين وتل أبيض "نبع السلام"، انخفاض وتيرة عمليات الاغتيالات، قياساً بالتقريرين السابقين التي تغطي عام 2022، حيث سجّلت 26 عملية اغتيال، بالمقابل سجّل التقرير الحالي لعام 2023: 12 عملية. بالمقابل يُلحظ انخفاض كبير في معدل ضحايا تلك العمليات قياسا بالتقريرين السابقين، التي تغطي عام 2022، حيث سجّلت وقوع 111 ضحية بين قتيل وجريح، في حين رصد التقرير الحالي وقوع 16ضحية فقط بين قتيل وجريح. ويُعزى ذلك إلى تغيير نوعية الأهداف وأدوات التنفيذ، فقد نُفِذَت 10 من 12 عملية عبر الطلق الناري، مستهدفة أشخاصاً بعينهم. بينما نُفِذَت عمليتين عبر العبوات الناسفة، التي استهدَفَت تجمعات مدنية منخفضة الكثافة، أو عناصر من "الجيش الوطني". ما أدى إلى وقوع عدد من الضحايا، شكّلت نسبة المدنيين منهم 37.5%، في حين شكّلت نسبة عناصر "الجيش الوطني" 62.5%. (الشكل 10).
الشكل 10: يبين توزع ضحايا الاغتيالات في مناطق رأس العين وتل أبيض/ "نبع السلام"، بحسب الجهة المستهدفة
أما بالنسبة للجهات المُنفِّذة، فعلى الرغم من عدم وجود تبنٍ علني لتلك العمليات، إلا أن مصادر جمع البيانات تشير إلى اتهامات لخلايا حزب العمال الكردستاني "PKK" في الضلوع بأغلب تلك العمليات، خاصة وأن طبيعة العمليات لا تختلف عن سابقاتها في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، من ناحية الأهداف والأدوات وأساليب التنفيذ، الأمر الذي يشير إلى ارتفاع مستوى العمليات الأمنية من جهة، وقد ينذر بازديادها من جهة أخرى.
ومن خلال الأرقام السابقة لمختلف المناطق المرصودة، يتضح أن مناطق سيطرة "الجيش الوطني" في ريف حلب الشمالي الغربي "درع الفرات" الأكثر تردياً أمنياً، قياساً بمناطق (عفرين، تل أبيض، رأس العين) وذلك لناحية ارتفاع وتيرة الاغتيالات، واتساع الخرق الأمني، وتعدد الجهات المُنفِّذة، واختلاف مصالحها وارتباطاتها، مقابل ضعف قدرة القوى المُسيطرة على ضبط الأمن وتضييق حجم هذا الخرق.
ولعلّ ارتفاع معدل العمليات إلى هذا الحد لا يُعدُّ مؤشراً على عجز التشكيلات الأمنية لـ "الجيش الوطني" على ضبط الأمن والاستقرار بالنسبة للمدنيين فحسب، وإنما ضعف قدرتها أيضاً على تأمين وحماية عناصرها، وهذا ما تدلل عليه طبيعة تلك العمليات الممتدة إلى مختلف مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، والتي شهدت عمليات اغتيال لا تختلف كثيراً عن سابقتها، لناحية طبيعتها والجهات المُنفِّذة والمُستَهدَفة. بالمقابل، يُلحَظ خلال فترة الرصد الحالية ازدياد استهداف القوات التركية المتواجدة في الشمال على اختلاف مناطقه، إذ تم استهدافهم في منطقة "درع الفرات" وعفرين، وكذلك في إدلب كما ستوضح البيانات اللاحقة. وذلك بشكل يشير إلى تصاعد هذا الاستهداف بشكل ممنهج ضمن مختلف مناطق انتشارهم.
ومهما اختلفت دوافع تنفيذ تلك العمليات والجهات التي تقف وراءها؛ فإن الحد منها وتحمُّل مسؤولية نتائجها يقع في النهاية على عاتق القوى والتشكيلات العسكرية والأمنية المُسيطرة في تلك المناطق، سواء "الجيش الوطني" أم القوات التركية.
بحسب البيانات المرصودة، يتضح أن عدد عمليات الاغتيال فيما تبقى من محافظة إدلب وما حولها بلغ 15 عملية، خلال عام 2023، حققت 13عمليات منها غايتها في تصفية الجهة المستهدفة، بينما فشلت محاولتين في ذلك بعد نجاة الطرف المُستَهدَف. وقد أسفَر مجموع العمليات عن 18 ضحية بين قتيل وجريح.
أما بالنسبة لأدوات التنفيذ، فقد اعتمدت 8 عملية اغتيال على الطلق الناري، نجحَت جميعها في تصفية الهدف، وأسفر مجموع عمليات الطلق الناري عن 9 ضحايا، استهدفت 5 منها جهات مدنية، في حين استهدفت واحدة قيادي في هيئة "تحرير الشام"، وأخرى عنصر أجنبي في فصيل جهادي(14)، واستهدفت أخرى الزعيم الرابع لتنظيم داعش(15)، (الشكل 11) وقد تبنت "سرايا درع الثورة" عملية واحدة(16)، فيما بقيت الأخرى مجهولة المنفذ. بينما نُفِّذَت 3عمليات عن طريق الطيران المسير، اسفرت عن 4 ضحايا، 3 منهم يتبعون لفصائل جهادية في حين قتل مدني في واحدة(17)، وقد نفذ التحالف الدولي جميع عمليات الطيران المسير.
بالقابل، نُفِّذَت عملية واحدة عن طريق العبوات الناسفة، أسفرت عن جرح قيادي أمني في هيئة تحرير الشام، ورجحت مصادر تنفيذ " سرايا درع الثورة" لهذه العملية(18)، وأخيراً نُفِّذَت 3 عمليات عن الطريق السلاح الأبيض والدهس، (الشكل 12). أسفرت عن 4 ضحايا بين قتيل وجريح جميعهم من المدنيين، وقد رجحت مصادر تورط عناصر هيئة تحرير الشام في واحدة(19)، وبقين العمليتين الأخيرتين مجهولة المنفذ.
الشكل 11: يبين توزع ضحايا الطلق الناري في إدلب، بحسب الجهة المستهدفة.
الشكل 12: يبين توزع عمليات الاغتيال في إدلب، بحسب أداة التنفيذ
يتّضح من خلال بيانات الرصد الخاصة بمناطق إدلب وماحولها، انخفاضٌ في معدل عمليات الاغتيال، قياساً بالتقارير السابقة التي أصدرها مركز عمران، وغطى الفترة الممتدة من كانون الثاني حتى كانون الأول 2022، إذ سجّلت التقارير السابقة 34 عملية اغتيال في تلك الفترة، بينما رصد التقرير الحالي تنفيذ 15عملية، بالمقابل يُلحظ انخفاض في معدل ضحايا تلك العمليات، قياساً بالتقارير السابقة التي غطت عام 2022، والتي سجّلت وقوع 91 ضحية بين قتيل وجريح، في حين رصد التقرير الحالي وقوع 18 ضحية بين قتيل وجريح. ويعزى ذلك إلى طبيعة العمليات واختلاف أهدافها وأدوات تنفيذها، فقد اعتمدت أغلب العمليات المرصودة خلال التقرير الحالي، على الطلق الناري 53.3% الذي استهدف أشخاص محددين. كما تشير البيانات إلى تعدد الجهات محل الاستهداف، فقد كانت الجهات المدينة الأكثر استهدافاً خلال فترة الرصد الحالي بمعدل 60% من مجموع العمليات، بينما استُهدِفَت فصائل جهادية بمعدل 26.6%، في حين كان عناصر " هيئة تحرير الشام هدفاً في 13.3% من عمليات الاغتيال المُنفَّذة خلال فترة الرصد.
ورغم تعدد أدوات تنفيذ عمليات الاغتيال؛ إلا أن الجزء الأكبر من تلك العمليات كان انتقائياً، فقد اعتمدت بنسبة 53.3% منها على الطلق الناري، مقابل 6.6 % اعتمدت العبوة الناسفة، مستهدفاً أشخاصاً بعينهم بطريقة غير عشوائية. وبلغت نسبة الضحايا المدنيين 61.11 %، مقابل 27.7 % من مجموعات "جهادية"، في حين شكّلت نسبة "هيئة تحرير الشام" 11.11%. (الشكل 13).
الشكل 13: يبين توزع ضحايا الاغتيالات في إدلب، بحسب الجهة المستهدفة
وتشير طبيعة العمليات وأدوات التنفيذ المستخدمة ضمنها، إلى اختلاف واضح في طبيعة الاغتيالات المُنفّذة في إدلب عن باقي مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، والتي تغلب عليها العمليات العشوائية بهدف زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، بينما تبدو العمليات في إدلب أكثر انتقائية باتجاه تصفية شخصيات مدنية وعسكرية محددة، وذلك ضمن بيئة معقدة أمنياً، ومتعددة اللاعبين ذوي المصالح المتضاربة.
تفيد القراءة العامة لهذا التقرير بما يحمله من أرقام وبيانات عن عمليات الاغتيال، باستمرار ضعف الحالة الأمنية في جميع المناطق المرصودة ضمن الشمال السوري، وضعف قدرة القوى الفاعلة وتعثرها في الحد من تلك العمليات، التي تسهم في تراجع مؤشرات الأمن والاستقرار على مختلف المستويات.
وعلى الرغم من محاولات بعض الفصائل والتشكيلات العسكرية المعارضة تطوير أدواتها في ضبط الأمن، من خلال أجهزة الشرطة والشرطة العسكرية، وازدياد أعداد المنتسبين لتلك الأجهزة، وتخريج عدد من الدورات؛ إلا أنها ما تزال غير قادرة على الحد من تلك العمليات، ولا تملك قدرة الوصول إلى مُنفّذيها، الأمر الذي يستدعي إعادة هيكلة تلك الأجهزة، ورفع مستوى التدريب الخاص بعناصرها، ورفدهم بالتجهيزات اللوجستية والتقنية كافة، التي تساعد في الحد من تلك العمليات. إضافة إلى رفع مستوى التنسيق الأمني بين المناطق المختلفة، وتشكيل لجان أمنية مشتركة للتنسيق بين تلك المناطق من جهة، وإعادة هيكلة آليات التنسيق الأمني بين الجانبين التركي والسوري من جهة أخرى، خاصة مع وجود عوائق إدارية تحول دون الوصول للشكل الأمثل لهذا التنسيق، وبالتالي تسهم بشكل مباشر وغير مباشر بتوسيع هامش الخرق الأمني.
مقابل كل ذلك، لا بد من الدفع بإشراك المجتمع المحليّ والتنسيق مع فعالياته ومؤسساته المدنيّة في هذا الإطار، والسعي لتجسير أي هوة بين تشكيلات قوى الأمن الداخلي والمجتمعات المحلية العاملة ضمنها، بما يُسهّل مهمتها ويعزز من حالة الأمن، ويرفع المسؤولية بأهميتها للجميع، وبشكل يسهم في تأمين بيئة أمنيّة مناسبة لنشاط المؤسسات المدنية.
إضافة لذلك، من المهم أن تعمل القوى الأمنية والعسكرية المسؤولة عن تلك المناطق، على التعاطي مع الاغتيالات والتفجيرات بشفافية أعلى، عبر إعلان بيانات وأرقام رسميّة عن طبيعة تلك العمليات والمسؤولين عنها ونِسب العمليات التي نُفِذّت مقارنة بالمحاولات التي تم إحباطها قبل وقوعها. وذلك بشكل دوري يوضَح وتيرة الاغتيالات والجهد المقابل في مكافحتها والحد منها، ويضع الرأي العام المحلي- الدولي بصورة الواقع الأمني في المنطقة.
ولا يُعد تردي الأوضاع الأمنية محلياً، ضمن مناطق سيطرة الفصائل العسكرية المعارضة، أمراً منفصلاً عن السياق العام للملف السوري وتعقيداته، والتي ترمي بظلالها محلياً على مختلف المناطق السورية، بغض النظر عن القوى المسيطرة، إذ إن حالة الفوضى الأمنية التي تجلّت بصورة الاغتيالات في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، تتكرّر بصور وأدوات وكثافة مختلفة ضمن مناطق سيطرة نظام الأسد(20)، وكذلك في مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، بالرغم من المركزية الأمنية التي تحكم تلك المناطق، والمفتقَدة في مناطق سيطرة فصائل المعارضة.
([1]) "قوات تحرير عفرين": هي مجموعة من المقاتلين الكرد، الذين يصفون تجمعهم بــ "حركة مقاومة” عبر شن هجمات تستهدف الجيش التركي و"الجيش الوطني" المدعوم من تركيا في عفرين ومناطق أخرى، كما أن الحركة لا تقول صراحة إنها تتبع لـحزب الاتحاد الديمقراطي PYD أو "قسد". للمزيد حول طبيعة عمليات تلك الحركة راجع: مجموعة "تحرير عفرين" تتبنى استهداف نقطة تركية بريف حلب، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 13 أيلول/سبتمبر 2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/2f6xU
([2]) تنوعت مصادر بيانات التقرير وفقاً لما يلي: نقاط الرصد الخاصة بمركز عمران للدراسات في الشمال السوري. المُعرّفات الرسمية للجهات التي تم استهدافها (مدنية، عسكرية). المُعرّفات الرسمية للجهات المُنفِذة، أو التي تعلن تبنيها للعمليات كـ "غرفة عمليات غضب الزيتون" أو "قوات تحرير عفرين". المُعرّفات والمواقع الرسمية للوكالات ووسائل الإعلام المحليّة، التي تقوم بتغطية الأحداث في مناطق الرصد.
([3]) للاطلاع على التقرير السابق "الاغتيالات في مناطق المعارضة خلال الفترة الممتدة من كانون الثاني حتى حزيران 2022 "، راجع الرابط التالي: https://bit.ly/3I7n6S6
([4]) للاطلاع على التقرير السابق "الاغتيالات في مناطق المعارضة خلال الفترة الممتدة من تموز حتى كانون الأول 2022"، راجع الرابط التالي: https://2h.ae/rBPe
([5]) للاطلاع على عمليات "قوات تحرير عفرين" راجع الروابط التالية:http://tinyurl.com/2cnymmp7، http://tinyurl.com/2948qejx، http://tinyurl.com/27prryxp، http://tinyurl.com/25l73c3t
([6]) مقتل شاب على يد عناصر من الجيش الوطني السوري في مدينة الباب شرقي حلب، شبكة رصد سورية لحقوق الإنسان، 19 أغسطس، 2023، http://tinyurl.com/2yuwt4b5 ، ومقتل قيادي من "الجيش الوطني" برصاص فصائله شرق حلب، زمان الوصل، 7 أغسطس 2023، http://tinyurl.com/2docph3z
([7]) حصاد الأحداث الميدانية ليوم الإثنين 24-04-2023، شبكة شام، 24أبريل 2023، http://tinyurl.com/2cqzvken
([8]) حصاد "شــام" لمُجمل الأحداث الميدانية في سورية ليوم الاثنين 16/ تشرين الأول/ 2023، شبكة شام، 16 أكتوبر 2023، http://tinyurl.com/254j8xhr ، للاطلاع أكثر راجع الرابط التالي: http://tinyurl.com/2948qejx
([9]) التحالف يقتل قيادياً سابقاً في تنظيم "حراس الدين" شرق حلب، زمان الوصل، 08 تموز 2023، http://tinyurl.com/2dkbftwo
([10]) شمال سورية.. عائلة الديراوي تطالب بتسليم قتلة نجلها إلى محكمة أطمه، مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية، 6 أبريل 2023، http://tinyurl.com/2cqnl5n2
([11]) جرحى بانفجار سيارة مفخخة في عفرين شمال حلب، شبكة بلدي الإعلامية، 18 نوفمبر 2023، http://tinyurl.com/24gb4328
([12]) قوات تحرير عفرين تعلن عن مقتل وإصابة 31 جندياً حصيلة عمليات نفذتها، وكالة فرات للأنباء، 30 ديسمبر 2023، http://tinyurl.com/2banxn94
([13]) لغم أرضي يودي بحياة عنصرين من "الجيش الوطني" في الحسكة، شبكة بلدي الإعلامية، 12 يوليو 2023، http://tinyurl.com/288p27n7
([14]) مجهولون يغتالون "أوزبكياً" في محافظة إدلب، شبكة بلدي الإعلامية، 3 حزيران 2023، http://tinyurl.com/2doe4lzz
([15]) أبو الحسين القرشي: تركيا تقول إنها قتلت زعيم التنظيم في سورية، bbc عربي، 30 أبريل/ نيسان 2023، http://tinyurl.com/2p6egvbb
([16]) حصاد الاحداث الميدانية ليوم الجمعة 14-7-2023، شبكة شام، 14 تموز 2023، http://tinyurl.com/23g98h7k
([17]) أمريكا تحقق في قضية مقتل مدني استهدفته شمالي إدلب، عنب بلدي، 10 أيار 2023، http://tinyurl.com/23jtkzwn
([18]) مزمجر الثورة السورية، http://tinyurl.com/22jguzsv
([19]) حصاد الأحداث الميدانية ليوم الأربعاء 04-01-2023، شبكة شام، 4 كانون الثاني 2023، http://tinyurl.com/2946vqjh
([20]) الاعتقالات والاغتيالات في درعا: مقاربة النظام الأمنية عقب تسوية 2021، فاضل خانجي، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 15 كانون الأول 2022، https://bit.ly/3YuUTdx
يحاول تقرير التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق المعارضة في مدن وبلدات "درع الفرات"، و"عفرين"، ومحافظة إدلب استكمال ما بدأه منذ النصف الثاني لعام 2018 عبر رصد نشاطات الفاعلين من مجالس محلية ومنظمات خلال النصف الثاني لعام 2021 بين تموز وكانون الأول. ويهدف التقرير لتشخيص وفهم ما يلي:
وتتشكل أهمية هذا التقرير من قدرته على تشخيص حركة الانجاز في المشاريع الاقتصادية والتنموية المنفّذة بعموم المناطق التي يتم رصدها وتقييم الإيجابيات والسلبيات، مما يشكل دافعاً وإسهاماً لصنّاع القرار والفواعل لتوجيه الدعم وسد الثغرات في القطاعات الاقتصادية.
ركّز التقرير خلال عملية الرصد على المدن الرئيسية والبلدات المبين في الجدول رقم (2) التي شهدت نشاطاً اقتصادياً ملحوظاً، ووفقاً للتصنيف الصناعي المعياري الدولي، كما تم الاعتماد على المعرّفات الرسمية للمجالس المحلية والمنظّمات العاملة على "فيس بوك" و"تليغرام" وتسجيل نشاطاتها وتقاريرها الدورية الموضّحة بالجدول رقم (1)، وفق معادلة رصد مضبوطة تؤمّن القدرة على تحليل البيانات وفق مستويين، المستوى الأول مستوى القطاعات الاقتصادية، والثاني وفقاً للمستوى الجغرافي.
يوضّح الجدول أدناه خارطة الفواعل التي يرصد التقرير أنشطتها التنموية والخدمية والاقتصادية
كما يظهر الجدول أدناه القطاعات ونوعية النشاطات/ القرارات المرصودة:
تم تنفيذ 766 مشروعاً ونشاطاً في مناطق المعارضة بالشمال، ريف حلب الشمالي والشرقي ومحافظة إدلب، بانخفاض عن النصف الأول بنسبة 11% أو بواقع 104 مشروعاً. وحسب الشكل رقم (1) ورقم (4) يوضحّان عدد ونسب المشاريع في المنطقة، وكانت ضمن قطاع النقل والمواصلات (193 مشروع) بنسبة 25% وقطاع التجارة (169 مشروع) بنسبة 22% وقطاع لمياه والصرف الصحي (123 مشروع) بنسبة 16% وقطاع النزوح الداخلي في المرتبة الرابعة بواقع (104 مشروع) وقطاع الزراعة والثروة الحيوانية (61 مشروع) وقطاع الإسكان والتعمير (60 مشروع).
وحافظت إدلب على تنفيذ النسبة الأكبر من المشاريع والنشاطات بواقع 55% (419 مشروع) مقارنة مع ريف حلب (347 مشروع) كما يظهر في الشكل رقم (2).
وبشكل أكثر تفصيلاً يُظهر الشكل رقم (3) توزع المشاريع على المناطق المرصودة؛ حيث حلّت مدينة إدلب في المرتبة الأولى (125 مشاريع) في المؤشر للمرة الرابعة، وجاءت بعدها مدن الباب (85 مشروع) واعزاز (82 مشروع) وسرمدا (80 مشروع)، إضافة إلى مدن الدانا وعفرين وأخترين، ويعود تركز المشاريع في هذه المدن إلى عدة عوامل لعلّ أبرزها تركز عدد كبير من المخيمات فيها وبالتالي وجود معظم المنظمات والمحلية والأجنبية، واحتواءها على أسواق تجارية.
ومن بين أبرز القرارات والإعلانات التي تم اتخاذها والإعلان بها من قبل المجالس المحلية والمنظمات خلال هذه الفترة: عقد اجتماعات لعدة منظمات لوضع خطة لزراعة القمح وتنظيم زراعة وتصرف المحصول، وأطلق المجلس المحلي في مارع وصوران والراعي جمعية مزارعي البطاطا بالتعاون والتنسيق مع مؤسسة إكثار البذار، أما في إدلب فقد أعلن الاتحاد العام للفلاحين ومديرية زراعة إدلب أنها تتابع تشكيل الجمعيات الفلاحية في المدن والبلدات والقرى لتنظيم عمل الفلاحين وزراعاتهم وحل مشاكلهم العالقة، وأقر المجلس المحلي في مدينة الباب سعر الكيلو واط 88.8 قرش لخط الكهرباء المنزلي و1.15 لخط الكهرباء التجاري، كما تم تحديد سعر ربطة الخبز بليرتين تركيتين، وتم عقد مذكرتي تفاهم في الراعي واعزاز أحدهما لتعبيد الطرقات والأخرى لتقديم 50% من مادة الطحين للمجلس المحلي في الراعي لبيع ربطة الخبز للمواطن بسعر ليرة تركية، كما وفرت المنظمات والمجالس المحلية نحو 1862 فرصة عمل خلال الفترة المرصودة بزيادة 832 فرصة عن النصف السابق بنسبة 80%، معظمها عقود مؤقتة بين شهر و6 أشهر وسنة، وتركزت في القطاع الطبي من قبل منظمات "سيريا ريليف"، و"تكافل الشام"، و"المؤسسة الدولية للتنمية الاجتماعية" و"يداً بيد للاغاثة والتنمية" وغيرها.
استحوذ قطاع النقل والمواصلات على المرتبة الأولى ضمن مؤشر التعافي بواقع 193 مشروعاً، بارتفاع عن النصف السابق بـ52 مشروعاً، وحازت الدانا واعزاز وأخترين وعفرين على المراتب الأربعة الأولى بين المناطق التي تم رصدها كما يظهر في الشكل أدناه. ومن بين المشاريع المنفّذة استمرار رصف الطرقات الفرعية والساحات بحجر الانترلوك، وتعبيد الطرقات بالإسفلت بين اعزاز وكفركلبين، وكفركلبين وكلجبرين، والسلامة وشمارين، وشمارين وسجو وغيرها، وشهدت هذه الفترة أيضاً تأهيل العديد من الطرقات المؤدية إلى تجمعات المخيمات وربطها مع القرى المجاورة لسهولة نقل الخدمات إليها.
وتم تنفيذ 169 مشروعاً في قطاع التجارة جاءت إدلب في المرتبة الاولى بـ44 مشروعاً تلتها الباب واعزاز والدانا على التوالي، ولا تزال السمة الرئيسية في هذا القطاع هو إصدار المنظمات العاملة والمجالس المحلية مناقصات لتوريد أدوات طبية ووقود وقرطاسية وخدمات طباعة وطحين وتقديم عروض لاستئجار سيارات وسواها، ومن بين المنظمات التي تقدم مناقصات وتساعد على تنشيط هذا القطاع مؤسسة بناء للتنمية، ومنظمة بنيان، والرابطة الطبية للمغتربين، وجمعية عطاء وغيرها.
وفيما يتعلق بقطاع المياه والصرف الصحي تم تنفيذ 123 مشروعاً في المنطقة كما يُظهر الشكل أدناه، وتربّعت مدينة سرمدا على رأس القائمة بواقع 22 مشروعاً، تلتها مدينتي اعزاز (21 مشروع) وإدلب (14 مشروع)، ويعد هذا القطاع أحد القطاعات الحيوية ضمن مؤشر التعافي وساهم العمل عليه خلال الشهور الماضية في تحسن وضع البنية التحتية للمياه وطرق إيصالها للسكان والمخيمات، وأشارت إحصائية لوحدة تنسيق الدعم إلى طرق إيصال المياه في الشمال السوري في تشرين الأول 2021 وجاءت النسب: 89% بواسطة شبكة مياه و6% عبر الصهاريج و1% منهل.
وبالانتقال إلى قطاع النزوح الداخلي، انخفض عدد المشاريع في هذا القطاع عن النصف السابق بواقع 41 مشروعاً إذ تم تنفيذ 104 مشاريع خلال النصف الثاني من 2021 حيث نفّذ في سرمدا (24 مشروعاً) وأطمة (22 مشروعاً) وإدلب (19 مشروعاً)، نظراً إلى كثافة أعداد النازحين والمخيمات فيها، وشملت الأعمال تقديم خدمات البنية التحتية في المخيمات وترميم المنازل لتحسين الظروف المعيشية للنازحين القاطنين فيها، وأوردت نشرة لوحدة تنسيق الدعم أن 62% من الطرق ضمن المخيمات معبدة أو مرصوفة فيما لا تزال 38% تحتاج إلى رصف وتعبيد.
بالنسبة لقطاع الزراعة والثروة الحيوانية فقد تم تنفيذ 61 مشروعاً أقل بـثلاثة مشاريع عن النصف السابق، جاءت إدلب في المرتبة الأولى (18 مشروعاً) تلتها جرابلس (6 مشاريع) وقباسين وعفرين واعزاز (4 مشاريع) لكل منها، وتضمنت هذه الفترة دعم الفلاحين بالمواد الأساسية لدعم المحاصيل الزراعية، وتسليم قروض حسنة للمزارعين، ومتابعة حثيثة للمحصول من قبل المنظمات للتدخل في الأوقات المناسبة ومساعدة الفلاح على جني المحصول. وألقت المجالس المحلية الضوء أكثر على قطاع الزراعة من خلال دعم تأسيس جمعيات للمزارعين وتأسيس اتحاد عام لهم، واجتماع عدة منظمات في اعزاز لوضع خطة لزراعة القمح في المنطقة.
وسجّل قطاع الإسكان والتعمير تنفيذ 60 مشروعاً بزيادة 8 مشاريع عن النصف السابق، كما يظهر في الشكل أدناه، وبقيت مدينة الباب في قمة المؤشر بواقع 37 مشروعاً بدافع إصدار تراخيص على الشيوع لبناء سكني وتجاري، واستمرت مشاريع نقل المخيمات إلى مجمعات سكنية تتسع لمئات العائلات ومجهّزة بكافة الخدمات، وألقى "فريق ملهم التطوعي" على نقطة مهمة في هذا الإطار عندما تمكن من جمع تبرعات بأكثر من 2 مليون دولار لبناء وحدات سكنية للنازحين عوضاً عن الخيمة، وأنهى العمل في مدينة اعزاز على مشروعي أوتاد الذي يضم 320 وحدة سكنية، وقرية ملهم التي تضم 300 وحدة، وجهّزت منظمة إحسان 247 وحدة سكنية في بلدة كفرصفرة، والانتهاء من "قرية التميز الإنساني" من قبل منظمة وطن في مدينة حارم، وتم نقل 453 عائلة من المخيمات إلى مساكن جاهزة في قرية الزيتون في مدينة الدانا من قبل مديرية الشؤون الإنسانية. ومن بين المشاريع البارزة التي تم العمل عليها في هذه الفترة؛ بناء منطقة حرفية في اعزاز، وسوق من 39 محل في الراعي، وبدء العمل على مدينة صناعية في صوران.
ونفذت المجالس المحلية والمنظمات 24 مشروعاً في قطاع الكهرباء خلال هذه الفترة أقل بمشروعين عن النصف السابق. وجاءت إدلب على رأس القائمة بـ5 مشاريع والراعي بـ4 مشاريع وبعدها الأتارب، وتم خلالها إيصال الكهرباء للبلدات ولمدن وتجهيز أعمدة إنارة للمحلّق الغربي الشمالي في اعزاز، وعلى طريق معبر السلامة، وفي الراعي وقباسين وسلقين، ونفّذت العديد من المنظمات مشاريع توليد طاقة كهربائية عبر تركيب المئات من ألواح الطاقة الشمسية في محطات ضخ المياه لتخديم النازحين في المخيمات في كفردريان وصوران وإدلب والأتارب.
فيما يتعلق بقطاع الخدمات الاجتماعية فقد تم تنفيذ 17 مشروعاً أقل بـ9 مشاريع عن النصف السابق، حيث تم بناء مدرسة "حق الشام" في مدينة الباب، ومدرسة في أخترين، ومستوصف في صلوة، وتم تأهيل 6 مدارس في مدينة اعزاز، وتأهيل عدد من المدراس في عفرين، وغيرها.
وفيما يتعلق بقطاع التمويل، تم تنفيذ 10 مشاريع في بزاعة والباب واعزاز والراعي وأخترين وإدلب ومن بين المشاريع التي يتم تنفيذها، النقد مقابل العمل التي تستهدف أعمال النظافة العامة والمشاريع الخدمية، وطرح مزادات لاستثمار محال وصالات تجارية، وتم طرح معمل غاز وأراضي زراعية ومحل تجاري وحديقة للاستثمار في بزاعة.
كما تم تنفيذ 3 مشاريع في قطاع الاتصالات، بينها إصلاح خط الهاتف الواصل بين إدلب وعربيتا، وصيانة وتمديد خطوط للهاتف الأرضي في إدلب. أما في قطاع الصناعة فقد تم تنفيذ مشروع يتعلق بتجهيز معمل لصناعة حجر الانترلوك في مدينة جرابلس، ومشروع بناء محطة مفاعل معالجة لاهوائية للصرف الصحي في بلدة باتبو.
أخيراً، يمكن القول إن النصف الثاني من 2021 انخفضت عدد المشاريع فيه بواقع 104 مشاريع، وبقي تركز المشاريع في قطاعات النقل والمياه والتجارة في سلم أولويات المنظمات العاملة والمجالس المحلية، ولا تزال إدلب تتفوق بعدد المشاريع على ريف حلب بواقع 55% لإدلب مقابل 45% لريف حلب. وتم تسجيل 1862 فرصة عمل أوجدت من قبل المنظمات والمجالس المحلية في مختلق القطاعات الاقتصادية، وتركز معظمها في القطاع الطبي وهو مؤشر يؤكد على آثار الحرب واحتياجات المنطقة في هذا القطاع.
يُظهر الشكل رقم (13) المسح القطاعي على مشاريع التعافي في مناطق المعارضة من النصف الثاني في 2018 حتى النصف الثاني في 2021 أنجز خلالها 4070 مشروعاً معظمها في قطاع النقل والمواصلات تلاها المياه والصرف الصحي ومن ثم قطاع التجارة، وقد شكّلت هذه القطاعات بما رفدته من مشاريع ونشاطات قاطرة عملية التعافي في المنطقة على مدار الفترة الماضية واستطاعت تقديم الخدمات الأساسية الأشد احتياجاً للسكان من مياه وطرقات، فيما حازت قطاعات الصناعة والاتصالات والتمويل على الاهتمام الأقل بين القطاعات المرصودة فضلاً عن قطاع الزراعة والثروة الحيوانية الذي نفذ فيه 323 مشروعاً، وهي إشارة إلى خلل يحتاج إلى تضافر الجهود لدفع هذه القطاعات وإعادة التوازن للمنطقة، باعتمادها على الموارد المحلية المتوفرة لإحلال جزء من الواردات وعدم الاعتماد على الخارج بنسبة عالية. كما يشكل قطاع النزوح الداخلي (577 مشروعاً) تحدٍ كبير للمنطقة بالمنهجية المتبعة في تخديم النازحين في المخيمات، وقد بدأت العديد من المنظمات الاعتماد على بناء منازل سكنية وتنقل سكان المخيمات إليها، إلا أن العدد الكبير للمخيمات يحتاج لتضافر عدد أكثر من المنظمات للعمل على خطة تضمن إنهاء المخيمات ومشاكلها.
وفيما يتعلق بتوزع المشاريع على البلدات والمدن يُظهر الشكل رقم (14) مدينة إدلب على رأس قائمة المدن الأكثر تنفيذاً للمشاريع بواقع 562 مشروعاً، وتلتها مدينتي الباب واعزاز 487 و388 على التوالي. وساهم تركز المنظمات المحلية والأجنبية من جانب، والمخيمات من جانب آخر إلى استقطاب هذه المدن مشاريع بشكل أكثر من بقية المدن الأخرى. ومن جانب آخر يلحظ التقرير التغيرات الجذرية التي حلّت ببعض القرى والبلدات الصغيرة بتحولها إلى حواضن كبيرة إثر تدفق النازحين وإنشاء المخيمات فيها ونشاط المنظمات والمجالس المحلية فيها، مثل بزّاعة والدانا وسرمدا، على حساب المدن الكبيرة والتي كانت تشكل مراكز جذب تجاري واقتصادي مثل عفرين وحارم وغيرها.
تبين نتائج الرصد في النصف الثاني لعام 2021 جملة من نقاط القوة والضعف قي القطاعات المرصودة في مناطق "درع الفرات" و"عفرين" ومحافظة إدلب، فبالنسبة لنقاط الضعف يمكن شملها بالنقاط الآتية:
أما بالنسبة لنقاط القوة التي يسجلها التقرير:
يورد التقرير توصيتين من شأنهما رفد عملية التعافي الاقتصادي المبكر مزيداً من التنسيق في المنطقة وفواعلها، ومزيداً من العمل في القطاعات غير الفاعلة حتى الآن:
مدخل
تشهد مناطق سيطرة الفصائل العسكرية المعارضة في الشمال السوريّ خرقاً أمنياً واضحاً، يتجلى في أبرز جوانبه بوتيرة عمليات الاغتيال المستمرة ومعدلاتها المرتفعة، والتي تعد مؤشراً هاماً على تدهور حالة الاستقرار الأمني وتدني القدرة على ضبطها من قبل القوى المسيطرة، خاصة مع ازدياد محاولات الاغتيال ضمن تلك المناطق وتعدد دوافعها ومُنفذيها واختلاف أساليبها، وسط استمرار قصف النظام وحلفائه لبعض تلك المناطق، الأمر الذي يزيد من تعقيد الوضع الأمني والقدرة على ضبطه.
وعادةً ما تتصف عمليات الاغتيال بالسريّة لناحية الجهة المنُفذّة؛ إلا أن هناك نسبة كبيرة من تلك العمليات ضمن مناطق سيطرة الفصائل المعارضة تتبناها جهات محددة بشكل علني كغرفة عمليات "غضب الزيتون"([1]) و"سرية أنصار أبي بكر الصديق"([2]) و "قوات تحرير عفرين"([3]). في اختراق أمني واضح وصريح لتلك المناطق، خاصة "نبع السلام" وعفرين. وبالرغم من اختلاف وتيرة ومعدل عمليات الاغتيال من منطقة إلى أخرى ضمن الشمال السوري؛ إلا أنها تتقاطع في التدليل على التراجع العام لمؤشرات الاستقرار الأمني.
وفي متابعة لملف الاغتيالات ضمن مناطق سيطرة الفصائل العسكرية المعارضة في الشمال السوري؛ صَمّمَتْ وحدة المعلومات في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، نموذجاً خاصاً لرصد تلك العمليات وتحليل البيانات الخاصة بها، كمؤشرات للاستقرار الأمني ([4])، وإخراجها ضمن تقرير دوريّ يرصد وتيرة عمليات الاغتيال، موضّحاً نتائجها، وما أسفرت عنه، مقابل الجهات المُنفّذة -إن عُلِمت-وكذلك الجهات المُستهدَفة. كما يسعى التقرير إلى تحليل تلك البيانات ومقاطعتها بين مختلف المناطق، في محاولة لرسم الملامح العامة للوضع الأمنيّ وقياس أوليّ لمؤشرات الاستقرار.
وعليه، يرصد هذا التقرير عمليات الاغتيال ضمن مناطق عدة في الشمال السوري، منها: ريف حلب الشمالي، والذي شكّل نطاق العمليات العسكرية: "درع الفرات" و"غصن الزيتون". مقابل مدينتي تل أبيض ورأس العين "نبع السلام" في الشمال الشرقي، إضافة إلى ما تبقى من محافظة إدلب وريف حلب شمال غربي سورية، وذلك خلال الفترة الممتدة ما بين (كانون الثاني/ يناير وحتى حزيران/ يونيو 2021)، إذ بلغ عددها 70محاولة اغتيال، خلّفت 342 ضحية. وتوضّح البيانات انخفاضاً طفيفاً في معدل الاغتيالات، مقارنة بالتقرير السابق، الذي أصدرته وحدة المعلومات في مركز عمران، (الاغتيالات في مناطق المعارضة خلال الفترة الممتدة من تموز حتى كانون الأول 2020)، إذ بلغت 74 عملية، خلّفت 471 ضحية ([5]).
وقد توزعت عمليات الاغتيال الـ 70 المرصودة ضمن التقرير الحالي، بحسب الأشهر، على الشكل التالي: 21 محاولة اغتيال خلال شهر كانون الثاني/ يناير، في حين بلغت خلال شباط/ فبراير 14 محاولة، فيما بلغت المحاولات خلال آذار/مارس 9 محاولات، بينما شهد نيسان/ أبريل 14 محاولة، لتنخفض في أيار/ مايو إلى 11 محاولة، في حين بلغت في حزيران/ يونيو محاولة وحيدة. ويسعى هذا التقرير بعد رصد تلك العمليات، إلى دراستها وتحليلها واستعراضها بحسب؛ مناطق السيطرة، والجهات المُستَهدَفة والمُنفِّذة، طبيعة أداة التنفيذ، ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها، مقابل أثرها على مستوى الأمن والاستقرار في المنطقة.
أولاً: "درع الفرات" (خرقٌ مستمر)
تُظهر عملية الرصد الخاص بمناطق ريف حلب الشمالي الغربي "درع الفرات"، بلوغ معدل عمليات الاغتيال خلال 6 أشهر من الرصد: 25 عملية (الشكل 1)، نُفّذت 9 منها عبر الطلق الناري، وأسفرت عن 10 ضحايا، إذ حققت 8 عمليات من 9 غايتها في تصفية الجهة المستهدفة، فيما فشلت عملية وحيدة في تحقيق هدفها. وقد بقيت المحاولات جميعها مجهولة المُنفِّذ. وكانت فصائل "الجيش الوطني" هدفاً لتلك الاغتيالات بواقع 3 عمليات، مقابل 6 عمليات استهدفت كوادر إدارية مدنية من المجالس المحليّة والإعلاميين.
بالمقابل، نُفِّذت 11 من 25 عملية عبر العبوات الناسفة، مخلّفةً بمجموعها 30 ضحية (4 قتلى، 26 جريحاً)، منهم 24 مدنياً مقابل 6 من عناصر "الجيش الوطني". فيما نُفِذت 5 عمليات من 25 عبر آليات نقل مُفخّخة، حيث خلَفت 65 ضحية (21 قتيلاً، 44 جريحاً)، منهم 46 مدنياً مقابل 19 من عناصر "الجيش الوطني" (الشكل 2)، واستهَدَفَت أغلب تلك العبوات والمفخخات شخصيات أو مجموعات عسكرية وسط تجمعات المدنيين، إضافة إلى استهداف تجمعات مدنية خالصة. وقد اتهمت وزارة الدفاع التركية عبر بيان رسمي "قوات سوريا الديمقراطية" بتنفيذ عمليتين ([6])، بينما بقيت 14 من مجمل عمليات العبوات الناسفة والمفخخات مجهولة المُنفِّذ.
ويتضح من خلال أرقام وبيانات الرصد الخاصة بمناطق ريف حلب الشمالي الغربي، انخفاض طفيف في معدل عمليات الاغتيال مقارنة بالتقرير السابق، الذي أصدره مركز عمران وغطى الفترة الممتدة من تموز/ يوليو وحتى كانون الأول/ ديسمبر 2020، إذ سجّل التقرير السابق 27 عملية اغتيال في تلك الفترة، في حين رصد التقرير الحالي تنفيذ 25 عملية. بالمقابل، توضّح الأرقام انخفاضاً في معدل عدد الضحايا، مقارنة بالتقرير السابق، الذي سجّل 240 ضحية، بينما بلغ مجموع عدد الضحايا خلال فترة الرصد الحالية 105 ضحايا. وقد يُردّ ذلك إلى اختلاف أهداف العمليات الحالية وأدوات التنفيذ المستخدمة فيها، والتي اعتمدت بنسبة 36% على الطلق الناري، كما أن أغلب العمليات المُنفَّذة عبر العبوات الناسفة استهدفت شخصيات عسكرية/مدنية بعينها، في حين استهدفت آليات النقل المفخخة في أغلبها تجمعات مدنية خالصة، ما أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا، شكّلت نسبة المدنيين منهم 72%، مقابل 28% من عناصر "الجيش الوطني" (الشكل 3).
أما بالنسبة للجهات المُنفِّذة، فيُلحظ من البيانات، إعلان وزارة الدفاع التركية مسؤولية "قوات سوريا الديمقراطية" عن 8% من مجموع العمليات المرصودة. في حين بقيت 92% من عمليات الاغتيال مجهولة المُنفِّذ، الأمر الذي يشير إلى استمرار تردي الواقع الأمني، وضعف قدرة الجهات المسيطرة على تتبع تلك العمليات والكشف عن منفذيها والحد منها.
وبالرغم من أن التقرير سجّل تراجعاً طفيفاً في معدل عمليات الاغتيال في المنطقة، مقارنة بالتقرير السابق؛ إلا أن الواقع ما يزال يشير إلى اتساع الخرق الأمني، مقابل عدم تقدم القوى المسيطرة في ضبط الاستقرار وتضييق حجم هذا الخرق. خاصة في ظل اتهامات لأطراف وجهات عدة بالسعي إلى زعزعة الأمن والاستقرار، وتقاطع مصالحها في ذلك، كحزب الاتحاد الديمقراطي"PYD" وخلاياه النشطة في المنطقة، التي يعدونها امتداداً للنفوذ التركي ومن فيها "أهداف مشروعة"، إضافة إلى النظام الذي يسعى إلى زعزعة أمن المنطقة وإفشال أي نموذج أمني/حوكمي فيها.
ثانياً: عفرين (تبنٍ علنيّ)
من خلال رصد وتحليل البيانات لعمليات الاغتيال الخاصة بمدينة عفرين ومحيطها من المناطق، يتضح أنها شهدت بالعموم: 16 عملية اغتيال خلال 6 أشهر من الرصد، أسفرت عن 140 ضحية بين قتيل وجريح. وقد نُفِّذت عمليتان من مجموع العمليات الـ 16 عبر الطلق الناري، حققتا غايتهما في تصفية الجهة المستهدفة، وكان عناصر "الجيش الوطني" هدفاً لهاتين العمليتين اللتين بقيتا مجهولتي المُنفِّذ.
بالمقابل، وبحسب البيانات المرصودة، نُفِّذت 14 عملية من مجمل العمليات الـ 16 عبر العبوات الناسفة (الشكل 4)، واستهدفت عناصر ومجموعات لـ "الجيش الوطني" وسط تجمعات للمدنيين، في حين استهدفت أخرى تجمعات مدنية خالصة، ما أدى إلى وقوع 28 قتيلاً و110جرحى (الشكل 5)، 110منهم من الضحايا المدنيين، و28 من عناصر "الجيش الوطني"، وقد تبنّت "غرفة عمليات غضب الزيتون" عبر معرفاتها الرسميّة 3 من مجموع عمليات العبوات الناسفة، كما تبنّت "قوات تحرير عفرين" 3 من مجموع العمليات أيضاً، فيما بقيت 8 محاولات مجهولة المُنفِّذ.
وتبيّن أرقام وبيانات الرصد الخاصة بمدينة عفرين ومحيطها، ارتفاعاً طفيفاً في معدل عمليات الاغتيال، مقارنة بالتقرير السابق الذي أصدره مركز عمران، وغطى الفترة الممتدة من تموز وحتى كانون الأول 2020، إذ سجّل التقرير السابق 14 عملية اغتيال في تلك الفترة، بينما رصد التقرير الحالي تنفيذ 16 عملية. وعلى الرغم من ارتفاع معدل عمليات الاغتيال مقارنة بالتقرير السابق؛ إلا أن نسبة الضحايا في التقرير الحالي كانت أكبر، فقد بلغت خلال أشهر الرصد الحالي 140 ضحية، في حين سجّل التقرير السابق 95 ضحية. وقد يُردّ ذلك إلى اختلاف الأهداف وأدوات التنفيذ في أغلب العمليات الحالية، حيث اعتمدت بنسبة 88% على العبوات الناسفة، التي استهدفت شخصيات أو مجموعات عسكرية وسط تجمعات مدنيين، مقابل أخرى استهدفت تجمعات مدنية كالأسواق والأفران، ما أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا، شكّلت نسبة المدنيين منهم 79%، مقابل 21% من عناصر "الجيش الوطني" (الشكل 6).
بالمقابل، يُلحظ من خلال البيانات نشاط واضح لغرفة عمليات "غضب الزيتون" و "قوات تحرير عفرين"، فقد تبنّتا تنفيذ 38% من مجمل عمليات الاغتيال المُنفَّذة في المنطقة، إذ يبدو أنها تركّزان عملياتهما ونشاطهما الأمني في عفرين، التي شهدت أكبر عمليات اغتيال تبنتها الغرفة قياساً بباقي المناطق. بينما بقيت 62% من مجموع العمليات مجهولة المُنفذ. وقد استهدفت تلك العمليات في أغلبها عناصر "الجيش الوطني"، والذين تحولوا إلى أهداف متحركة داخل مدينة عفرين، سواء على المستوى الفردي عبر تصفية أفراد بعينهم، أم على مستوى جماعي عبر استهداف مجموعاتهم العسكرية وسط تجمعات مدنية، ما أدى إلى وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين. وتنسجم طبيعة تلك العمليات مع الرؤية المعلنة لـ"غرفة عمليات غضب الزيتون"، والتي تعتبر المنطقة "امتداداً للنفوذ التركي" وترى المقاتلين المحليين والعوائل المهجّرة بالإطار ذاته، وبالتالي تكثف من عملياتها وتشرعنها تحت هذا الغطاء، دون تمييز بين مدني وعسكري.
بالمقابل، فإن حركة الاغتيالات في عفرين والتبني الواضح لها، يتناسب طرداً مع مستوى القدرة الأمنية للجهات المُسيطرة، فعلى الرغم من تسجيل مناطق "درع الفرات" نسبة أكبر بعمليات الاغتيال (25) من عفرين ومحيطها (16)؛ إلا أن ذلك لا يعني اختلافاً كبيراً في مستوى الضبط الأمني، خاصة وأن أغلب العمليات التي نُفّذت في عفرين كانت "نوعيّة"، ناهيك عن وضوح الجهات التي تقف خلفها، وهي "غرفة عمليات غضب الزيتون" و"قوات تحرير عفرين"، وتوسيعهما لنشاطهما بشكل يشير إلى ارتفاع مستوى تلك العمليات وتوسيع دائرة أهدافهما، وزيادة النشاط الأمني لبقايا خلايا حزب الاتحاد الديمقراطي"PYD". مقابل استمرار الخرق الأمني في المنطقة، وعدم إحراز تقدم كبير على مستوى الضبط من قبل الجهات المسيطرة.
ثالثاً: "نبع السلام" (اتهامات لـ PKK)
يشير الرصد الخاص بمنطقتي رأس العين وتل أبيض، واللتين شكلتا نطاق العملية العسكرية "نبع السلام"، إلى بلوغ عمليات الاغتيال خلال 6 أشهر من الرصد: 12عملية اغتيال، نُفّذت عمليتان منها عبر الطلق الناري، حقتتا غايتهما في تصفية الجهة المستهدفة (الشكل 7). في حين كانت العبوة الناسفة أداة لتنفيذ 10 عمليات، استهدفت عناصر ومجموعات "الجيش الوطني" وسط تجمعات للمدنيين، بينما استهدفت أخرى جهات مدنية، ما أدى إلى وقوع 58 ضحية بين قتيل وجريح (الشكل 8)، منهم 42 مدنياً، و16 من عناصر "الجيش الوطني". وكانت فصائل "الجيش الوطني" هدفاً لتلك العبوات بواقع 5 محاولات، مقابل 5 محاولات أيضاً استهدفت جهات مدنية.
ويتضح من خلال البيانات الخاصة بمدينتي رأس العين وتل أبيض "نبع السلام"، انخفاض طفيف في عمليات الاغتيالات، قياساً بالتقرير السابق، والذي سجّل 15 عملية اغتيال، في حين سجّل التقرير الحالي 12 عملية، بالمقابل يُلحظ انخفاض في معدل ضحايا تلك العمليات، قياساً بالتقرير السابق، والذي سجّل وقوع 97 ضحية بين قتيل وجريح، في حين رصد التقرير الحالي وقوع 60 ضحية بين قتيل وجريح. وقد يُردّ ذلك من جهة إلى الانخفاض الطفيف في معدل عمليات الاغتيال عن سابقتها في التقرير الفائت، ومن جهة أخرى إلى تغيير نوعية الأهداف التي باتت تركز على استهداف أفراد بعينهم سواء كانوا مدنيين أم عسكرييين عبر العبوات الناسفة والطلق الناري، مقابل عمليات أخرى استهدفت تجمعات مدنية متوسطة الكثافة أو عناصر من "الجيش الوطني" وسط تجمعات مدنية. ما أدى إلى وقوع عدد من الضحايا، شكّلت نسبة المدنيين منهم 70%، في حين شكّلت نسبة عناصر "الجيش الوطني" 30% (الشكل 9).
أما بالنسبة للجهات المُنفِّذة، فعلى الرغم من عدم وجود تبنٍ علني لتلك العمليات، إلا أن مصادر جمع البيانات تشير إلى اتهامات لخلايا حزب العمال الكردستاني "PKK" في الضلوع بأغلب تلك العمليات، خاصة وأن طبيعة العمليات لا تختلف عن سابقاتها في مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، من ناحية الأهداف والأدوات وأساليب التنفيذ.
ومن خلال الأرقام السابقة لمختلف المناطق المرصودة، يتضح أن مناطق سيطرة "الجيش الوطني" في ريف حلب الغربي "درع الفرات" الأكثر تردياً أمنياً، قياساً بمناطق (عفرين، تل أبيض، رأس العين). وذلك لناحية ارتفاع وتيرة الاغتيالات واتساع الخرق الأمني وتعدد الجهات المُنفِّذة واختلاف مصالحها وارتباطاتها، مقابل ضعف قدرة القوى المُسيطرة على ضبط الاستقرار وتضييق حجم هذا الخرق. ولعل ارتفاع معدل العمليات إلى هذا الحد لا يُعدُّ مؤشراً على عجز التشكيلات الأمنية لـ "الجيش الوطني" على ضبط الأمن والاستقرار بالنسبة للمدنيين فحسب، وإنما ضعف قدرتها أيضاً على تأمين وحماية عناصرها، وهذا ما تدلل عليه طبيعة تلك العمليات، الممتدة إلى مختلف مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، والتي شهدت عمليات اغتيالات لا تختلف كثيراً عن سابقتها، لناحية طبيعتها والجهات المُنفِّذة والمُستَهدَفة. ومهما اختلفت دوافع تنفيذها والجهات التي تقف وراءها؛ فإن الحد منها وتحمُّل مسؤولية نتائجها يقع في النهاية على عاتق القوى والتشكيلات العسكرية والأمنية المُسيطرة في تلك المناطق، سواء "الجيش الوطني" أم القوات التركية.
رابعاً: إدلب وما حولها (أهداف متعددة)
من خلال البيانات المرصودة، يتضح أن عدد عمليات الاغتيال فيما تبقى من محافظة إدلب وما حولها بلغ 17 عملية، خلال 6 أشهر من الرصد، حققت 5 عمليات منها غايتها في تصفية الجهة المستهدفة، بينما فشلت 12 محاولة في ذلك بعد نجاة الطرف المُستَهدَف. وقد أسفر مجموع العمليات عن 37 ضحية، منهم 12 قتيلاً و25 جريحاً.
أما بالنسبة لأدوات التنفيذ، فقد اعتمدت 6 عمليات اغتيال على الطلق الناري، نجحت 3 منها في تصفية الهدف، بينما فشلت 3 عمليات في ذلك، وأسفر مجموع عمليات الطلق الناري عن 7 ضحايا، بينهم قاضٍ و 4 من الفصائل الجهادية ضمنهم قائد ميداني. بينما نُفِّذَت 11 عملية عن طريق العبوات الناسفة، أسفرت عن 30 ضحية، منهم 7 من فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" ضمنهم قياديون ميدانيون، مقابل 6 مدنيين ضمنهم عضو مجلس محلي، في حين استُهدِف عناصر "هيئة تحرير الشام" في عملية أسفرت عن قتيلين، كما استُهدِف عناصر الجيش التركي المتواجد في المنطقة بـ 4 محاولات أسفرت عن 15 بين قتيل وجريح (الشكل 10).
ومن مُجمل عمليات الاغتيال الـ 17، استُهدِف عناصر وقيادات "مجموعات جهادية" بواقع 5 عمليات، بينما كانت فصائل "الجبهة الوطنية للتحرير" هدفاً في 3 منها، في حين تم استهداف جهات مدنية بواقع 5 عمليات، كما تم استهداف الجيش التركي في 4 محاولات (الشكل 11). أما بالنسبة للجهة التي تقف وراء تلك العمليات، فقد تبنّت سرية "أنصار أبي بكر الصديق" محاولة وحيدة استهدفت عناصر الجيش التركي، في حين بقيت المحاولات الـ 16 الأخرى مجهولة المُنفِّذ، حتى تاريخ إعداد هذا التقرير.
ويتضح من خلال بيانات الرصد الخاصة بمناطق إدلب وما حولها، انخفاض طفيف في معدل عمليات الاغتيال، قياساً بالتقرير السابق الذي أصدره مركز عمران، وغطى الفترة الممتدة من تموز وحتى كانون الأول 2020. إذ سجّل التقرير السابق 18 عملية اغتيال في تلك الفترة، بينما رصد التقرير الحالي تنفيذ 17 عملية. كما تشير البيانات إلى تعدد الجهات محل الاستهداف، فقد كانت الجهات المدينة والفصائل الجهادية الأكثر استهدافاً خلال فترة الرصد الحالي بمعدل 29% لكل منهما من مجموع العمليات. بينما كان عناصر الجيش التركي المتواجد في المنطقة هدفاً في 24% من عمليات الاغتيال المُنفَّذة خلال فترة الرصد، إذ يلحظ التقرير الحالي ازدياداً واضحاً في استهدافهم، قياساً بالتقرير السابق، الذي لم يرصد أية محاولة ضدهم. في حين مثلت "الجبهة الوطنية للتحرير" هدفاً في 18% من مجموع العمليات.
وبالرغم من تعدد أدوات تنفيذ عمليات الاغتيال؛ إلا أن الجزء الأكبر من تلك العمليات كانت انتقائية، فقد اعتمدت بنسبة 35% على الطلق الناري، مقابل 65% اعتمدت العبوة الناسفة كأداة للتنفيذ، مستهدفة أشخاصاً بعينهم بطريقة غير عشوائية، سواء بالنسبة للعسكريين أم المدنيين، ما أدى إلى وقوع ضحايا إضافيين ضمن محيط التفجير، أو من مرافقي الشخصية المستهدَفة. حيث بلغت نسبة الضحايا المدنيين 22% مقابل 78% من العسكريين (الشكل 12).
وتشير طبيعة العمليات وأدوات التنفيذ المستخدمة ضمنها، إلى اختلاف واضح في طبيعة الاغتيالات المنفذة في إدلب عن باقي مناطق سيطرة "الجيش الوطني"، التي تغلب عليها العمليات العشوائية بهدف زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، بينما تبدو العمليات في إدلب منتظمة ومدروسة باتجاه تصفية شخصيات مدنية وعسكرية محددة، وذلك ضمن بيئة معقدة أمنياً، ومتعددة اللاعبين ذوي المصالح المتضاربة، في مؤشر لفوضى البيئة أمنياً وتراجع القدرة على الضبط والسيطرة. ولعل ما يؤكد ذلك هو انخفاض نسبة الضحايا المدنيين في المنطقة مقارنة بالعسكريين، الأمر الذي يختلف كلياً عن باقي مناطق سيطرة الجيش الوطني حيث يشكل المدنيون النسبة الأكبر من حصيلة عمليات الاغتيال ضمنها.
خاتمة
تفيد القراءة العامة لهذا التقرير بما يحمله من أرقام وبيانات عن عمليات الاغتيال، باستمرار ضعف الحالة الأمنية في جميع المناطق المرصودة ضمن الشمال السوري، وضعف قدرة القوى الفاعلة وتعثرها في الحد من هذه العمليات، التي تسهم في تراجع مؤشرات الأمن والاستقرار على مختلف المستويات.
وعلى الرغم من محاولات بعض الفصائل والتشكيلات العسكرية المعارضة تطوير أدواتها في ضبط الأمن، من خلال أجهزة الشرطة والشرطة العسكرية، وازدياد أعداد المنتسبين لتلك الأجهزة، وتخريج عدد من الدورات؛ إلا أنها ما تزال غير قادرة على الحد من تلك العمليات، ولا تملك قدرة الوصول إلى مُنفّذيها، الأمر الذي يستدعي إعادة هيكلة تلك الأجهزة، ورفع مستوى التدريب الخاص بعناصرها، ورفدهم بكافة التجهيزات اللوجستية والتقنية التي تساعد في الحد من تلك العمليات، إضافة إلى رفع مستوى التنسيق الأمني بين المناطق المختلفة، وتشكيل لجان أمنية مشتركة للتنسيق بين تلك المناطق من جهة، ولإعادة هيكلة آليات التنسيق الأمني بين الجانبين التركي والسوري من جهة أخرى، خاصة مع وجود عوائق إدارية تحول دون الشكل الأمثل لهذا التنسيق، وبالتالي تسهم بشكل مباشر وغير مباشر بتوسيع هامش الخرق الأمني.
مقابل كل ذلك، لا بد من الدفع لإشراك المجتمع المحليّ والتنسيق مع فعالياته ومؤسساته المدنيّة في هذا الإطار، والسعي لتجسير أي هوة بين تشكيلات قوى الأمن الداخلي والمجتمعات المحلية العاملة ضمنها، بما يسهّل مهمتها ويعزز من حالة الأمن، ويرفع المسؤولية بأهميتها للجميع، وبشكل يسهم في تأمين بيئة أمنيّة مناسبة لنشاط المؤسسات المدنية. إضافة لذلك، من المهم أن تعمل القوى الأمنية والعسكرية المسؤولة عن تلك المناطق، على التعاطي مع الاغتيالات والتفجيرات بشفافية أعلى، عبر إعلان بيانات وأرقام رسميّة عن طبيعة تلك العمليات والمسؤولين عنها ونِسب العمليات التي نُفِذّت مقارنة بالمحاولات التي تم إحباطها قبل وقوعها، وذلك بشكل دوري يوضَح وتيرة الاغتيالات والجهد المقابل في مكافحتها والحد منها، ويضع الرأي العام المحلي-الدولي بصورة الواقع الأمني في المنطقة.
ولا يُعد تردي الأوضاع الأمنية محلياً ضمن مناطق سيطرة الفصائل العسكرية المعارضة، أمراً منفصلاً عن السياق العام للملف السوري وتعقيداته، والتي ترمي بظلالها محلياً على مختلف المناطق السورية، بغض النظر عن القوى المسيطرة، إذ إن حالة الفوضى الأمنية التي تجلت بصورة الاغتيالات في مناطق سيطرة الفصائل المعارضة، تتكرر بصور وأدوات وكثافة مختلفة ضمن مناطق سيطرة نظام الأسد، وكذلك مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية"، على الرغم من المركزية الأمنية التي تحكم تلك المناطق، والمفتقَدة في مناطق سيطرة فصائل المعارضة.
([1] ) "غرفة عمليات غضب الزيتون": وهي بحسب توصيفها لنفسها عبر معرفاتها الرسميّة؛ "مجموعة من شباب وشابات عفرين، مختصة بالعمليات ضد "مرتزقة الاحتلال التركي"، وتقوم باغتيال المقاتلين المحليين المدعومين من تركيا، بالإضافة إلى المقاتلين الأتراك المتواجدين في المنطقة، للاطلاع والتعرف أكثر على هذه المجموعة راجع الرابط التالي: http://www.xzeytune.com
([2] )"سرية أنصار أبي بكر الصديق": فصيل عسكري ينشط في إدلب، "يدّعي استقلاليته وعدم تبعيته لأي جهة"، ينشط في عمليات أمنية ضد عناصر الجيش التركي في محافظة إدلب، للمزيد راجع: ما هوية "السرية" التي نفذت 19 هجوماً ضد القوات التركية في إدلب، السورية.نت، 24 تشرين الأول/أكتوبر، متوافر على الرابط التالي: https://bit.ly/3r92NuR
([3] ) "قوات تحرير عفرين": هي مجموعة من المقاتلين الكرد، الذين يصفون تجمعهم بــ "حركة مقاومة” عبر شن هجمات تستهدف الجيش التركي و"الجيش الوطني" المدعوم من تركيا في عفرين ومناطق أخرى، كما أن هذه الحركة لا تقول صراحة إنها تابعة لـحزب الاتحاد الديمقراطي PYD أو "قسد". للمزيد حول طبيعة عمليات تلك الحركة راجع: مجموعة "تحرير عفرين" تتبنى استهداف نقطة تركية بريف حلب، الموقع الإلكتروني لصحيفة عنب بلدي، 13 أيلول/سبتمبر 2020، متوافر على الرابط التالي: https://cutt.us/2f6xU
([4]) فيما يتعلق بمصادر التقرير فهي على الشكل التالي: 1) نقاط الرصد الخاصة بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية في الشمال السوري. 2) التقرير الأمني الخاص الصادر عن مكاتب منظمة "إحسان الإغاثية" في الشمال السوري. 3) المُعرّفات الرسمية للجهات التي تم استهدافها (مدنية، عسكرية). 4) المُعرّفات الرسمية للجهات المُنفِذة، أو التي تعلن تبنيها للعمليات كـ "غرفة عمليات غضب الزيتون". 5) المُعرّفات والمواقع الرسمية للوكالات ووسائل الإعلام المحليّة، والتي تقوم بتغطية الأحداث في
مناطق الرصد.
([5]) للاطلاع على التقرير السابق "الاغتيالات في مناطق المعارضة خلال الفترة الممتدة من تموز حتى كانون الأول 2020"، راجع الرابط التالي: https://bit.ly/3l8pagk
[6])) بيان صادر عن وزارة الدفاع التركية تعلن من خلاله تنفيذ "قوات سوريا الديمقراطية" لعمليتي اغتيال في مناطق "درع الفرات"، متوافر على الرابط: https://bit.ly/3FQzWzx
تمهيد
ما تزال مناطق سيطرة المعارضة في شمال وشمال غرب سورية تواجه العديد من المشكلات المركبة، والتي تعيق تحقيق الاستقرار، بعد أكثر من ثلاثة أعوام على تحرير المنطقة من تنظيم "داعش" و"قوات سوريا الديمقراطية"، عبر عمليتي"درع الفرات" و"غصن الزيتون"، فمع استتباب الأوضاع العسكرية نسبياً بقيت الأحوال الاقتصادية تشكل هاجساً كبيراً للسلطات الحوكمية التي تشرف على إدارة المنطقة.
تهدف عملية التعافي الاقتصادي كجزء من عملية التعافي المبكر إلى مساعدة المجتمعات المحلية للعودة إلى نوع من الحياة الطبيعية، واستقرار الوضع لمنعه من العودة إلى العنف والأزمة، ويتمثل الهدف العام للتعافي المبكر في شقين، الأول: استرجاع البنية التحتية الأساسية المادية والاجتماعية، التي تساعد على استئناف السكان لأنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية؛ والثاني: توفير حلول مستدامة للمشكلات التي تعاني منها المنطقة، والتفكير بأهداف التنمية بعيدة المدى.
ويتكون برنامج التعافي الاقتصادي المبكر بحسب الأمم المتحدة من 3 مسارات، تبدأ بالتوازي بسرعات وكثافة مختلفة أثناء عملية التفاوض على اتفاق سلام أو تسوية سياسية. والمسارات الثلاث هي([1]): إحلال الاستقرار، توفير الدخل والتوظيف الطارئ، والمسار الثاني إعادة الدمج المحلي، والمسار الانتقالي، خلق وظائف مستدامة وعمل لائق في المسار الثالث. وبينما ينشغل المسار الثاني والثالث في خضم المرحلة الانتقالية، تنظر الورقة التالية في المسار الأول الذي يستهدف المقاتلين السابقين والشباب واللاجئين والعائدين إلى مناطق النزاع، وتُعطى الأولوية في هذا المسار للإجراءات قصيرة المدى، التي تخلق فرص عمل وتدعم العمل الحر، كما يوصي هذا المسار بالبرامج الضرورية لتحسين سبل العيش وتدعيم الاستقرار، مثل تقديم النقد مقابل العمل، والتوظيف الطارئ في القطاع العام والتدريب وتمويل الأعمال والمشاريع الناشئة.
تحاول هذه الورقة تلمس ملامح الاستقرار الاقتصادي في مناطق المعارضة، ضمن ظروفها السياسية والعسكرية والاقتصادية، منطلقة من أن بناء الاستقرار سيكفل وضع المنطقة في مصاف المرحلة الأولى من مراحل التعافي الاقتصادي المبكر، وينقل البلاد من النزاع إلى السلم، ويمهّد لإعادة الإعمار، دون نسيان شروط تحقيق السلام: البيئة الآمنة، والاتفاق السياسي.
بالنظر إلى ما تم جمعه من بيانات وإحصاءات، حول المشاريع والنشاطات في "درع الفرات" وعفرين وإدلب بين 2018 و 2020، فقد عملت المجالس المحلية والمنظّمات على إرساء قواعد الاستقرار، وفق منظورٍ ونطاقٍ ضيّقٍ، يتناسب وطبيعة وظروف المنطقة، فقد تركز اهتمامها على تأمين الخدمات الأساسية للسكان، على الرغم من عدم توفر أبسط المتطلبات والظروف الملائمة للعمل، جراء البيئة الهشّة المهدَدَة بعودة العنف، وعدم توافر الموارد المالية لتمويل المشاريع، وصرف جزء كبير من الأموال والجهد على العمل الإغاثي لمساعدة النازحين، والمهددات الأمنية المتمثلة بالاغتيالات والتفجيرات والخلافات بين الفصائل، واشتعال الجبهات بين الفينة والأخرى. يوضّح الجدول أدناه([2]) أرقاماً مفصّلةً حول المشاريع المنفّذة في القطاعات الأحد عشر([3])، نسوق من خلاله أبرز الملاحظات والنتائج وفقاً للقطاعات والمدن على مدار عامين ونصف بين 2018 و2020:
- بلغ إجمالي الأعمال والمشاريع التي تم تنفيذها في "درع الفرات" وعفرين وإدلب نحو 2434 مشروعاً، موزعاً على قطاعات اقتصادية عدة، لوحظ فيها ارتفاع الأعمال المنفّذة بشكل مطّرد، من 338 مشروعاً في النصف الثاني لـ 2018، إلى 812 مشروعاً في النصف الثاني لـ 2020. حاز خلالها قطاع النقل والمواصلات على الاهتمام الأوسع في تنفيذ المشاريع، إذ تم تنفيذ 451 مشروعاً، ساهمت في ترميم ما دمرته الحرب من طرقات رئيسية وفرعية، ووصل القرى والمدن بعضها ببعض، وتسهيل حركة المدنيين والتجارة البينية.
وعلى مستوى المدن، يُلاحظ بالنظر إلى الجدول رقم (2) مدينة الباب في قمة المؤشر، بواقع 321 مشروعاً، نُفذت في مختلف القطاعات الاقتصادية، معظمها جاء من مشاريع الإسكان والتعمير، وجاء بعد الباب مدينة إدلب بـ306 مشاريع، معظمها في النزوح الداخلي وقطاع المياه والزراعة، ومن ثم مدينة إعزاز بـ259 مشروعاً، بفضل مشاريع الكهرباء والمياه والنقل. ومن بين الأسباب التي ساهمت في تنفيذ مشاريع أكثر من غيرها من المدن: الكثافة السكانية المتأتية من النازحين؛ وتواجد كثيف للمنظمات، والفصائل العسكرية، والتجار، والمستثمرين الأفراد؛ ومركزية هذه المدن وأهميتها ما قبل الثورة، ما يجعلها تحذو نحو التطور أكثر من غيرها من المدن. وقد ساهم تركز المشاريع في مدن محددة مثل إعزاز والباب وإدلب في أن تكون حواضر المنطقة، من حيث النشاط العمراني، وحركة الأسواق التجارية.
وغابت العديد من البلدات والمدن في العام 2018 و2019، لكنها شهدت نشاطاً أكثر في قطاعات عدة، كما في سرمدا والدانا ومعرة مصرين وحارم وأطمة، بفضل أعمال قطاع المياه والنقل والنزوح الداخلي. فيما اختفت مدن من المؤشر لاحقاً بعد سيطرة النظام على بلدات ومدن عدة في جنوب إدلب، مثل معرة النعمان وسراقب.
ومما يمكن لحظه أيضاً على المستوى الإداري، تشكيل غرف تجارة وصناعة، واتحاد لتلك الغرف، وتعاونيات، وجمعيات متخصصة في الحرف والمهن، مثل جمعية للصيّاغ والملابس والنسيج، تعمل على مساعدة التجار والصناعيين في إصدار إذن عبور بين سورية وتركيا، وتأسيس وترخيص الشركات، والتواصل مباشرة مع الولاة الأتراك المسؤولين عن المنطقة. كما حاولت المجالس المحلية لعب أدوار نقدية في المنطقة، عبر استبدال الليرة السورية بالليرة التركية، ومنع التعامل مع النظام، ومنع استيراد أو تصدير بعض المواد من وإلى تركيا، حفاظاً على استقرار الأسعار، فضلاً عن توقيع عقود ومذكرات تفاهم مع العديد من الشركات والمنظمات لتنفيذ مشاريع وتقديم خدمات.
نجحت المجالس المحلية والمنظمات في تنفيذ المشاريع والنشاطات ما دفع ببدء عملية التعافي الاقتصادي المبكر، وتلمس ملامح استقرار نسبي على مستويات عدة، ومع تجاوز 3 أعوام على تحرر المنطقة من تنظيم "داعش" في 2017، ورصد نشاطات وأعمال عامين ونصف في المنطقة، تواجه المنطقة تحديات عدة، يمكن تقسيمها وفق الأطر التالية:
إطار أمني عسكري
ما تزال المعارك تشكل مثبطاً رئيسياً لأي نشاط اقتصادي وعملية استقرار في المنطقة، إذ أسهمت المعارك في ريف إدلب الجنوبي في سيطرة النظام على مدن كبيرة، مثل معرة النعمان وسراقب، ساهمت في زيادة أعداد النازحين، وقضم مساحات زراعية كبيرة. ومن جانب آخر، ما يزال مؤشر الاغتيالات يسجل ارتفاعاً في المنطقة، يسهم في زعزعة أمن المنطقة واستقرارها، وزيادة شعور التجار والأهالي بالتهديد، إذ شهدت مناطق "درع الفرات" وعفرين 67 عملية اغتيال وتفجير بعبوات ناسفة، أسفرت عن 39 ضحية من قبل غرفة عمليات غضب الزيتون، وخلايا تنظيم "داعش"، وأخرى مجهولة المنفّذ، استهدفت عناصر الجيش الوطني والجيش التركي. أما في إدلب فهناك 25 عملية بين اغتيال وتفجير بعبوة ناسفة وطيران مسير، أسفرت عن 51 ضحية، استهدفت عناصر وقيادات جهادية، وفصائل الجبهة الوطنية للتحرير والجيش التركي.
إطار قانوني وإداري
ما تزال البيئة القانونية تعاني من مواطن ضعف نتيجة تعدد السلطات القضائية؛ بين من يتّبع شكل الجهاز القضائي السوري في منطقة "درع الفرات" وعفرين، ومن يتبع مجلساً أعلى للقضاء، مكون من المشايخ، ويعتمد على أحكام الشريعة الإسلامية في إدلب وريفها، فضلاً عن احتكام المنطقة للقوى العسكرية والفصائلية. كما يسبب ترهّل القضاء وضعف القوانين الناظمة للأعمال والشركات والأموال والحقوق والعقود، في بطء عملية الاستقرار، ودخول الرساميل، وزيادة الاحتكار، والفساد. ومن ناحية ثانية ما تزال حالة التشظي بين المجالس المحلية والحكومة المؤقتة وحكومة الإنقاذ تظهر المنطقة بهويات عدة، ومنهجيات مختلفة، في الإدارة وصناعة القرار.
إطار سياسي
تسبب تأخير الحل السياسي وفق القرارات الدولية ذات الشأن بالملف السوري، في تشكيل هاجس كبير لدى سكان المنطقة، والمغتربين الراغبين بالعمل والاستثمار فيها، وللدول الفاعلة والصديقة للمعارضة السورية، إذ يرتبط مصير مناطق المعارضة بشكل الحل السياسي، والتوافقات الإقليمية والدولية حولها.
تشكل الأطر الآنفة الذكر دافعاً في تأخير أي عملية استقرار وتعافٍ اقتصادي مبكر في المنطقة، وهي تحديات لا يسع للأجسام الحوكمية إلا أخذها بالاعتبار، والتواءم معها، وترتيب أوراقها الداخلية، إذا أرادت جذب المزيد من الاستثمارات والأعمال والأموال، ودفع عملية الاستقرار نحو الأمام. وتبعاً لتموضع المنطقة في المسار الأول من عملية التعافي الاقتصادي المبكر، إحلال الاستقرار، وتبعاً لأرقام وبيانات ما تم رصده على مدار عامين ونصف وللتحديات أعلاه؛ توصي الورقة بما يلي:
ختاماً، تشكل عملية التعافي الاقتصادي المبكر الركيزة الأساسية في إخراج المنطقة من دائرة العنف والعودة للحياة الطبيعية، ولا يتم هذا إلا بتوفر الإرادة، وتكاتف جهود المؤسسات الرسمية مع المجتمع المدني؛ لتحقيق الأهداف المرسومة، والصعود في سُلّم مستويات التعافي المبكر. بعد ثلاثة أعوام يمكن القول إن المنطقة، وبفضل مشاريع وخدمات المجالس والمنظمات المحلية العاملة في سورية، استطاعت التقدم في المستوى الأول من التعافي المبكر، إحلال الاستقرار، عبر تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، وتنظيم شؤون الحياة المختلفة، ولا شكّ، يعد هذا دافعاً لاستقرار الأهالي، وتحريك عجلة الاقتصاد. من شأن استمرار عمل المجالس المحلية والمنظمّات على هذه الوتيرة، والأخذ بالتحديات بعين الاعتبار، والتشاور مع الكفاءات الوطنية؛ التطور أكثر ضمن المستوى الأول في عملية التعافي الاقتصادي المبكر، والمضي قدماً نحو المستوى الثاني، إعادة الدمج المحلي.
([1]) United Nations (2009), United Nations Policy for Post-Conflict Employment Creation, Income Generation and Reintegration, UN system-wide policy paper: https://bit.ly/337K7xb
([2] ) انظر مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، التعافي الاقتصادي المبكر في مناطق المعارضة بين النصف الثاني 2018 والنصف الثاني 2020 على الروابط التالية: https://bit.ly/3jafNuC، https://bit.ly/2WzyRLb ، https://bit.ly/37donmN ، https://bit.ly/3ffE9BY
([3]) القطاعات الأحد عشر التي تم رصدها هي: التجارة، والصناعة، والزراعة والثروة الحيوانية، والتمويل، والاتصالات، والإسكان والتعمير، والخدمات الاجتماعية، والكهرباء، والمياه والصرف الصحي، والنقل والمواصلات، وأخيراً النزوح الداخلي.
مع الانحسار التدريجي للاشتباكات العسكرية داخل مناطق درع الفرات وعفرين مؤخراً، وشيوع حالة من الهدوء النسبي الذي تشهده الحدود المتاخمة لها، بدأت هذه المناطق تشهد ملامح عودة تدريجية إلى طبيعتها المدنية، ولتبدأ مرحلة التعافي المبكر من التبعات التي خلفتها هذه الاشتباكات، وإعادة بث الحياة الاقتصادية والاجتماعية داخلها بالتعاون والتآزر ما بين السكان المحليين والمنظمات والمجالس المحلية التي لم تألُ جهداً في ذلك.
نظراً لغلبة الطابع الزراعي على هاتين المنطقتين اللتان تمتازان بوجود مساحات واسعة من الأراضي الزراعية والأشجار المثمرة والثروة الحيوانية، كان الاهتمام منصباً على تعافي القطاع الزراعي عبر استهدافه بمجموعة من البرامج التي تسعى لتنمية سبل العيش وتحقيق الأمن الغذائي لسكان هذه المناطق من خلال حزمة من المشاريع ذات الصلة. وذلك لما لهذا القطاع من أهمية في الاستقرار المجتمعي والاقتصادي، وكونه ركيزة أساسية من ركائز التعافي الاقتصادي المبكر في حال تمكنت كل من الجهات الداعمة والجهات القائمة على هذا القطاع من تحقيق النجاح المنشود من هذه البرامج وإزالة جميع المعوقات التي تحول دون ذلك. ومن هنا تأتي أهمية هذه الورقة في محاولتها تفنيد العوامل المؤثرة على نجاح هذه البرامج للتعرف على نقاط القوة وتعزيزها في البرامج القادمة ونقاط الضعف والأخطاء للعمل على تلافيها حتى تتحقق الفاعلية المتوخاة منها أثناء تنفيذها.
وعليه فإن الهدف الرئيسي لهذه الورقة يتمثل في التعرف على جهود الفاعلين في برامج سبل العيش في القطاع الزراعي من منظمات محلية ودولية ومجالس محلية، وقياس أثر هذه البرامج في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان المحليين من خلال مجموعة من المؤشرات أهمها عدد فرص العمل الموفرة وتخفيف معدل الفقر، وتعافي القطاع الزراعي بشكل عام، وغيرها من المؤشرات الأخرى ذات الصلة. وختاماً قدمت الورقة بعض التوصيات التي يمكن أن تسهم في زيادة فاعلية هذه البرامج وتزيد من قيمتها المضافة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان، وفي نجاح عملية التعافي الاقتصادي المبكر.
تعد المناطق في شمال غرب سورية بشكل عام، ومنها المناطق المحاذية للحدود التركية، من المناطق الزراعية التي تمتاز بوجود مقومات عدة أهمها المناخ الملائم وخصوبة تربتها وتوافر المياه الجوفية والسطحية والعمالة الزراعية المؤهلة، والتي تشير بعض التقديرات إلى أن هناك ما لا يقل عن 85% من السكان كانوا منخرطين في النشاط الزراعي قبل عام 2011([1]). وعليه فقد مثَّل هذا القطاع مصدر دخلٍ أساسي للسكان المحليين.
بعد عام 2011 تأثرت هذه المناطق بتبعات العمليات العسكرية، وكغيره من القطاعات الاقتصادية الأخرى تأثر القطاع الزراعي بشكل كبير بآثار هذه العمليات وهجرة المزارعين لأراضيهم وغيرها من العوامل الأخرى ذات الصلة التي أدت إلى تدهور الواقع الزراعي في هذه المناطق. وقد لعب عدم الاستقرار الأمني بعد عام 2011 كذلك دوراً هاماً في هذا التدهور مع تبدل السيطرة العسكرية عليها، وعدم وجود جهات حوكمية قادرة على الإشراف على هذا القطاع واتخاذ الإجراءات اللازمة لتعافيه.
مع خضوع هاتين المنطقتين للنفوذ التركي بدأتا تشهدان حالة من الاستقرار الأمني النسبي الذي أتاح إلى حداً ما الشروع بعملية تعافي اقتصادي مبكر، مثَّل القطاع الزراعي أحد محركاته الأساسية، لاسيما أن النسبة الأكبر من الأفراد المقيمين في هاتين المنطقتين سواء من السكان المحليين أو من النازحين ضمنها هم من العمالة الزراعية([2]). أضف إلى ذلك وجود المقومات المناسبة للاستثمار في المشاريع الزراعية ومشاريع الثروة الحيوانية. إذ تقدر المساحة المزروعة في منطقة درع الفرات بحوالي 224.030 هكتار، 70% منها مزروعة بالقمح والشعير وحوالي 9% أشجار زيتون، في حين أن بقية الأراضي تزرع بمحاصيل خضرية متنوعة مثل البطاطا والفول والعدس والحمص وغيرها من المحاصيل الأخرى.([3]) أما في منطقة عفرين فتقدر المساحة المزروعة بـ 92.981 هكتار تمثل أشجار الزيتون نسبة 90% مع عدد يقارب 14 مليون شجرة، في حين بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالمحاصيل الأخرى 10% تقريباً. أضف إلى ذلك أن المنطقة تمتاز بوجود ثروة حيوانية جيدة تعد مكمل أساسي للنهوض بواقع عملية التعافي المبكر. حيث يقدر عدد رؤوس الماشية في منطقتي درع الفرات وعفرين بحوالي 530,452([4]).
يواجه القطاع الزراعي جملة من التحديات في هاتين المنطقتين من أهمها عدم فاعلية الهياكل الحوكمية الناظمة للنشاط الزراعي، وارتفاع كلفة مدخلات الإنتاج الزراعي، وصعوبة تصريف المحاصيل والمنتجات الزراعية، وتسجيل حالات لتغول بعض عناصر الفصائل العسكرية المنضوية تحت الجيش الوطني على المزارعين، إلى جانب غيرها من التحديات الأخرى التي أدت إلى انخفاض عوائد الإنتاج الزراعي وتأخر تعافيه([5]). إلا أن المتتبع لواقع القطاع الزراعي في هاتين المنطقتين يلاحظ وجود تحسن مستمر في حركة تعافيه، ويرجع ذلك بشكل أساسي للجهود المبذولة من قبل الفواعل ذوو الصلة بهذا القطاع كالمجالس المحلية والمنظمات المحلية والدولية وغيرها والتي أسهمت جهودها على مدار الأعوام الماضية في المضي قدماً لتدارك الصعوبات وتذليل التحديات التي تواجه عملية التعافي المبكر في هذا القطاع. ونستعرض فيما يلي أهم هؤلاء الفواعل:
بقيت المجالس المحلية ذات دورٍ ثانويٍ مع هيمنة الفصائل العسكرية على المفاصل الرئيسية في المنطقة منذ عام 2012 حتى دخولها تحت النفوذ التركي وخضوعها لإشرافه([6])، حيث كان هناك نقلة نوعية في الدور المناط بها لممارسة العمل الحوكمي بمعزل عن تدخل الفصائل العسكرية، بعد أن أصبحت هذه المجالس تابعة إدارياً إلى كل من ولايات غازي عنتاب وكلس وشانلي أورفة لتسهيل عملية الاشراف والمراقبة والمتابعة الإدارية. وقد بدا واضحاً وجود تفاوت ملحوظ من حيث حجم الدعم المقدم من كل منها لتنفيذ مشاريع التعافي المبكر، ومن حيث الإمكانات الفنية لكل من هذه الولايات لتنفيذ مشاريع التعافي الاقتصادي المبكر([7]).
نظراً لأهمية الزراعة في الحياة الاقتصادية لهاتين المنطقتين، قامت هذه المجالس بإحداث مكاتب زراعية مهمتها القيام بتقييم الأوضاع الزراعية وإدارة الملف الزراعي، بالإضافة للتنسيق مع المنظمات التي تريد إقامة مشاريع في المنطقة والمستفيدين، وفق آلية محددة واضحة عبر تقييم احتياجات المنطقة وصوغها على شكل مشاريع ليتم تقديمها إلى الجهات المانحة للموافقة عليها. ومن ثم يتم اعلام إعلام الجانب التركي بتفاصيل المشروع لأخذ الموافقة والسماح بالتنفيذ، ومن ثم شرح فكرة المشروع للمجالس المحلية و توضيح معايير المستفيدين منه، لتقوم المجالس بتقديم قوائم مرشحين للمستفيدين من المشروع وفق المعايير التي وضعتها الجهة المنفذة. ومن ثم تقوم الجهات المنفذة بالتأكد من استحقاق المرشحين للإشراك في المشروع، وإعلان القوائم النهائية للمرشحين المستحقين للدعم، ليتم بعدها البدء ببرنامج المشروع وفق الجدول الزمني المحدد له. وعند انتهاء المشروع تقام ورشة عمل مع المجالس المحلية والمستفيدين من المشروع للوقوف على نقاط القوة والضعف والدروس المستفادة للعمل عليها في حال تكرار المشروع([8]).
إلى جانب ذلك، برزت بعض الكيانات المتخصصة في الجانب الزراعي ومن أهمها المؤسسة العامة لإكثار البذار التي تأسست في عام 2013 وتمثل إحدى أهم المؤسسات الإنتاجية التابعة لوزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة. وتضطلع بدور هام في دعم المشاريع الزراعية وتقديمها الدعم للمزارعين، من خلال تقديم الخدمات الفنية لهم وتأمين كافة مستلزمات الإنتاج الزراعي من البذار المحسن والمغربل والمعقم والأسمدة وغيرها من مستلزمات الإنتاج، سواءً من الإنتاج المحلي أو عن طريق الاستيراد، والحفاظ على أصناف البذار المحلية للمحاصيل الزراعية عن طريق إكثارها ومنع انقراضها وفقدانها من خلال عملها على إنشاء بنك وراثي لحفظ الأصناف ومخابر للتأكد من سلامتها من الأمراض. بالإضافة لإنشاء وتفعيل مراكز الإرشاد الزراعي لنشر الوعي لدى المزارعين حول الإدارة الفنية الأمثل للحقول واستخدام التقنيات الزراعية الحديثة بغية زيادة الإنتاج([9]).
وقد برز نشاط واضح للمديرية العامة للزراعة والثروة الحيوانية في الحكومة السورية المؤقتة، والتي حاولت عبر الأعوام الماضية الاضطلاع بمهمة تعافي القطاع الزراعي وفق إمكاناتها المحدودة. وتعمل المديرية على تنفيذ مشاريع زراعية لدعم تعافي هذا القطاع، ففي مطلع عام 2021 بدأت بتنفيذ مشروع لدعم إنتاج الخضراوات في كل من إعزاز ومارع وصوران وأخترين والراعي والباب وقباسين وبزاعة والغندورة وجرابلس في منطقة درع الفرات. ويتجاوز عدد المستفيدين من المشروع 2000 مزارع، وتبلغ المساحة الكاملة للمشروع 500 هكتار، بمساحة 2.5 دونم لكل مزارع([10]).
كذلك يبرز في هذا الإطار جهود وحدة تنسيق الدعم من خلال مشاريعها الخاصة بالزراعة والأمن الغذائي، ومن أهمها مشاريع دعم زراعة القمح، وتأمين المستلزمات الزراعية ومكافحة الأمراض الزراعية وغيرها من المشاريع الزراعية الأخرى. وقد تمكنت وحدة تنسيق الدعم من خلال إحدى مشاريعها في عام 2019 والذي استهدف 30 ألف مزارع في مدن الباب وجرابلس واعزاز وعفرين بريف حلب الشمالي، من افتتاح 33 وحدة إرشادية في شمالي سورية، وتوزيع 2660 طناً من مادة السماد الزراعي لـ 13300 مزارع، إضافة لتنفيذ 1162 زيارة حقلية للكشف المبكر عن الآفات التي تصيب المحاصيل وتقديم الإرشادات اللازمة، و121 زيارة ميدانية للكشف عن أمراض الثروة الحيوانية وتقديم التشخيص المناسب من قبل أطباء بيطريين من كوادر الوحدات الإرشادية([11]).
لكن بشكل عام يمكن القول إن الكيانات الإدارية المعنية بالإشراف على النشاط الزراعي لم تحقق تلك الفاعلية المرجوة لأسباب ترتبط بقلة عددها ومحدودية تمويلها ومزاحمة المنظمات الإغاثية العاملة في هذه المناطق على تقلد هذا الدور. مما أسهم بشكل واضح وفقاً للمعنيين بالشأن الزراعي على تشتت جهود الدعم المقدمة للفلاحين، نظراً لغياب قاعدة إحصائية موحدة للقطاع الزراعي يمكن من خلالها رسم خارطة زراعية لهذه المناطق، وبالتالي وضع خطط محددة لأدوار الفاعلين في تعافي النشاط الزراعي وتنميته.
مع بداية وجودها في منطقة درع الفرات في عام2012، بدأت هذه المنظمات بتنفيذ العديد من البرامج الإغاثية، وكانت مشاريعها بمثابة دعامة رئيسية لتعزيز صمود السكان وتلبية احتياجاتهم الإنسانية المختلفة متضمنة المزارعين. لكن وخلال سنوات عملها في المنطقة بدا بشكل واضح افتقار غالبيتها إلى خطط تنموية شاملة للنهوض بواقع القطاع الزراعي داخلها. وتركيزها فقط على الجانب الإغاثي والإنساني، بسبب غياب الكفاءات البشرية المتخصصة في هذا المجال، بالإضافة لضعف الدعم اللازم لهذه البرامج وعدم استقراره خلال هذه السنوات. لكن وبحكم طول أمد وجود هذه المنظمات في هذه المناطق، فإن ذلك أكسب كوادر هذه المنظمات الخبرات اللازمة لتنفيذ مشاريع تعافي في القطاع الزراعي، بالإضافة لبناء شبكة علاقات تراكمية متينة مع الجهات المانحة المهتمة بدعم المشاريع الزراعية. كذلك أتاح إفساح الجانب التركي المجال لهذه المنظمات بترخيص أعمالها مجال أكبر لاستقبال الدعم من المؤسسات والمنظمات الدولية ذات الصلة([12]). إلا أن غياب التنسيق والتعاون بين هذه المنظمات، وغياب جهة مركزية قادرة على ضبط نشاطها ضمن هذه المناطق كان له دور كبير في انخفاض فاعلية المشاريع الزراعية المنفذة. إلى جانب فقدان هذه المناطق لحالة الاستقرار الأمني الكامل الذي يمَّكن من تنفيذ مشاريع كبرى ومستدامة لتعافي القطاع الزراعي. أضف إلى ذلك عدم تكافؤ الدعم المقدم لتنفيذ المشاريع مع الاحتياجات الفعلية المطلوبة لإحداث التعافي المبكر في هذا القطاع.
وهناك مجموعة من المنظمات العاملة في المنطقة في الوقت الحاضر في مجال المشاريع الزراعية من أهمها مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية ومؤسسة الشام الإنسانية ومنظمة تكافل شام الخيرية ومنظمة بنيان، وجميعها تملك برامج متقاربة تعمل على إقامة مشاريع الإرشاد الزراعي والعمل على توفير المدخلات الزراعية للمزارعين مجانا بالإضافة لتوزيع المواشي على الفئات الهشة في المجتمع. واستحداث برامج سبل عيش زراعية تتلاءم ومتطلبات السكان في هذه المناطق.
لم يكن حال المنظمات الدولية أفضل بكثير من المنظمات المحلية رغم فوارق الدعم المتاح لهما إلا أنها مازالت تفضل الحلول الإسعافية قصيرة الأجل على الانتقال إلى خطط تنموية حقيقية متذرعة بعدم تحقق الاستقرار بعد، مما أدى وفي كثير من الأحيان إلى إحجامها عن دخول هذه المناطق والاكتفاء بالتنسيق مع الشركاء المحليين، كما في بعض مشاريع سبل المعيشة والتعافي المبكر التي أقامتها منظمات UNDP و OCHA و FAO، أو حتى امتناعها بشكل كامل عن القيام بمشاريع في مناطق درع الفرات وعفرين وتحويل المشاريع إلى مناطق سيطرة النظام السوري كونها تعتبر المنطقة التي تقع تحت سيطرته ذات استقرار أكبر([13]).
بشكل عام لا يمكن إغفال الدور الذي لعبته هذه الفواعل في المنطقة خلال الأعوام الماضية، من حيث مساهمتها في تقديم الدعم لبرامج سبل العيش والتعافي المبكر التي ساهمت إلى حد ما في إعادة ترميم البنية التحتية للزراعة وإعادة إحياء هذا القطاع بعد تراجعه لسنوات، لكن لا يزال هذا الدعم دون المستوى المأمول إذا ما قورن بالاحتياجات الفعلية اللازمة لتوليد فرص العمل في القطاع الزراعي. ففي عام 2017 تم تغطية 20.5% من التمويل اللازم لتلبية احتياجات قطاع سبل المعيشة والتعافي المبكر. وفي عام 2018 تم تغطية 29.5% من التمويل اللازم، وفي عام 2019 تم تأمين حوالي 15.7%من الاحتياجات المطلوبة لهذا القطاع، بينما بلغت هذه النسبة 11.2% في عام 2020([14]).
ثمة مجموعة من العوامل التي كان لها تأثيراً هاماً في مدى نجاح برامج سبل العيش الزراعية في هاتين المنطقتين، ويمكن تصنيف هذه العوامل في ثلاث فئات تشمل البيئة المحلية الممكنة لنجاح هذه البرامج، ومدى كفاءة المنظمات المنفذة لهذه البرامج، ومدى فاعلية البرامج المنفذة بحد ذاتها.
يقدر عدد السكان في منطقتي درع الفرات وعفرين وفقاً لبعض الإحصاءات بحوالي 900.000 نسمة قبل عام 2011 وفقاً للإحصاءات الرسمية الحكومية. لكن هذا العدد تضاعف ضمن هاتين المنطقتين بعد هذا التاريخ بشكل يفوق طاقتها الاستيعابية نتيجة لحركات النزوح الداخلي، ويقدر العدد الحالي بحوالي (2.317.700) بينما يقدر عدد النازحين بحوالي (1.605.000) من إجمالي هذا العدد([15]). وكان من نتاج هذه الزيادة السكانية حدوث أزمة سكنية أدت إلى تفاقم في أسعار شراء وآجار العقارات، الأمر الذي مهد الطريق لحركة بيع كبيرة للأراضي الزراعية بهدف تلبية هذا الطلب الكبير على الإسكان. ونتيجة لغياب جهات حوكمية قادرة على ضبط انتشار هذه الظاهرة تحولت العديد من الأراضي الزراعية إلى أراضي سكنية. أضف إلى ذلك إنشاء العديد من مخيمات النزوح الداخلي على الأراضي الزراعية بسبب الحاجة لتوطين النازحين، واستغلال ملاك الأراضي لحاجة النازحين للسكن وفرضهم رسوم آجار مرتفعة على استخدام أراضيهم([16]).
فيما يتعلق بمقومات البنية التحتية اللازمة لتنفيذ البرامج الزراعية، يمكن القول إن منسوب المياه اللازمة للزارعة يعد جيد إلى حدٍ ما خاصة أن غالبية الأراضي الزراعية مستثمرة بمحاصيل بعلية تقدر نسبتها بـحوالي 46% من نسبة الأراضي المزروعة في منطقة درع الفرات([17])، في حين أن ما يقرب من نسبة 80% من الأرضي الزراعية في منطقة عفرين مزروعة بأشجار زيت الزيتون التي لا تتطلب كميات كبيرة من المياه([18])، بينما تقدر نسبة الأراضي الزراعية المروية بـ 15%([19]). لكن الآثار السلبية التي خلفتها العمليات العسكرية في هاتين المنطقتين على البنية التحتية للمياه بما فيها قنوات الري والآبار الجوفية، ألجأت بعض المزارعين لحفر المزيد من الآبار الجوفية عبر الحفر العشوائي لتعويض حاجاتهم من المياه التي يقدر عددها بحوالي 5952 بئر([20]). الأمر الذي حمل العديد من التداعيات السلبية على منسوب المياه الجوفية في هذه المناطق وما سيسببه من الجفاف المحتمل لهذه الموارد المائية الجوفية([21]). ومما فاقم أيضاً من نقص الموارد المائية للزراعة قلة الوقود المتوافر في الأسواق وارتفاع أسعاره إلى جانب عدم توفر الكهرباء في العديد من المناطق الزراعية، والتي كان لها تأثير كبير على المحاصيل المروية التي أحجم الكثير من المزارعين عن زراعتها، إلى جانب تأثير ذلك أيضا على تربية الثروة الحيوانية كالمداجن والمباقر([22]).
في جانب النقل، تعاني الطرقات الزراعية في هذه المناطق من تدهور بنيتها التحتية نتيجة عدم صيانتها لفترات طويلة مما أثر على نقل المحاصيل الزراعية بين مدن وبلدات هذه المناطق([23]). ومن جانب آخر تشهد بعض هذه الطرقات ظروف غير آمنة لنقل المحاصيل الزراعية نتيجة انتشار ظاهرة الإتاوات سواء من قبل بعض العناصر في الفصائل العسكرية أو من قبل بعض الأفراد الخارجين عن القانون في بعض هذه المناطق.
أما فيما يتعلق بمدخلات الإنتاج الزراعي، فيمكن القول إن هذه المدخلات متوفرة إلى حداً ما، مع الجهود التي تبذلها كل من المجالس المحلية والمنظمات والجهات ذات الصلة. حيث تم العمل على تأمين الأسمدة والبذور بأسعار مدعومة تتناسب مع قدرات وإمكانات المزارعين، أضف إلى ذلك وجود سلاسل توريد زراعية جيدة، نظراً لقرب هذه المناطق من الحدود التركية وتوفرها في السوق المحلية. إلا أن غياب جهات رقابية فاعلة تشرف على استيراد المدخلات الزراعية خصوصاً البذار والمبيدات، سمح لبعض التجار من ضعاف النفوس بإدخال نوعيات رديئة من البذار ذات مردود إنتاجي منخفض.
تتجسد المشكلة الأبرز التي يواجهها القطاع الزراعي في هذه المناطق في عدم قدرة المزارعين على تصريف محاصيلهم. وتكمن أهم أسبابها في عدم وجود تناسب بين العرض والطلب على بعض المحاصيل الزراعية ضمن هذه المناطق، وبالتالي ضرورة إيجاد أسواق خارجية لتصريف الفائض عن الطلب المحلي([24]). كذلك يعد تصريف هذه المحاصيل من الصعوبة بمكان سواء إلى مناطق سيطرة النظام أو إلى مناطق الإدارة الذاتية لتبقى هذه المحاصيل رهن إشارة الحصول على الموافقة التركية لتوريدها إلى داخل حدودها. أضف إلى ذلك تحكم التجار المحليين بأسعار هذه المحاصيل وفرضها على المزارعين بشكل لا يتناسب مع الكلفة والجهد والمبذول لإنتاجها، مما أدى في كثير من الأحيان إلى عزوف شريحة من المزارعين عن زراعة أرضهم في ظل هذا الواقع. أما فيما يتعلق بالثورة الحيوانية فهي الأخرى تواجه العديد من التحديات في هذا السياق وعلى رأسها تفشي ظاهرة تهريب الثروة الحيوانية من هذه المناطق([25])، وارتفاع أسعار العلف والمواد اللازمة للعناية بالماشية، إلى جانب ذلك أثر استيراد اللحوم والدواجن بشكل كبير على المنتج المحلي. الأمر الذي ساهم في تدهور الثروة الحيوانية في هذه المناطق.
في هذا السياق كان لتواجد الفصائل العسكرية في هاتين المنطقتين تأثيراً واضحاً من حيث السلوكيات التي يقوم بها البعض من عناصر هذا الفصائل، والتي برزت بشكل واضح في منطقة عفرين من خلال قيامهم بالتعدي على المحاصيل الزراعية عبر فرض الإتاوات والرسوم على المزارعين وقيام البعض منهم باستلاب بعض الحقول الزراعية([26])، إلى جانب قيام البعض منهم بقطع أشجار الزيتون وبيعها كحطب في ظل ارتفاع أسعار الوقود في فصل الشتاء([27]). على الرغم من إصدار تعميمات عديدة من قادة هذه العناصر للحد من هذه التجاوزات([28])، إلا أن الكثير من هذه التعميمات لم يطبق بشكل فاعل. وبالتالي تشكل هذه الظاهرة أحد الجوانب المعيقة لتعافي القطاع الزراعي مع ضرورة قيام الجهات الحوكمية في هذه المنطقة بالتنسيق مع قيادات الجيش الوطني للحد من هذه التجاوزات. ومن جانب آخر لم يسجل بشكل عام قيام هذه الفصائل بعرقلة تنفيذ برامج سبل العيش الزراعية أو التدخل في تحديد المستفيدين منها، مع وجود بعض الحالات الفردية. أضف إلى ذلك ان هذا الدور السلبي لم يقتصر على العسكريين، حيث يقوم بعض النازحين من سكان المخيمات بالتعدي على الأراضي الزراعية ومحاولة الاستيلاء عليها وسرقة المحاصيل وغيرها من الممارسات الأخرى.
برز نشاط المنظمات السورية العاملة في هذه المناطق منذ تحررها، وكان نشاطها متمركزاً بشكل أساسي على الإغاثة نظراً للحاجة الماسة التي ألمت بسكان هذه المناطق إبان تحررها. فكان لزاماً مد يد العون لمساعدة السكان لتجاوز الآثار السلبية للنزاع عبر حملات الإغاثة بمختلف أنواعها. لكن استطالة النزاع في سورية وغياب أفق واضح لانتهاءه خلال الأعوام الماضية حملَ بعض هذه المنظمات للانتقال تدريجياً للتركيز على تنفيذ بعض البرامج التنموية بموازاة برامج الإغاثة، علها تسهم في إحداث التعافي المبكر وتمَّكن السكان المحليين والنازحين بالاعتماد على ذواتهم لكسب رزقهم. بعد أن أصبحت ثقافة الاعتماد على الإغاثة إحدى السمات البارزة في هذه المناطق. ويأتي هذا التوجه أيضاً في ظل تناقص التمويل الدولي المقدم من الجهات المانحة وضرورة إيجاد سبل عيش مستدامة للمواطنين ضمن هذه المناطق التي تمتاز بكون غالبية سكانها من المنخرطين في القطاع الزراعي.
وعليه ومع تقلد المنظمات لهذا الدور التنموي كان هناك اهتماماً ملحوظاً من قبلها في تطوير كوادرها البشرية العاملة في هذه المناطق وتأهيليها بما يتناسب ومتطلبات تنفيذ المشاريع الزراعية لضمان نجاحها واستدامتها. حيث أقامت العديد من هذه المنظمات الورش والتدريبات لتأهيل كوادرها من أبناء هذه المناطق والذي أسهم بشكل كبير في تطوير قدراتهم وإمكانياتهم التي انعكست على نجاح تنفيذ برامجها التنموية في القطاع الزراعي. أضف إلى ذلك قيام هذه المنظمات بتصميم هذه البرامج بما يتناسب والسياق المحلي لضمان قبولها مجتمعياً وتلقيها الدعم اللازم من قبل الفواعل المحليين لضمان نجاحها واستدامتها. وقد عملت هذه المنظمات كذلك على تنفيذ العديد من التدريبات للمستفيدين من مشاريعها والتي ساهمت بشكل كبير في خلق الوعي الجيد لديهم في كيفية الاستفادة منها وضمان استدامتها. وبالتالي شكلت هذه التدريبات حافزاً لدى السكان المحليين للتقدم للاستفادة من المشاريع الزراعية المقدمة في هذا الإطار وحرصهم على العمل ضمن الخطط التي تتضمنها هذه البرامج. ومن بين الأمثلة على هذه المشاريع ما قامت به مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية عبر تنفيذها لمشروع سبل العيش في القطاع الزراعي تم من خلاله توزيع عدد من رؤوس الماشية على المستفيدين مع تقديم التدريب اللازم وتأمين الأعلاف والعناية البيطرية، وقد تبين للمؤسسة بعد تنفيذ المشروع أن حوالي 80% من المستفيدين قد حافظوا على الأصول التي تم منحها لهم وقيامهم بالاعتماد عليها كمصدر دخل رئيسي([29]).
وقد حفّز هذا الأمر بعض المنظمات الدولية ذات الصلة على دعم الخطوات التي انتهجتها المنظمات المحلية في هذا المسار، عبر تدعيم إمكاناتها المادية والفنية لتسريع الانتقال من تقديم برامج الإغاثة الطارئة إلى التنفيذ التدريجي لمشاريع التعافي المبكر في القطاع الزراعي. إلا أن هذا الدعم لم يرتقِ إلى مستوى الحاجة الفعلية للعاملين في هذا القطاع، وبشكل لا يتناسب ومستوى المشاريع المطلوب تنفيذها لإحداث تعافي مبكر حقيقي ضمن هذه المناطق. حيث تتسم غالبية المشاريع الزراعية المنفذة بصغر حجمها وقلة عدد المستفيدين منها وعدم مراعتها للاحتياجات الفعلية للمزارعين. ويلاحظ أن معظم هذه المشاريع ماتزال تنفذ وتدار بذات العقلية الإغاثية، فالمستهدفون في أغلب المشاريع إما أن يحصلوا على قسائم شرائية للمدخلات الزراعية أو يتم توزيعها بشكل مباشر كسلل زراعية على شكل منح وهبات. وكان من الأجدر أن يتم العمل على حل مشكلات المزارعين بشكل شامل، ثم الانتقال إلى تأسيس كيانات زراعية داعمة تقدم المساعدة للمزارعين على شكل قروض تسترد بعد حصاد المحصول، مما يؤدي بداية إلى حصر المستفيدين بالدعم المقدم بالأكثر حاجة وتضرراً، ثم الانتقال إلى تحميل المسؤولية للمزارعين وبالتالي دفعه للعمل بجد أكبر حتى يتمكن من تسديد هذه القروض.
يمكن تقسيم البرامج التنموية المنفذة في القطاع الزراعي ضمن هذه المناطق إلى نوعين، يقوم النوع الأول منها على تمليك المستفيدين مفاتيح العمل وتطوير مهاراتهم من حيث رفع السوية المعرفية بطرق الزراعة والسقاية والعناية البيطرية للحفاظ على الأصول الموجودة، بالإضافة لإنمائها عن طريق تحقيق أكبر قدر من الاستفادة من الأراضي المزروعة. أما النوع الثاني فيقوم على المشاريع التي تزود المستفيدين منها بالمدخلات الزراعية، وهي غالباً ما تكون ذات تأثير محدود زمنياً، حيث أنها تعمل على زيادة الإنتاج وتحسين الجودة في موسم محدد فيعود بالفائدة المادية على المستفيد، لكن مشكلة عدم ثبات قيمة العملة وارتفاع أسعار المحروقات بشكل دائم يحرم المستفيدين من توظيف الفائض المالي المحقق في المواسم القادمة، مما يحد من استدامة المشاريع التي تنفذ بهذا الشكل.
أما من ناحية الملاءمة بالنسبة للمشاريع الزراعية المنفذة في هذه المناطق، فلم تكن المشكلة في إشراك المستفيدين في هذه المشاريع عند دراسة احتياجات المنطقة بهدف إكسابها المرونة اللازمة لتكون ملائمة لاحتياجات القطاعات المنفذة ضمنها، بغض النظر عن حجمها كبيراً كان أم صغيراً. لكن تكمن المشكلة في أنه عادة ما يتم الضخ المالي للمشاريع في أوقات متقاربة فيحدث نشاط كبير في السوق المحلي على حساب أوقات أخرى يكون فيها التمويل ضعيفاً مما يسبب ركود عام في هاتين المنطقتين. إلا أنها ورغم كل الجهود المبذولة لإنجاحها فما تزال دون المأمول، كونها تدار بنفس العقلية الإغاثية، ولم تُطرح خطة تنموية شاملة قادرة على توليد مؤسسات زراعية إشرافية تعمل باستدامة ولا تتأثر بتقلبات الدعم الموجه وغير المستقر، وقد أدى عدم الاستقرار هذا إلى جعل هذه المشاريع محدودة التأثير وذات شروط صعبة التحقيق للاستفادة منها. مما وضع الجهات المنفذة أمام خيارين صعبين فإما تلبية كامل احتياجات عدد صغير من المستفيدين، أو تلبية جزئية بسيطة للاحتياجات المطلوبة مقابل تحقيق أكبر عدد من المستفيدين، فحتى عام 2020 لم تغطي هذه البرامج بأفضل الحالات أكثر من 25% من الاحتياجات([30]). ويبين الشكل (1) حجم التدخلات في قطاع سبل العيش والأمن الغذائي في الاستجابة الإنسانية لسورية بين عامي 2018 و2020. وعدد المستفيدين من هذه التدخلات خلال هذه الأعوام.
لقياس مدى تأثير برامج سبل العيش الزراعية وفقاً للفئات المستهدفة بها ومدى قدرتها على تلبية احتياجات كل فئة من هذه الفئات، فقد حدد منظمة الأمم المتحدة ثلاث فئات رئيسية للمستفيدين من هذه البرامج([1]). ووفقاً لهذه التصنيفات يمكن عرض ما قامت به المنظمات من خلال برامجها لدعم القطاع الزراعي في منطقتي درع الفرات وعفرين. فقد عملت بعض المنظمات على تنويع الأنشطة التي تقوم بها من خلال برامجها، بحيث تستهدف النازحين الذين لا يملكون المقدرة على زراعة الأراضي لعدم امتلاكهم لها أو لعدم وجود الخبرة الكافية عن طريق إنشاء برامج النقد مقابل العمل. كذلك تم تقديم ورشات تدريبية حول بعض الجوانب المرتبطة بالنشاط الزراعي للمساعدة على توليد الدخل مثل تربية النحل وزراعة الفطر في المنزل وصنع الألبان والأجبان منزلياً. ومن ثم تقديم الأدوات اللازمة للانطلاق بهذه المشاريع الصغيرة، بحيث يؤمن المستفيد من هذه البرامج الحد الأدنى من الدخل للاستغناء عن المساعدات الإغاثية. وقد أمنت هذه البرامج وبشكل مباشر حوالي 11600 فرصة عمل في عام 2018، وحوالي 18350 فرصة عمل في عام 2019([2]). بالإضافة لإسهامها في تخفيف نسبة البطالة بشكل غير مباشر، فطبيعة الأنشطة الزراعية تعطي إمكانية للمزارعين المستفيدين من تشغيل عمال إضافيين في أراضيهم بسبب زيادة الإنتاج في المساحات المزروعة الناتجة عن الدعم بالمدخلات الزراعية اللازمة.
إلى جانب ذلك فقد ساهمت هذه البرامج في تخفيف معدل الفقر من خلال القيام بمشاريع تستهدف ذوي الدخل المحدود من المزارعين ومالكي الثروة الحيوانية لتمكينهم اقتصادياً ومنع تدهور أصولهم الإنتاجية. ومن بين هذه المشاريع مشروع دعم أصحاب رؤوس الماشية ممن لا يملكون المقدرة على الاحتفاظ بأصولهم الإنتاجية في الأوقات التي ترتفع فيها أسعار الأعلاف واللقاحات، وقد استفاد من هذه البرامج في عام 2018 حوالي 2050 أسرة، وفي عام 2019 حوالي 16930 أسرة([3]). وكون النشاط الزراعي بشقيه النباتي والحيواني يعد النشاط الاقتصادي الأول في منطقة درع الفرات وعفرين فإن أي دعم مقدم لهذا القطاع بمختلف أشكاله يؤدي بشكل غير مباشرة إلى دعم السوق المحلية وتنشيط دورة الإنتاج.
يعكس الواقع الزراعي الذي تعيشه مناطق الشمال السوري خلال الأعوام الماضية بشكل عام بعض الدلائل التي تؤشر لوجود حركية تعافي مبكر ضمن القطاع الزراعي. ومع تباين مستوى التدخلات التنموية لدعم حركية التعافي المبكر، يبدو من المهم تحليل واقع هذه التدخلات وقياس أثرها على المجتمعات المحلية ضمن هذه المناطق. ووفقاً لذلك حاولت هذه الورقة الإضاءة على إحدى هذه التدخلات وهي برامج سبل العيش الزراعية، عبر استعراض واقع هذه البرامج ومستوى الفاعلية المتحققة منها خلال الأعوام الماضية، وإبراز أهم المعوقات التي حدت من فاعليتها، إلى جانب الإضاءة على أهم الفواعل الرئيسيين ذوي الصلة بهذه البرامج.
تعكس المؤشرات المرتبطة ببرامج سبل العيش الزراعية في منطقتي درع الفرات وعفرين أن هناك جملة من التحديات يبرز في مقدمتها عدم وجود كيانات حوكمية متخصصة بالجانب الزراعي وهو ما أفقد فاعلية الكثير من البرامج المنفذة ضمن هذه المناطق. أضف إلى ذلك أن هذه البرامج لم ترق إلى المستوى الاستراتيجي الذي يمكن القطاع الزراعي من التعافي بشكل أكبر لأسباب ترتبط بضعف التمويل وعدم استدامته، وغياب التنسيق الكامل بين الكيانات المسؤولة عن النشاط الزراعي في هذه المناطق. أضف إلى ذلك غلبة التماثل في نوعية المشاريع الزراعية المنفذة مما يقلل من الأثر المرجوة منها. وكذلك شيوع حالة عدم الاستقرار الأمني الكامل الذي تشهده هذه المناطق والذي أضعف من قابلية الجهات الممولة من تنفيذ مشاريع استراتيجية كبيرة لتعافي القطاع الزراعي.
وبناءً على ما سبق، فإن نجاح عملية التعافي المبكر في القطاع الزراعي في هاتين المنطقتين يعتمد في جانب كبير منه على وجود جهة متخصصة تكون قادرة على تشخيص مقومات واحتياجات هذه المناطق بشكل دقيق، بحيث يتم وضع خطط تعافي تتلاءم والسياق المحلي عبر تعظيم الاستفادة من الموارد المحلية، وتفعيل الدعم المقدم من الخارج بما يخدم تنفيذ هذه الخطط على شكل برامج زراعية مفصلة ومتناسبة مع هذا السياق بالتعاون والتنسيق مع الجهات الدولية الداعمة. أضف إلى ذلك ضرورة العمل على خلق نوع من التكامل والتوازن بين التدخلات التنموية الموجهة للقطاع الزراعي من قبل المنظمات المنفذة. بحيث يتم تعظيم الفائدة من هذه التدخلات عبر الحفاظ على مستوى الأمن الغذائي الملائم، ورفع مستوى دخل العاملين في القطاع الزراعي واستدامته، وتذليل جميع المشكلات المرتبطة بسلسة القيمة ذات الصلة بالنشاط الزراعي.
([1]) تمثل التصنيفات التالية التصنيفات الثلاث الرئيسية ويتفرع عنها مجموعة من الفئات الفرعية:
([2]) Syria Humanitarian Response Plan 2018, 2019, OCHA: https://rb.gy/rcrw3q
([1]) مقابلة هاتفية أجريت مع مسؤول برامج سبل المعيشة والتعافي المبكر في مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية بتاريخ: 28/09/2020.
([2]) آلت هاتين المنطقتين للنفوذ التركي إثر عملية درع الفرات في عام 2017، والتي سميت المنطقة باسمها وشملت كل من مدن اعزاز والباب وجرابلس والراعي واخترين ومارع والتي بلغت مساحتها 2692 كم2، إلى جانب عملية غصن الزيتون في عام 2018 للسيطرة على منطقة عفرين والتي تبلغ مساحتها 2055كم2.لكن لا تزال هذه المناطق تشهد بعض عمليات التفجير والاغتيالات، من قبل جهات ذات صلة بقوات سورية الديمقراطية ونظام الأسد وبعض الخلايا النائمة لتنظيم "داعش" في المنطقة. ويعزى عدم الاستقرار الأمني في جزء كبير منه إلى ضعف الجهات المسؤولة عن القطاع الأمني سواء من حيث التجهيزات اللوجستية أو من حيث الكوادر المؤهلة.
([3]) مجلس محافظة حلب الحرة، غرفة زراعة منطقة درع الفرات.
([4]) مجلس محافظة حلب الحرة، غرفة زراعة منطقة غصن الزيتون.
([6]) يبلغ عدد المجالس المحلية في منطقة درع الفرات 10 مجالس، في حين يبلغ عددها في منطقة عفرين 7 مجالس. ويتبع لكل منها مجالس فرعية تتلقى الدعم منها ويتصدر مجلس مدينة الباب قائمة المجالس الأكثر نشاطا من حيث الدعم المقدم، وكان بداية ظهور هذه المجالس في عام 2012.
([7]) محمد العبدالله، المقاربة التركية للتعافي الاقتصادي المبكر في سورية: دراسة حالة منطقة درع الفرات، في كتاب: التعافي الاقتصادي في سورية: خارطة الفاعلين وتقييم السياسات الراهنة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 25-09-2019: https://bit.ly/3oyi1GI
([8]) مقابلة أجريت مع مسؤول برامج سبل العيش والأمن الغذائي في مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية، مرجع سابق.
([9]) يمكن الاطلاع على نموذج من بعض المشاريع التي نفذتها المؤسسة عبر الرابط: https://rb.gy/a5adz4
([10]) يحظى المشروع بدعم من صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا، وتبلغ مدته 18 شهراً ويتم بموجبه تسليم المزارعين المستهدفين في مناطق عمل المشروع بذور خضراوات، وسماد كيميائي عضوي، وبكرات ري بالتنقيط، ونايلون ملش، ومبيدات حشرية وفطرية، وأقفاص بلاستيكية لجني المحصول. فيما يُجري عدة مهندسين جولات على الأراضي، لتقديم الخدمات الإرشادية وتبادل الخبرات بين الفنيين والمزارعين وتقديم النصائح. المرجع:
ثائر المحمد، مشاريع دعم الزراعة شمالي سوريا وانعكاساتها على الفرد والمجتمع، موقع تلفزيون سوريا، 11-06-2021: https://rb.gy/rg9zir
([11]) ثائر المحمد، نفس المرجع السابق.
([12]) محمد العبدالله، المقاربة التركية للتعافي الاقتصادي المبكر في سورية: دراسة حالة منطقة درع الفرات، مرجع سابق.
([13]) محمد العبدالله، تنمية سبل العيش في المناطق السورية المحررة: دراسة تحليلية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 17-12-2015: https://bit.ly/3hDKold
([15]) Humanitarian Response, IDPs Tracking, August 2020, OCHA: https://rb.gy/9m7iwh
([16]) محمد العبدالله، واقع سبل العيش في مخيمات النزوح: دراسة حالة في مناطق الشمال السوري، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 07-11-2018: https://bit.ly/3v0QOyA
([17]) مجلس محافظة حلب الحرة، غرفة زراعة منطقة درع الفرات، احصاءات 2020.
([18]) مقابلة أجراها الباحث مع مدير برنامج سبل العيش والأمن الغذائي في مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية، مرجع سابق.
([19]) عفرين خمس سنوات من التنمية الاقتصادية، مركز توثيق الانتهاكات في شمال سوريا، 14/02/2019: https://rb.gy/01dif4
([20]) مجلس محافظة حلب الحرة، غرفة زراعة منطقة درع الفرات وعفرين، احصاءات 2020.
([21]) زينب مصري وصالح ملص، أزمة مياه في سوريا.. من يدفع الثمن، جريدة عنب بلدي، 20/09/2020: https://rb.gy/02r9q8
([22]) المداجن في ريف حلب الشمالي ودور المعابر، قناة حلب اليوم، 05/10/2019: https://rb.gy/faawto
([23]) الطرق الرئيسية في ريفي حلب الشمالي الشرقي، قناة حلب اليوم، 29/06/2019: https://rb.gy/fg2q6m
([24]) الزراعة في إعزاز.. تحديات وصعوبات، قناة حلب اليوم، 10/7/2019: https://rb.gy/lcx9yw
([25]) معتصم الطويل، مهنة رائجة… تهريب الأغنام من مدن الشمال إلى مناطق النظام، موقع الحل، 19/07/2019 https://rb.gy/ulxg7h
([26]) انتهاكات الفصائل الموالية لتركيا في عفرين بين النهب والإتاوات، مؤسسة The Levant ،10/10/2019: https://rb.gy/wevrdd
([27]) جانو شاكر، بعد أشجار الزيتون القطع الجائر يطال الغابات الحراجية في عفرين، موقع الحل، 16/03/2020: https://rb.gy/cjeasy
([28]) محلي عفرين يصدر قرارا بمنع قطع الأشجار وبيعها، موقع زيتون، 1/10/2020 https://rb.gy/wndqu1
([29]) مقابلة هاتفية أجريت مع مسؤول برامج سبل المعيشة والتعافي المبكر في مؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية، مرجع سابق.
([30]) مقابلة هاتفية أجراها الباحث مع منسق برامج سبل العيش في منظمة تكافل شام بتاريخ: 23/09/2020.
مع تراجع حدة النزاع المسلح في منطقتي درع الفرات وعفرين، الواقعتين تحت النفوذ التركي، بدأت هاتان المنطقتان تشهدان مؤخراً بضعة خطوات تدريجية نحو التعافي المبكر، ومحاولة الجهات القائمة على هذه المناطق توفير متطلبات البيئة الآمنة، لضمان نجاح هذه الخطوات. وتبرز عمليات إزالة مخلفات النزاع في هذا السياق، كأحد التحديات التي توجه لها الجهود في سبيل تحقيق التعافي المبكر، رغم التحديات الكبيرة التي فرضتها المعطيات المرتبطة بهذه العمليات. ففي فترة خضوعها لكل من "تنظيم الدولة" و"قوات سورية الديمقراطية" قبل عام 2016، قام كل منهما بتفخيخها بالألغام الأرضية، إلى جانب الألغام الأرضية القديمة المتواجدة على طول الحدود التركية المحاذية لها. الأمر الذي شكَّل ويشّكِل مصدر تهديد كبير لحياة السكان واستقرارهم الاجتماعي والاقتصادي ضمن هذه المناطق.
تأتي أهمية الورقة من محاولة الإحاطة بالتقدم المنجز في عملية إزالة الألغام، في ضوء قلة المعلومات المتوافرة عن الإجراءات التي تتم في هذا الصدد، وأعداد الإصابات، والدعم المقدم لبرنامج إزالة الألغام، والآثار السلبية المرتبطة بها، كأحد الجوانب الهامة في توفير البيئة الآمنة للمواطنين، ونجاح عملية التعافي المبكر. ويتمثل الهدف الرئيس لهذه الورقة في محاولة تشخيص واقع عملية إزالة الألغام، من خلال التعرف إلى برامج الفاعلين المحليين والدوليين، وتحليل أدوارهم وجهودهم في هذا الصدد، وتفكيك التحديات التي تواجه هذه العملية. والتعرف إلى الآثار التي تشكلها الألغام الأرضية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات المحلية في هاتين المنطقتين.
ختاماً، تحاول الورقة وضع مجموعة من التوصيات التي يمكن أن تسهم في زيادة فاعلية هذا البرنامج، بما يخدم هدف تحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، اللازم لنجاح عملية التعافي المبكر.
تشكل الذخائر غير المنفجرة بمختلف أنواعها أحد أبرز التحديات التي تواجه عملية التعافي المبكر، في الدول الخارجة من النزاعات. وفي تقريرها الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2020، أشارت الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن سورية تعد من أسوأ دول العالم في كمية الألغام المزروعة منذ عام 2011([1])، وصنفت منظمة "الحملة الدولية لتحريم الألغام الأرضية"، في تقريرها الصادر عام 2019 سورية في المرتبة الرابعة من بين الدول المتلقية للمساعدات الدولية لإزالة الألغام. كذلك حذرت الأمم المتحدة في شهر يوليو/تموز 2019 من تعرض حياة أكثر من عشرة ملايين سوري للتهديد بسبب تواجدهم في مناطق ملوثة بالألغام، داعية جميع أطراف النزاع في سورية، للسماح بإزالة مخلفات النزاع من المتفجرات، وضمان احترام وسلامة العاملين في المجال الإنساني، المسؤولين عن إزالة الألغام([2]). مما يدل على مدى تلوث البلد بهذا النوع من الذخائر، غير المنفجرة، وكونها مصدر خطر كبير.
مع تحول النزاع في سورية إلى الطابع العسكري في عام 2012، بدأت القوى العسكرية باللجوء إلى استخدام الذخائر المنفجرة كأداة حرب، ووسيلة لفرض نفوذها العسكري في مناطقها، وعرقلة أي تقدم للقوى المتحاربة معها. ونظراً لسيولة الوضع الأمني في عموم المناطق، واستمرار النزاع في بعضها، فإن من الصعب وضع تقدير دقيق للعدد الإجمالي للألغام المزروعة، مع وجود توقعات بوصول هذا العدد إلى عشرات الآلاف. وتصدرت مناطق الشمال السوري بشكل عام المناطق السورية في مستوى انتشار الذخائر المنفجرة، في محافظات حلب وإدلب واللاذقية، للفترة الممتدة ما بين يوليو/تموز 2013 ومايو/أيار 2019. إذ سُجِلَ ما لا يقل عن 113.107 استخدام للذخائر المتفجرة، شكلت نسبة الذخائر الأرضية المنفجرة منها ما يقارب 50%. وفي محافظة حلب وحدها سُجلَ ما لا يقل عن 58.084 استخدام لهذه الذخائر([3]).
في تناولنا لواقع الألغام الأرضية في منطقتي درع الفرات وعفرين، الواقعتين في الشمال الغربي من سورية، فإن الوقوف على الإحصاءات الفعلية المرتبطة بهذه الألغام يعد صعباً، نظراً لتعدد القوى العسكرية التي خضعت لها هاتان المنطقتان بعد عام 2011، وقيامها بزرع أنواع مختلفة من الألغام الأرضية والمفخخات. ففي منطقة درع الفرات، وإبان سيطرة تنظيم "داعش" عليها، لجأ الأخير إلى الاعتماد بشكل كبير على زراعة الألغام في غالبية مدنها، معتمداً على خبرة عناصره الأجانب في هذا المجال، لاستهداف المقاتلين على جبهاته. ووفقاً للعديد من الخبراء العسكريين؛ فإن الألغام العائدة للتنظيم تعد من بين الألغام الأشد فتكاً وخطورة، بنوعيها المضادة للأفراد، والمضادة للآليات. ومن بين أنواع هذه الألغام: المسطرة، والمسبحة، واللغم الليزري، والدوسة، والحجر([4]). ويصف بعضهم ألغام تنظيم الدولة بأنها مثلت "فناً عسكرياً" بحد ذاته، من ناحية أنواعها، وطرق وأماكن زرعها، ومدى استفادته منها في مواجهة أعدائه، قبل وبعد خروجه من المناطق التي سيطر عليها([5]). لكنها بالمقابل أودت بحياة العشرات من المدنيين، وسببت إصابات خطيرة للعديد منهم([6])، بعد أن تمكنت قوات المعارضة السورية بمساندة الجيش التركي من تحرير هذه المنطقة من تنظيم داعش في 29 مارس/آذار من عام 2017.
في منطقة عفرين، عمدت قوات "قسد" الجناح العسكري للإدارة الذاتية، على زرع وتفخيخ المنطقة بأعداد كبيرة من الألغام الأرضية، منذ استيلائها على المنطقة في أغسطس/آب لعام 2015، في محاولة منها لصد أي تقدم للجيش التركي وقوات المعارضة السورية نحو المنطقة. ومع اقتراب معركة "غصن الزيتون" في عام 2018، زادت هذه القوات من كمية الألغام المزروعة في الأحياء والمساكن والمناطق الزراعية، بهدف إحداث أكبر ضرر ممكن بالقوات المهاجمة، ومنع المدنيين من مغادرة المنطقة، للاحتماء بهم في حال نشوب المعركة، وهو ما كشفت عنه العديد من التقارير الميدانية([7]). وبعد هزيمة قسد في مارس/آذار 2018، شكلت عملية إزالة هذه الألغام تحدياً كبيراً، تطلب تدخل قوات متخصصة من الجيش التركي لتنظيف المدن والأحياء من هذه الألغام، وتجنيب المدنيين المخاطر الناتجة عن انفجارها. ووفقاً للخبراء المختصين في هذا المجال؛ فإن طبيعة الألغام التي تم زرعها في منطق عفرين هي من الأنواع التقليدية، ذات التصميم الروسي. وفي شهر يناير/كانون الثاني في عام 2018 تمكنت القوات المسلحة التركية من تفكيك 80 لغم أرضي، و650 عبوة ناسفة وفقاً لبعض المصادر([8]).
تمثلت أبرز التحديات التي واجهت الجهات القائمة على إزالة الألغام في هذه المناطق، في نوعية الألغام المزروعة، من قبل كل من تنظيم داعش وقوات قسد، وكثافتها، والتكتيكات المستخدمة في زرعها، والتي تطلبت وجود خبراء مختصين للقيام بإزالتها. إلى جانب عدم وجود خارطة يمكن الاسترشاد بها لإزالة هذه الألغام، بأقصر فترة زمنية، وانخفاض مستوى كفاءة الكوادر المحلية التي أوكلت إليها هذه المهمة، في جانبيها العسكري والمدني، سواء من ناحية عدم توفر المستلزمات الحديثة للكشف عن الألغام، أم لعدم توفر برامج التدريب اللازمة لتأهيل هذه الكوادر، وغياب الدعم الدولي اللازم لبرنامج إزالة الألغام في هاتين المنطقتين لأسباب سياسية. أضف إلى ذلك ضعف حملات التوعية للمواطنين في كيفية تجنب أخطار هذه الألغام([9]). وبالتالي ما تزال تشكل بقايا هذه الألغام خطراً يهدد المجتمعات المحلية، مع ما يفرضه ذلك من العمل على زيادة حملات التوعية، والعمل على نزعها بشكل كامل.
أضف إلى ذلك فإن بعض المصادر تشير إلى وجود كميات كبيرة من الألغام على طول الأراضي المحاذية للحدود التركية، زرعها الجيش التركي في الفترة ما بين (1957-1998)([10])، والتي تقدر كميتها ما بين (613.000-715.000) لغماً مضاداً للأفراد، لمنع العبور غير المشروع للحدود([11]). وقد نتج عنها العديد من الضحايا المدنيين، الذين اضطروا للهرب بعد تصاعد حدة النزاع في هاتين المنطقتين([12]). وما تزال هذه الألغام إلى الوقت الحاضر تمثل خطراً يهدد حياة السكان المحليين، سواء منهم العاملين بالزراعة، أم الذين يحاولون اجتياز الحدود التركية عن طريق شبكات التهريب.
مع شيوع حالة شبه الاستقرار الأمني في عدد من المناطق السورية، بدأت تظهر جهود العديد من الفواعل المدنية والعسكرية في عمليات إزالة الألغام، ومخلفات الحرب. وعلى الرغم من وجود التمايز في هذه الجهود، سواء من حيث الدعم المحلي والدولي المقدم لها، أم من حيث كفاءة الكوادر العاملة وتجهيزاتها، إلا أنها تُظهِر مدى أهمية هذه العمليات، كأحد عناصر البيئة الآمنة اللازمة لاستقرار السكان المحليين، على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، والتعافي من تبعات النزاع. وكغيرها من المناطق السورية؛ فقد برز عدد من الفواعل الذين أسهموا خلال الأعوام الماضية في هذه الجهود، في منطقتي درع الفرات وعفرين، ونستعرض فيما يلي أهم الإسهامات التي قدمها كل منهم:
كان لمنظمة الدفاع المدني منذ تأسيسها في عام 2015 دور هام في تأمين متطلبات البيئة الآمنة، فقد عملت على محاور عدة في هذا السياق. وفي إطار تناولنا لموضوع الذخائر غير المنفجرة، كان للمنظمة خطوات ملموسة في مناطق سيطرة المعارضة السورية، عبر قيامها بإزالة هذه الذخائر، وتجنيب المواطنين مخاطرها. وكان لهذه الخطوات أثر كبير في توفير العودة الآمنة للنازحين في هذه المناطق، وتوفير مقومات الحياة الأساسية، عبر إعادة تأهيل المرافق العامة، كالمدارس، والطرقات وغيرها، ووفقاً لآخر إحصاءاتها المنشورة على موقعها الإلكتروني، فقد تمكنت الفرق المتخصصة في المنظمة من إزالة 1243 جسماً قابلاً للانفجار، من مخلفات الحرب منذ 1 يناير/كانون الثاني 2019 حتى نهاية شهر مارس/ آذار لعام 2021، بينها 986 قنبلة عنقودية.
ومنذ عام 2017، كان هناك تواجد فعلي لفريق الدفاع المدني في منطقة درع الفرات، بعد تحريرها من تنظيم داعش، فقد عمل على إزالة آلاف الذخائر غير المنفجرة في المدن والبلدات الرئيسية، وقد بلغ عدد الذخائر غير المنفجرة التي تم إزالتها منذ عام 2015 في مناطق الشمال السوري عن طريق منظمة الدفاع المدني 23000([13]). ومع تحرير منطقة عفرين من قوات "قسد" في عام 2018، عمل الدفاع المدني كذلك على الإسهام في إزالة الذخائر غير المنفجرة فيها. وعلى الرغم من المتطلبات التي تحتاجها عملية إزالة هذه الذخائر، عملت المنظمة بما أوتيت من إمكانات محدودة، على تأهيل الكوادر المحلية للإسهام في هذه العملية([14])، إذ يضم كادر المنظمة العامل في إزالة الذخائر مزيجاً من العسكريين، ذوي الخبرة، إلى جانب المدنيين، الذين يتم تدريبهم للعمل على الإزالة بشكل مباشر([15]). وخلال الأعوام الماضية، كان هناك عدد من الإصابات، التي طالت هذا الكادر، وأودت بحياة عدد من طواقمه([16]). إلا أن التحدي الأبرز الذي تواجهه منظمة الدفاع المدني في هذا السياق، يتجسد في قلة الدعم المقدم، على الصعيدين اللوجستي والمادي. إلى جانب محدودية كفاءة وخبرة الكادر العامل، الذي لم يتلقَ التدريب الكافي للعمل في هذا المجال. وفي إطار سعيها لزيادة فاعلية نشاطها، تعمل المنظمة على التعاون والتنسيق مع المجالس المحلية والمجتمعات المحلية للمساعدة على إزالة الذخائر غير المنفجرة، من خلال عمليات تلقي الإبلاغ من قبل المواطنين، في حال اشتباههم بوجود ألغام في مناطقهم، والقيام بالمسح غير التقني، بهدف تقليل الإصابات التي يمكن أن تنتج عن هذه الذخائر إلى الحد الأدنى، وتأمين العودة الآمنة للسكان إلى مناطقهم([17]). لكن من جانب آخر، ووفقاً لمنظمة الدفاع المدني، لا يوجد علاقات تنسيق وتعاون مع الفصائل العسكرية في هذا الصدد، لأسباب خاصة بالمنظمة، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تشرذم الجهود، وعدم تكاملها في إطار سياسة موحدة لإزالة ما تبقى من هذه الذخائر.
باعتبارها أحد الفواعل الأساسيين لتوفير مقومات البيئة الآمنة، عملت الفصائل العسكرية التابعة للمعارضة السورية منذ تواجدها في منطقتي درع الفرات وعفرين، في عامي 2016 و2018 على التوالي، على إزالة مخلفات النزاع العسكري لتمهيد العودة الآمنة للنازحين، وتجنيب السكان المحليين أخطار هذه المخلفات. ومع بدء عملية هيكلة هذه الفصائل في جسم عسكري واحد "الجيش الوطني"، تم تخصيص العناصر ذوي الخبرة في هذا المجال، ضمن ما يعرف بـ"سرية الهندسة" المتخصصة بتفكيك الألغام الأرضية.
بعد تحرير منطقتي درع الفرات وعفرين عملت فرق الهندسة التابعة للجيش الوطني على تفكيك الألغام الأرضية التي خلفها تنظيم داعش وقوات قسد. ووفقاً لتقديرات الجيش الوطني، فإن العدد الإجمالي للألغام بعد انسحاب داعش يقدر بحوالي 60 ألف لغم، هناك حوالي 20 ألف لغم تمت إزالته من قبل سرية الهندسة، التي عملت بإمكانيات بسيطة، ومعدات بدائية، وأجهزة كشف معادن، في حين أن الأعداد الباقية والتي يقدر عددها بـ 40 ألفاً، تم إزالة نسبة كبيرة منها من قبل الفلاحين، والأفراد المدنيين، وجهات أخرى. ويعمل الجيش الوطني على التعاون مع المجالس المحلية والسكان المحليين، وبشكل خاص الفلاحين، لأنهم الأكثر عرضة لمواجهة الألغام، وذلك لكون مناطق الاشتباك كانت في أراضيهم الزراعية([18]).
في جانب التحديات التي تواجه الجيش الوطني في هذا الإطار، يمثل نقص التمويل لتأمين المعدات اللازمة لإزالة الذخائر غير المنفجرة، وانخفاض مستوى الكفاءات البشرية، وقلة خبرتها في هذا المجال، أحد أهم هذه التحديات، والتي كلفته العديد من الخسائر المادية والمعنوية، لذا تحاول إدارة التوجيه المعنوي في الجيش الوطني العمل على توعية المقاتلين، بشكل دوري ومستمر، بمخاطر المفخخات والألغام، سواء من خلال الندوات، أم التقارير التوعوية، أم المنشورات. والعمل بشكل متوازٍ على التدريب المستمر للعناصر في مجال إزالة الألغام([19]).
منذ بدء العمليات العسكرية للجيش التركي في منطقتي درع الفرات وعفرين، عملت وحدة تفكيك المتفجرات في الدرك التركي على تفجير عدد من الألغام وإزالتها، وعملت كذلك على تعليم قوات الشرطة المحلية على تفكيك المتفجرات، والتعامل مع الأجسام المشبوهة. ففي منطقة الراعي تم إزالة حوالي 10 آلاف و438 جسم متفجر، في عام 2017([20]). كذلك فإن هناك تعاون مستمر بين عناصر الجيش الوطني السوري والجيش التركي في إزالة الألغام، التي زرعتها قوات قسد، في إطار أنشطة تعزيز الأمن في منطقة عفرين. إضافة إلى ردم الخنادق، التي تم تلغيمها، وإزالة أكوام الأتربة التي تؤثر سلبًا على الحياة اليومية للمدنيين في المنطقة، وذلك بمساهمة من المجلس المحلي لعفرين، وولاية هاتاي التركية([21]).
في السياق ذاته، تنشط القوات المسلحة التركية بتطهير مناطق عدة، بينها الحدود التركية مع سورية، من الألغام، بواسطة فريق مهام خاصة يعرف باسم "صيادي الألغام". يتم العمل على تطهير حقول الألغام التي جرى تحديدها مسبقاً، والتي هي على طول الشريط الحدودي الذي يبلغ حوالي 150كم2، إضافة إلى الحقول التي يجري اكتشافها. ولتتماشى مع أهداف الأمم المتحدة في "عالم خال من الألغام لعام 2025"، تستمر تركيا في العمل على إزالة جميع الألغام المدفونة، وإزالة الألغام والذخيرة غير المنفجرة، وقد أحرزت تقدماً هاماً في هذا الصدد على حدودها مع سورية([22]). يضاف إلى ذلك تعاونها المستمر مع الجيش الوطني، لتدريب العديد من العناصر بموضوع إزالة الألغام([23]).
إبان تحرر منطقة درع الفرات برزت مبادرات محلية لإزالة الألغام، كان من أبرزها مبادرة المركز السوري للأعمال المتعلقة بالألغام ومخلفات الحرب (في أيد أمينة)، الذي تأسس في نهاية عام 2016، وضم أكثر من 50 متطوعاً، يملك بعضهم خبرة سابقة أثناء "الخدمة الإلزامية" في جيش النظام. وقد وضع القائمون عليه سياسات ومعايير وبرامج منظمة، بما يتوافق مع برامج الأمم المتحدة للألغام (UNMAS). وطرح المركز خمسة برامج للتعامل مع مخلفات الحرب في المناطق المحررة، وهي: الاستجابة السريعة، ومساعدة الأهالي، ونزع الألغام، والتوعية بمخاطر الألغام، ودعم ضحايا الألغام، إضافةً إلى تدمير المخزون. وكان للمركز جهود واضحة في عمليات إزالة الألغام، على الرغم من محدودية إمكانياته اللوجستية والمادية. وكان له تنسيق وتعاون واضح مع الهيئات المدنية، متضمنة المجالس المحلية، ولجنة إعادة الاستقرار، والشرطة الوطنية([24]).
إلى جانب ما سبق، فقد سُجِلَ وجود بعض المبادرات من المجتمع المحلي، ومنها قيام بعض الصناعيين في المنطقة بتصنيع جرار خاص للحراثة وإزالة الألغام بآن واحد، للمساهمة في تذليل الواقع الذي يعاني منه المزارعون([25]). إضافة إلى العديد من المبادرات الفردية التطوعية، من ذوي الخبرة بنزع الألغام، لتجنيب الأهالي الوقوع كضحايا محتملين لهذه الذخائر غير المنفجرة([26]).
خلف النزاع في سورية عشرات الآلاف من الألغام والعبوات الناسفة. وما يزال بعضها مدفوناً في أماكن مجهولة، إلى جانب بعض الذخائر غير المنفجرة، وانتشارها في مساحات واسعة من المناطق المأهولة بالسكّان، مما يشكل تهديداً للمدنيين. وما يفرضه هذا الأمر من أثر سلبي مباشر على استقرارهم الاجتماعي والاقتصادي.
على الرغم من عدم وجد آلية شاملة لجمع بيانات دقيقة عن ضحايا الألغام والذخائر غير المنفجرة، فقد أوردت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في تقريرها السنوي لعام 2020 تقديرات للخسائر البشرية بين صفوف المدنيين السوريين التي تسبَّبت بها هذه الألغام، وذلك منذ مارس/آذار 2011 حتى ديسمبر/كانون الأول/ 2020، وأوردت حصيلة الضحايا بمن فيهم الأطفال والنساء، والكوادر الطبية والإعلامية، وكوادر الدفاع المدني، وتوزعهم بحسب المحافظات التي قتلوا فيها، كما استعرضت بعضاً من أبرز الحوادث التي وقعت إثر انفجار الألغام.
وسجَّل التقرير مقتل ما لا يقل عن 2601 مدنياً، من بينهم 598 طفلاً، و267 سيدة، قتلوا عبر المئات من حوادث انفجار الألغام في مختلف المحافظات السورية، منذ عام 2011، وكان من بينهم 8 من الكوادر الطبية، و6 من كوادر الدفاع المدني، و9 من الكوادر الإعلامية. وأشار التقرير أن 703 ضحية من العدد الإجمالي للضحايا كان في محافظة حلب([27]). وقد سجل عام 2018 وفقاً لبعض المصادر، العدد الأكبر من ضحايا الألغام في منطقة عفرين، إذ قتل 55 شخصاً، بينهم 39 طفلاً، فيما تجاوزت عدد الإصابات الكلية إلى 360 شخصاً، وفي عام 2019 كان عدد الأشخاص الكلي 125 شخصاً، أغلبهم في منطقة عفرين وتل رفعت، فيما سُجل العشرات من الضحايا، كذلك في مناطق الباب وجرابلس والبلدات والقرى التابعة لها([28]).
أما على الصعيد الاجتماعي والصحي، وكغيرها من المناطق الأخرى، فإن لهذه الذخائر آثار سلبية على الأفراد القاطنين في منطقتي درع الفرات وعفرين، بزيادة حالات الخوف والقلق لدى فئات كبيرة من المجتمع، إلى جانب انتشار بعض الأمراض النفسية، والاضطرابات السلوكية الناجمة عن ذلك، ومدى القدرة على التعايش والعودة إلى الحياة الطبيعية. وذلك نتيجة للإصابات التي خلفتها هذه الذخائر، والتي أدت في كثير من الأحيان إلى الموت او التشوهات الخلقية، التي وثقتها بعض التقارير الميدانية من هاتين المنطقتين([29]). فأخطار هذه الألغام تطال جميع الفئات السكانية، مع وجود تمايز بين هذه الفئات، من حيث تعرضها لهذه المخاطر، إما بسبب العمر، أو الدور الاجتماعي، أو نمط النشاط الذي تقوم به. أضف إلى ذلك قلة الدعم المقدم من قبل المنظمات المهتمة بمصابي الحرب، بسبب الكلفة المرتفعة الواجب تقديمها لهم لإعادة المصابين إلى حياتهم بشكل طبيعي. وغياب البرامج الخاصة بذلك على الأمد الطويل الأجل، وخاصة ما يرتبط منها بالعلاج الفيزيائي، والدعم النفسي، وتركيب الأطراف الصناعية، وغيرها من المستلزمات الأخرى، التي تعد جزءاً أساسياً في التراتبية العلاجية للمصابين، وخاصة لمن بترت أطرافهم([30])، والذين تقدر أعدادهم بالآلاف في مناطق شمال سورية، بين مدنيين وعسكريين، تتنوع إصاباتهم بين الخفيفة والمتوسطة، والإعاقات الدائمة، التي تحتاج لرعاية طبية على المدى الطويل. ويبين الشكل توزع أعداد الضحايا وفقاً للأعوام في عموم مناطق سورية.
إلى جانب ما سبق، ما تزال حملات التوعية الخاصة بمخاطر الألغام والذخائر غير المنفجرة دون المستوى المأمول، سواء من ناحية كيفية التحوط منها، أم من ناحية التعامل مع الإصابات الناجمة عنها، والتي تتسبب في كثير من الأحيان بعاهات جسدية ونفسية دائمة للمصابين، ما لم يتم التعامل معها بالأسلوب الطبي الصحيح. ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى النقص الكبير في عمل المنظمات الإنسانية، العاملة في جميع أنحاء المناطق السورية، والمهتمة بهذا الجانب من جوانب التعافي المبكر للمجتمعات المحلية، فقد فشلت العديد منها في رفع مستوى الوعي حول مخاطر الألغام ومخلفات الحرب، ناهيك عن كيفية التعامل معها([31]).
في الجانب الاقتصادي، بدا واضحاً التأثير السلبي للألغام على الحياة الاقتصادية في هاتين المنطقتين، إذا ما علمنا بأن أكثر الأشخاص المعرضين لخطر الوقوع ضحية لحوادث الألغام هم: المزارعون، ورعاة الماشية، والبناؤون، وجامعو الخردة المعدنية، وعمال البناء، والعاملون في المجال الإنساني، والأطفال في طريقهم إلى المدرسة، والمشردون داخلياً، والعائدون إلى منازلهم.
وقد تجلى هذا بشكل واضح في هاتين المنطقتين، اللتين تعتمدان على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل لنسبة جيدة من سكانها، لعدم قدرة المزارعين على استغلال قسم من أراضيهم، بعد أن أصبحت هذه الأراضي مسرحاً للعمليات العسكرية، وقيام الأطراف المتحاربة بزرع الألغام الأرضية كأداة حرب ضد بعضهم. الأمر الذي خلق تحدياً كبيراً للمزارعين، وللجهات القائمة على القطاع الزراعي، في كيفية تنظيف الأراضي الزراعية، والطرقات المستخدمة للنقل الزراعي من الذخائر غير المنفجرة، بما فيها الألغام الأرضية. ومدى قدرتها على تأمين المتطلبات اللوجستية والمادية اللازمة لنزع هذه الذخائر، نظراً لقلة الخبرات المحلية في هذا المجال والكلفة المادية المرتفعة التي تتطلبها عمليات الإزالة([32]).
إلى جانب ذلك، فقد سُجِلَ العديد من الإصابات في صفوف المزارعين، الذين حاول بعضهم إزالة هذه الألغام بشكل شخصي، إلى جانب الإصابات التي تعرض لها بعضهم وذويهم، نتيجة جهلهم بوجود هذه الألغام، وعدم اتخاذ إجراءات الوقاية اللازمة، بسبب قلة حملات التوعية في هذا الصدد. ففي منطقة درع الفرات لوحظ أن الجهات المعنية بإزالة مخلفات الحرب كانت جهودها مركزة على المباني السكنية والطرق العامة، وعدم منحها الأهمية المطلوبة للأراضي الزراعية، بسبب كثافة الألغام المزروعة فيها، مما كان له تداعيات سلبية على الحياة الاقتصادية للسكان المحليين، الذين تعتمد نسبة كبيرة منهم على الزراعة كمصدر للدخل، وكان جراء ذلك امتناع بعض المزارعين عن زراعة حقولهم خوفاً من التهديد المحتمل لهذه الألغام([33]). ولكن ذلك لا ينفي وجود بعض التجارب الناجحة في إزالة الألغام الأرضية من الأراضي الزراعية في بعض البلدات، كما في بلدة أخترين، والتي تم الإعلان أنها آمنة ونظيفة من الألغام بشكل كامل، بتاريخ 26-01-2017([34]). أما في منطقة عفرين، والتي يتركز الإنتاج الزراعي فيها على زيت الزيتون، فقد شهدت كذلك العديد من الإصابات بعد أن تم تلغيم الحقول الزراعية، على خطوط التماس بين قوات قسد والجيش الوطني، مما كان له أثر كبير على عدم تمكن المزارعين من الوصول إلى حقولهم، وجني محاصيلهم ضمن هذه المنطقة([35]).
إن المخاطر والآثار المرتبطة بالألغام والذخائر غير المنفجرة لا تنتهي بمجرد وجود جهات قائمة للعمل على إزالتها في هذه المناطق. بل إن الأمر يرتبط في جانب كبير منه بمدى وجود جهات قادرة على بث التوعية اللازمة بفاعلية، للحد من الأخطار المحتملة لهذه الذخائر، وقادرة أيضاً على تقديم المساعدة الطبية اللازمة للأفراد المصابين، ليتمكنوا من تجاوز آثار هذه الإصابات البدنية والنفسية.
في عام 2015، وفي ذروة انتشار الإصابات بالذخائر غير المنفجرة في منطقة درع الفرات، أدركت بعض المنظمات ضرورة العمل على نشر حملات التوعية للتنبيه على الأخطار المرتبطة بالألغام، كما قام بعضها أيضاً بتقديم الدعم للمصابين بها. ونظراً للخبرة التي يمتلكها بعض الفاعلين في إزالة الألغام الذين تم الإشارة لهم سابقاً، فقد كان لهم دور ملموس في نشر حملات التوعية بما أوتوا من إمكانات. فقد قامت منظمة الدفاع المدني بحملات توعية ممنهجة، لزيادة فاعلية إزالة الألغام في هاتين المنطقتين، وكان لهذه الحملات آثار إيجابية ملموسة، بتقليلها لعدد الإصابات بين المدنيين. وتم تسجيل استجابة جيدة من قبل المدنيين لهذه الحملات على أرض الواقع، الذين أدركوا المخاطر المرتبطة بهذا النوع من الذخائر غير المنفجرة. كذلك لعبت الفصائل العسكرية التابعة للجيش الوطني دوراً في الأنشطة المرتبطة بحملات التوعية، والندوات الثقافية، بالتعاون مع اتحاد جمعيات الفلاحين والمدارس. وكان لهذه الحملات أثر جيد في زيادة توعية المواطنين، خاصةً أنها تنفذ من قبل بعض العسكريين المختصين بالذخائر غير المنفجرة والألغام الأرضية. وهي ما تعتبر ميزة لهذه الحملات، مقارنة بحملات التوعية التي يقوم عليها بعض المدنيين، ذوي الخبرة القليلة في هذا المجال. إلا أن هذه الحملات لم تتلق الدعم اللازم، إذا ما قورنت بحملات التوعية المنفذة من قبل المنظمات الأخرى، وذلك لأسباب ترتبط بإحجام الداعمين عن التعامل مع فصائل الجيش الوطني، كجهة عسكرية داخل هذه المناطق([36]).
كذلك لوحظ نشاط واضح للمركز السوري للأعمال المتعلقة بالألغام ومخلفات الحرب (SMAC)، في منطقة درع الفرات منذ عام 2015، فيما يتعلق بالتوعية من أخطار الألغام، إذ استهدفت حملاتها: المدارس، ومخيمات النازحين، واللاجئين في دول الجوار، والتي هدفت للمساهمة في رفع الوعي حول الألغام ومخلفات الحرب، ومخاطرها وآليات الوقاية منها([37]). فقد قام المركز بتصميم كتيبات صغيرة لتنشر في إطار هذه الحملات. كذلك قام المركز بتنظيم عدد من الندوات والمحاضرات التوعوية([38]).
في السياق ذاته، شهدت منطقتي درع الفرات وعفرين وجود عدد من منظمات المجتمع المدني، الفاعلة في عمليات التوعية، تجاه أخطار الألغام، ومن بينها منظمة "بهار"، التي تنشط في منطقة عفرين منذ ثمان سنوات. إذ قامت بتنفيذ العديد من حملات التوعية للمدنيين، من مخلفات الحرب، عن طريق قيامها بجولات في القرى، والشوارع، والمنازل، مع توزيع منشورات عن آلية الإبلاغ في حال الاشتباه بوجود جسم غريب في المنطقة([39]). إلى جانب ذلك، يقوم فريق التوعية التابع للمنظمة بالمساهمة في عملية إزالة الألغام، من خلال تأشير المناطق الملوثة بالألغام وإغلاقها، والتنسيق مع فرق الهندسة التابعة للجيش الوطني، عبر إبلاغهم للقيام بمسح المنطقة وإزالتها لاحقاً([40]). كما كان لمؤسسة إحسان للإغاثة والتنمية، العاملة في هاتين المنطقتين، مساهمة جيدة في هذا الصدد، من خلال برنامج الحماية التي تعمل عليه المؤسسة، والذي تقوم من خلاله بتدريب أعضاء الفرق الجوالة ضمن هذه المناطق، على نشر التوعية من مخلفات الحرب، باستخدام البروشورات والكتيبات التوضيحية في القرى والبلدات ومخيمات النزوح الداخلي.
كذلك لوحظ تواجد للمنظمة الإنسانية لمكافحة الألغام التركية (IMFAD) في منطقة درع الفرات، منذ يناير/كانون الثاني 2019، بمشروع توعوي يستهدف 6000 شخص، 95% منهم أطفال، تتراوح أعمارهم ما بين (6-17) سنة، إلى جانب 5% من البالغين، بما في ذلك قادة المجتمع، والإداريون، وموظفو المؤسسات والمنظمات غير الحكومية، من أجل زيادة الوعي بالمخاطر التي تسببها الألغام والذخائر غير المنفجرة، لمنع تعرضهم للأذى بسبب هذه المخاطر([41]).
في جانب الدعم الصحي المقدم لمصابي مخلفات الحرب، فإن الملاحظ غياب البرامج والمناهج المختصة لرعاية مصابي الحرب في هاتين المنطقتين، ويقتصر تقديم الدعم الطبي لهم على مراكز ومؤسسات طبية غير معنية بهم بشكل أساسي، بالإضافة إلى منظمات خصصت جزءاً من عملها للعلاج الفيزيائي ورعاية المتضررين، بشكل لا يتناسب والحاجة الفعلية لهذه الخدمات الطبية. إذ تعد مشكلة قلة مراكز العلاج الفيزيائي من أبرز المشكلات التي يعاني منها المصابون بمخلفات الحرب، الذين تتفاوت إصابتهم بين الخفيفة والمتوسطة، والإعاقات الدائمة التي تحتاج لرعاية طبية طويلة الأمد.
وفيما يرتبط بالدعم المقدم لهذه الشريحة من الأفراد، فقد كان لمركز الخطوات السعيدة في مخيّم باب السلامة على الحدود السورية التركية دور هام في مساعدة مبتوري الأطراف في الشمال السوري، كونه كان المركز الوحيد في منطقة أعزاز لتقديم الأطراف الصناعية المجانية للمصابين، وما يزال المركز يقدم خدماته، بما يتوفر لهم من الدعم والتدريب، لخدمة سكان المنطقة([42]). ونشط أيضاً مركز "في أيد أمينة" في تقديم الدعم، عن طريق رفع أسماء المصابين والمتضررين للمنظمات الدولية والحكومة التركية، وقد تمكن من إجراء بعض العمليات الجراحية للمتضررين في أعينهم.
كذلك كان للمجالس المحلية لمناطق درع الفرات إسهام في هذا الصدد، فقد قدم المجلس المحلي لبلدة جرابلس بالتعاون مع الحكومة التركية بالإعلان عن مشروع خيري وإنساني للمتضررين من مخلفات الحرب. تم التركيز من خلاله على تركيب الأعضاء المبتورة كالأرجل والأيدي، يضاف إلى ذلك قيامه بجمع أسماء المتضررين وتسجيلها، عبر مكتبه الإغاثي، لتقديم العلاج لهم في تركيا([43]). وبتاريخ 13-12-2019 افتتحت الرابطة الطبية للمغتربين السوريين "سيما" بالتعاون مع شركاء عدة، مركزاً للأطراف الصناعية في مدينة الباب([44])، لإحياء هذا الجانب الخدمي، ومساعدة فاقدي الأطراف، لإعادة تأهيلهم جسدياً ونفسياً، بشكل مجاني، وتلبية لحاجة السكان والنازحين لخدمات إعادة التأهيل، وتركيب الأطراف الصناعية، التي تخفف عن فاقدي الأطراف صعوبات التنقل لمراكز بعيدة لتلقي العلاج([45]).
مثلت الذخائر غير المنفجرة بما فيها الألغام الأرضية عبر الأعوام الماضية أحد العوامل التي حدّت نسبياً من أنشطة التعافي الاقتصادي المبكر، في مناطق درع الفرات وعفرين. وأفرزت كذلك العديد من التداعيات السلبية على الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للسكان، سواء من تعرض منهم للإصابة بهذه المخلفات بشكل مباشر، أم حتى أولئك الذين شكلت هذه الذخائر تهديداً أمنياً على حياتهم وعلى سبل عيشهم.
إن المتتبع للجهود المبذولة لإزالة هذا النوع من الذخائر عبر الأعوام الماضية، يلحظ بشكل واضح غياب التنسيق بين الجهات الفاعلة في هذا الإطار. سواء من ناحية تكوين جهة واحدة، يعهد إليها استلام هذه المهمة، تكون قادرة على تصدير أرقام فعلية لما تم إزالته وما هو متبقٍ من الذخائر غير المنفجرة، أم من ناحية تنسيق جميع الجهود والإمكانات والخبرات المحلية واستثمارها بشكل فاعل، لتنظيف هاتين المنطقتين بشكل كامل، من هذه الذخائر، مع غياب الدعم الدولي اللازم في هذا الجانب لأسباب سياسية. وبالتالي لا بد من العمل على تشكيل لجنة عابرة للمجالس والمنظمات، لتنسيق الجهود وحوكمتها في هذا الإطار بما يسهم في معالجة هذا الملف بشكل فاعل.
أضف إلى ذلك أن حملات التوعية التي تتم في هذا الصدد لم تحقق تلك الفاعلية المطلوبة، لأسباب ترتبط بقلة عدد المنظمات المهتمة بهذا الجانب، واقتصارها على عدد محدود جداً. إلى جانب غياب التنسيق بين المنظمات، ووكالات الإعلام، والجهات العاملة، والمجالس المحلية، لتنظيم حملات إعلامية كبيرة، تستهدف جميع السكان المحليين، والقاطنين في مخيمات النزوح الداخلي، أو القادمين إلى هذه المناطق من خارجها. وبالتالي لا بد من العمل على تكاتف جهود كلّ الجهات المعنية بمختلف إمكاناتها وخبراتها، في ظل غياب الخرائط التي تحدد مواقع هذه الألغام، وهو ما يمثل تحدٍ بحد ذاته لهذه الجهات، وما يتطلبه من جهد ووقت طويل لإزالتها، ومدى القدرة على توفير الدعم الكافي لإنجاز هذه المهمة.
أما على الصعيد الاجتماعي، فإن توفير الدعم الطبي والنفسي والمادي للمتضررين من هذه الذخائر يعد متطلباً أساسياً للتعافي المبكر ضمن المجتمعات المحلية، وهو الشيء الذي ما تزال تفتقده نسبة كبيرة منهم. لتكون هذه الشريحة من الأفراد قادرة على تجاوز آثار هذه الإصابات، التي لا يستطيع الغالبية منهم تغطية تكاليفها المرتفعة. وبالتالي لا بد من تضافر جميع الجهود لاستجرار الدعم الدولي اللازم لتنفيذ برامج رعاية طبية طويلة الأمد، وتوفير جميع مستلزماتها. بما يمّكِن المتضررين من ممارسة حياتهم الطبيعية، والتعافي من هذه الآثار.
([1]) الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 10-12-2020: https://bit.ly/2SF2Ek9
([2]) محمد طارق، الأمم المتحدة: الألغام ومخلفات الحرب تهدد حياة 10 ملايين سوري: متحدث أممي دعا أطراف النزاع في سورية للسماح بإزالة مخلفات الحرب من المتفجرات، وكالة الأناضول للأنباء، 22-07-2019: https://rb.gy/qrnnqt
([4]) المسطرة والليزري والحجر.. "فن الألغام" لدى "تنظيم الدولة"، جريدة عنب بلدي، 09-03-2017: https://bit.ly/3dTd5YZ
([5]) أين يزرع "داعش" ألغامه، جريدة عنب بلدي، 09-03-2017: https://bit.ly/2QreVYv
([6]) لا توجد أرقام موثقة لحصيلة القتلى بسبب هذه الألغام، إلا أنها تقدر بالعشرات، إضافة إلى وجود الكثير من حالات الإعاقة التي تسببت بها لسكان هذه المنطقة، وفقاً لبعض التقارير الميدانية من هذه المناطق خلال الأعوام الماضية.
([7]) الجيشان التركي و"السوري الحر" يواصلان إزالة الألغام في عفرين، موقع شام، 09-05-2018: https://rb.gy/mjxmzp
([9]) مداخلة مجدولة لـلسيد هشام اسكيف من إدارة التوجيه المعنوي بالجيش الوطني، تم إجراؤها في جلسة مناقشة نتائج الورقة البحثية في مدينة غازي عنتاب بتاريخ: 09-12-2020.
([10]) سورية/تركيا – ألغام أرضية تودي بحياة المدنيين الفارين من كوباني، هيومن رايتس ووتش، -04-12-2020: https://rb.gy/noqqzm
([11]) Thousands of landmines planted along Turkish-Syrian border, Middle East Monitor, 10-01-2014: https://rb.gy/rsdov5
([12]) انضمت تركيا إلى اتفاقية حظر الألغام في 2003، وهي ملزمة كدولة طرف، بضرب نطاق حول جميع المناطق الملغومة، ورصدها، وتسويرها في أقرب موعد ممكن، "لضمان استبعاد المدنيين على نحو فعال. كما أنها كانت ملزمة بموعد نهائي مبدئي في مارس/آذار 2014، لرفع جميع الألغام، إلا أنها حصلت على تمديد حتى مارس/آذار 2022. وصرحت وزارة الدفاع التركية أنها أوقفت في عام 1998 زرع الألغام الأرضية، وبدأت أنشطتها في العام نفسه لإزالة الألغام الأرضية، التي تم زرعها على حدودها مع سورية.
([13]) من مقابلة تم إجراؤها مع منسق ملف الذخائر المنفجرة لدى منظمة الدفاع المدني محمد سامي المحمد، بتاريخ: 18-09-2020.
([14]) قامت المنظمة بتدريب 6 فرق، مكونة من 72 عنصر مؤهل، للتعامل مع الذخائر غير المنفجرة، موزعةً بين ريف حماة وإدلب ومنطقة درع الفرات وعفرين منذ 2016 حتى الوقت الحاضر.
([15]) من مقابلة تم إجراؤها مع منسق ملف الذخائر المنفجرة في الدفاع المدني السوري، مرجع سابق.
16 لغم أرضي يودي بحياة 3 من متطوعي "الخوذ البيضاء"، زمان الوصل، 14 كانون الأول 2019: https://www.zamanalwsl.net/news/article/118887/
([17]) من مقابلة تم إجراؤها مع منسق ملف الذخائر المنفجرة في الدفاع المدني السوري، مرجع سابق.
([19]) من مقابلة تم إجراؤها عبر الهاتف مع أحد عناصر الجيش الوطني السوري، بتاريخ: 25-09-2020.
([20]) الدرك التركي يدمر 10 آلاف جسم متفجر في بلدة "جوبان باي" السورية، موقع Yeni Şafak، 26 ديسمبر2017: https://bit.ly/3aH2C15
([21]) عمر قوباران، الجيشان "التركي" و"السوري الحر" يواصلان إزالة الألغام في "عفرين"، وكالة الأناضول للأنباء، 09.-05-2018: https://bit.ly/3edJzxA
([22]) كرم قوجه لر، عزت ماضي، "عين الأناضول" ترصد أنشطة "صيادي الألغام" على الحدود السورية، وكالة الأناضول، 22.06.2020 : https://bit.ly/37o1y0R
([23]) من مقابلة تم إجراؤها عبر الهاتف مع أحد عناصر الجيش الوطني، مرجع سابق.
([24]) حسن مطلق، مركز ناشئ يزيل الألغام ومخلفات الحرب شمال سورية، جريدة عنب بلدي، 12-03-2017: https://cutt.ly/2biuF0u
([25])مزارعو ريف حلب يحجمون عن الموسم.. الألغام لا ترحم، جريدة عنب بلدي، 2017-10-29 : https://rb.gy/v0ncj3 ,
([27]) سورية من أسوأ دول العالم في كمية الألغام المزروعة منذ عام 2011 على الرغم من حظر القانون الدولي استخدامها، تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، 10-12-2020: https://bit.ly/3nmW6AV
([28]) الألغام غير المنفجرة ما تزال تدمّر حياة الأطفال في شمال وشرق سورية، موقع مركز توثيق الانتهاكات في شمال سورية، 10-04-2019: https://bit.ly/2RmEREo
([29]) عمر قوباران، إصابة طفلين شمالي سورية إثر انفجار لغم من مخلفات "داعش، الانفجار وقع في مدينة الباب بحسب مصادر محلية، وكالة الأناضول للأنباء، 29-06-2020: https://bit.ly/3aGseei
([30]) نور عبد النور وآخرون، مصابو الحرب في سورية .... ضحايا على قيد الحياة، جريدة عنب بلدي، 12-08-2018: https://bit.ly/3eDwcp8
([31]) ""monitorينشر تقريراً عن ضحايا الألغام في سورية، موقع السوري اليوم، 12-04-2021: https://bit.ly/3e7Vr46
([32]) تتراوح كلفة إنتاج لغم مضاد للأفراد بين (3 -30) $، بينما كلفة تعطيله او نزعه بين (300 -1000) $، وهذا بدوره يستنزف الاقتصاد المحلي، ما لم يتم الاتفاق على خطة دولية للعمل عليه.
([33]) مزارعو ريف حلب يحجمون عن الموسم.. الألغام لا ترحم، مرجع سابق.
([34]) ريف حلب.. إزالة 400 لغم من مخلفات التنظيم في "أخترين"، جريدة زمان الوصل، 30-01-2017: https://cutt.ly/cbuKC11
([35]) حسين الخطيب وحفصة جودة، موسم الزيتون في سورية.. تراث قديم ومصدر رزق ولكن، موقع نون بوست، 08-11-2018: https://rb.gy/3kgeha
([36]) في مقابلة تم إجراؤها عبر الهاتف مع أحد العناصر في الجيش الوطني، مرجع سابق.
([37]) للاطلاع أكثر يمكنك زيارة موقع المنظمة على شبكة الانترنت، http://www.syrmac.org/
([38]) “المركز السوري للألغام” يبدأ حملة لتوعية أطفال مدارس حلب، جريدة عنب بلدي، 09-05-2017: https://bit.ly/2RgdVpZ
([39]) للاطلاع أكثر يمكنك زيارة موقع المنظمة على شبكة الانترنت: https://bahar.ngo/home
([40]) من مقابلة تم إجراؤها عبر الهاتف مع مدير المكتب الإعلامي في منظمة بهار أمير خربوطلي بتاريخ: 20-09-2020.
([41]) للاطلاع أكثر يمكنك زيارة موقع المنظمة على شبكة الانترنت، https://www.imfad.org/
([42]) لبنى سالم، أطراف صناعية محلية... سوريون يأملون بأيدٍ وأرجل بديلة، موقع العربي الجديد، 21-03-2017: https://bit.ly/3gVXQ3G
([43]) مشروع لتركيب أعضاء لمبتوري الأطراف شمالي حلب، جريدة عنب بلدي، 25-09-2017: https://enabbaladi.net/archives/174867
([44]) يعد هذا المركز أحد فروع المشروع الوطني السوري للأطراف الصناعية، المنشأ في عام 2013، في مدينة الريحانية جنوب تركيا، وذلك بدعم من الرابطة الطبية للمغتربين السوريين سيما ومجموعة من الشركاء.
([45]) "سيما " تفتتح مركزاً للأطراف الصناعية في ريف حلب الشمالي، موقع سيما العالمية، 14-12-2019: https://bit.ly/339yAyS
أظهرت تقارير التعافي الاقتصادي المبكر المنجزة في مناطق "درع الفرات" وعفرين ومحافظة إدلب([1])، منذ النصف الثاني من 2018 وحتى النصف الأول من 2020 تطوراً ملحوظاً في حركية المشاريع الاقتصادية بالشكل الذي ساهم في تنشيط القطاعات وتخديم السكان في الكثير من الخدمات الرئيسية وتوفير فرص عمل على الرغم من التحديات الكثيرة. ولكن اعترتها عدة إشكاليات تمركزت في قطاعات الصناعة والتمويل والزراعة والثروة الحيوانية والنزوح الداخلي، تسببت بهشاشة مستمرة في تلك القطاعات وفي آلية اتخاذ القرارات وحالة التنظيم، وهو ما أدى لاختلال التوازن في عملية التعافي المبكر واعتماد رافعة مالية قاصرة في تمويل المشاريع قد تنتكس في أي لحظة.
لذا لابد من التنبه لتلك الإشكاليات وإلّا قد تستمر حالة العجز في الوفاء بالاستحقاقات المعيشية وتثبط من تنمية المنطقة والانتقال بها من مرحلة التعافي المبكر لمرحلة اقتصادية تنضج فيها الأسواق والقطاعات الاقتصادية كافة.
من أبرز تلك الإشكالات عدم اتخاذ الأجسام الإدارية المسؤولة، الحكومة السورية المؤقتة والمجالس المحلية وحكومة الإنقاذ، آلية موحّدة في صياغة القوانين وصناعة القرارات لإدارة دفة الاقتصاد وفق استراتيجية واضحة المعالم تحقق رؤية المعارضة، وتوازن بين القطاعات الاقتصادية، وتدير نفسها بعيداً عن النظام وأزماته الاقتصادية، وتتجنب التبعية المفرطة للمنظمات والمانحين، وحالة التشرذم في الإدارة وتشظي الموارد جراء تعدد الأجسام الإدارية. فالأجدى بها لمعالجة هذا الإشكال تهيئة مناخ قانوني ذو نظم وقوانين موحدة في المنطقة تقرها، الحكومة السورية المؤقتة بالتعاون والتنسيق مع المجالس المحلية، كسبيل لمواجهة اللاتنظيم واتجاهات الفوضى المتزايدة، من شأنها أن تحفظ الحقوق وتنعش مناخ الأعمال، وتنشئ الحكومة مؤسسة إحصائية تُعنى بضبط كافة الإحصاءات المتعلقة بالموارد والأعمال والسكان، وتصدر مؤشرات اقتصادية مثل التضخم والإنتاج والإنفاق والسكان والشفافية ونوعية الخدمات وغيرها.
على الرغم من الأهمية الاستراتيجية لقطاع الزراعة والثروة الحيوانية، ومن هوية المنطقة الزراعة بامتياز، مع ذلك لم ينجز سوى 142 مشروعاً على مدار العامين الماضيين. فلم يتم تصميم برنامج يحقق الاكتفاء الذاتي في العديد من المحاصيل الزراعية التي تتمتع بها المنطقة وعلى رأسها القمح، ما حرمها من تثبيت سعر ربطة الخبز كمسؤولية اجتماعية واجبة في ظل ما تعانيه المنطقة من صعوبات معيشية وفقر مدقع. وتم استيراد مادة الطحين بالعملة الصعبة ليرتبط ثمن الخبز، الغذاء الرئيسي للعوائل، بتقلبات أسعار صرف الدولار والليرة التركية والليرة السورية، ويعرّضه لارتفاع مطّرد، وهو ما زاد من حنق المواطن ضد الأجسام المسؤولة عن إدارة المنطقة ومن تزايد الصعوبات المعيشية. فبلغ سعر الربطة في منطقة "درع الفرات" ليرة تركية واحدة وليرتين للخبز غير المدعوم، وفي إدلب بلغ سعر الربطة 600 ليرة سورية. كما لم يتم استغلال الفائض في إنتاج المحاصيل الأخرى من زيتون وبطاطا وغيرها عبر إيجاد أسواق تصريف خارجية. وفي إطار الثروة الحيوانية عانت الأعمال من ضعف الإنتاج وانخفاض تنافسيته أمام المنتج الأجنبي، كما هو الحال في مادة البيض التي ارتفع سعرها بواقع 50% إبان قرار منع استيرادها من تركيا. والأفضل في هذا الإطار إيجاد هيئة استشارية عابرة للمجالس المحلية بعضوية ممثلين عنها تُعنى بتقديم النصح في مواضيع الخطط والتكامل التنموية في هذا القطاع ترفع من أولوية الاكتفاء الذاتي وبالذات من مادة القمح، ومن حجم الصادرات بالشكل الذي يدر عملة صعبة ويعيد الثقة للمزارعين ويزيد من حجم المشاريع الزراعية المنفّذة.
وعطفاً على قطاع الصناعة وما تم تنفيذه من مشاريع بلغ عددها 11 مشروعاً فقط من بينها تصنيع أعمدة للضوء وحاويات ومعامل للأعلاف والاسمنت والملابس والأحذية. ويعزى جفاف هذا القطاع لغلاء مدخلات الإنتاج من المواد الأولية وضحالة رؤوس المال، وانخفاض القوة الشرائية للمواطن، وضعف البنية التنظيمية من قوانين وتنظيمات في المنطقة التي تسهم في حفظ الحقوق وضمان حركية وأمان رأسمال، فضلا عن العمليات العسكرية والحالة الأمنية المضطربة. ولتحريك هذا القطاع بالمشاريع، على المؤسسات الرسمية في هذا القطاع إنضاج مقاربة مختلفة في علاج هذا الخلل عبر توحيد غرف الصناعة المنشأة في المنطقة في غرفة واحدة تعمل على توحيد القوانين والأنظمة الصناعية والإدارية والمالية وتنظيم شؤون المدن الصناعية والارتباط بمذكرات تفاهم مع غرف الصناعة التركية في إطار التوأمة وتذليل التحديات، والبدء بتسويق استثمار مشاريع صناعية عبر الأدوات الاستثمارية المتنوعة، وسيكون جذب أحد الأفرع البنكية التركية للداخل بمثابة منح ثقة للأسواق المحلية للاستثمار فيها.
وبلغ عدد المشاريع المنفّذة في قطاع التمويل على مدار رصد عملية التعافي المبكر، 60 مشروعاً، تركزت في دعم سبل العيش وتقديم قروض حسنة ودعم المشاريع الصغيرة ومشاريع العمل مقابل النقد ودعم مشاريع نسائية ومزادات علنية. على الرغم من أهمية قطاع التمويل في إدارة الموارد وتسهيل حركة المال والأعمال والسيطرة على الأسعار، إلا أنه لم يشغل حيزاً كبيراً في هامش المشاريع واهتمامات المجالس المحلية. وليصبح هذا القطاع مرتكزاً تعتمد عليه المنطقة في تطوير المشاريع الصناعية والزراعية والتجارية وتمويل المشاريع. على الحكومة السورية المؤقتة بوزارتها المعنية إيجاد مؤسسة أشبه بحاضنة الأعمال Business Incubator تُعنى بتمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة الحجم، ذو أهداف ربحية، ووفق منهجية رصينة، تساهم في تنويع دائرة المشاريع المنفّذة في كافة القطاعات.
أخيراً، في إطار توفير حياة كريمة للنازحين سواءً في المخيمات أو خارجها تم تنفيذ 218 مشروع في قطاع النزوح الداخلي إلا أن هذا الأمر قد يشكل وبالاً على المنطقة إذا استمر الحال بهذه المنهجية التي تقوم على التبعية المفرطة للمنظمات والمانحين في توفير احتياجات النازحين المتنوعة. فالأفضل عوض اعتماد المخيم على المساعدات الإغاثية مساعدته على إنتاج احتياجاته بكافة السبل الممكنة، فبدل إعطاء كرتونة مساعدات تحتوي على مواد متنوعة يمكن إيجاد دورة إنتاج متكاملة بالحد الأدنى، مثل منح قطعة أرض لزراعة المحاصيل الرئيسية لتأمين احتياجات المخيم من الغذاء تضمن توفير عمل لشباب المخيمات ومنح تمويل لإنشاء ورشات عمل بسيطة تعنى بوضع خطة لتحويل المخيم من خيمة إلى منزل يضمن حياة كريمة للنازحين. ولتحقيق ذلك ينبغي أن تتكاتف منظمات الإغاثة والتنمية الفاعلة في الشمال السوري لتشكيل وحدة تنسيق مشتركة لهذا الخصوص (انتاج الاحتياجات).
عموماً، أظهرت عملية التعافي المبكر حتى الآن، بما لها وما عليها، تقدماً نسبياً في بعض القطاعات لعلّ أبرزها الكهرباء والمياه والنقل والمواصلات وتأخرت في قطاعات أخرى، وستكون الشهور المقبلة فرصة سانحة لتلافي الأخطاء وعلاج الإشكالات الواردة أعلاه بما يضمن استقراراً أكثر وتنفيذ مشاريع متنوعة وتوفير فرص عمل. ومن جملة التوصيات التي يمكن عرضها للفترة القادمة ما يلي:
أفرز النزاع الدائر في سورية منذ عام 2011 جملة من التحديات التي بدأت ترتسم ملامحها مع اقتراب النزاع من نهايته، ولعل من أبرزها التحديات المرتبطة بعملية التعافي الاقتصادي المبكر التي بدأت تظهر بوادرها في عدد من مناطق هذا البلد المتباينة من حيث النفوذ والاحتياجات والموارد والإمكانيات التي تحوزها. وفي ضوء مخرجات المشهد الراهن الذي امتاز بتعزيز مناطق النفوذ وتعثر العملية السياسية، بدأت سياسات الفواعل المحلية والإقليمية والدولية تتكيف مع هذا الواقع وتطلق مشاريع تعافي اقتصادي مبكر في مناطق النفوذ تلك، ولأن البيئة العامة ما تزال قلقة سياسياً وعسكرياً، ولأن هذه المشاريع تتطلب العديد من الإجابات عن أسئلة قدرات هؤلاء الفواعل والواقع الذي تعيشه هذه المناطق والسياق السياسي المرتبطة بعملية التعافي الاقتصادي داخلها، توجه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية إلى تنفيذ سلسلة من المخرجات البحثية بهدف فهم ديناميات هذه المشاريع، وبوصلتها السياسية ومتطلباتها وتحدياتها، حتى تكون تلك المشاريع دافعة باتجاه تكوين بيئة مستقرة.
تعد مرحلة التعافي المبكر على غاية في الأهمية، لأنها المرحلة التي يفترض بها أن تنقل البلاد من النزاع إلى السلم والاستقرار، والمرحلة التي تهيئ الأرضية اللازمة لعملية إعادة الإعمار اللاحقة. ولهذه المرحلة بعد سياسي وشق اجتماعي يماثل من حيث الأهمية الشق الاقتصادي. ويشمل الشق السياسي: العمل على وقف العنف في كافة أنحاء البلاد، وإقامة مؤسسات الحكم الجديد، والتركيز على إنجاز حل سياسي مولِّد للاستقرار. ويشمل الشق الاجتماعي: أعمال الإغاثة، واستيعاب اللاجئين وإسكانهم، وإجراء المصالحات الوطنية، بعد تهيئة البيئة الأمنية المناسبة. ويشمل الشق الاقتصادي: ترميم المرافق العامة الأساسية، وتحريك عجلة الاقتصاد، وإعادة التوازن للإطار الاقتصادي الكلي، وتفكيك مؤسسات اقتصاد النزاع في المناطق التي كانت خارج سيطرة الدولة كما ضمن سيطرتها. وتتداخل المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية أعلاه بشكل كبير، وتعتمد النجاحات في أي منها على النجاح في النشاطات الأخرى.
ينطلق التوجه البحثي لمركز عمران من افتراض مفاده أن المرحلة القادمة في الملف السوري ستكون تحت إطار (ما بعد النزاع العسكري)، وأن السيناريوهات المتوقعة هي أسيرة اتجاهين، الأول: ترسيخ مناطق نفوذ: "سورية المفيدة" ذات نفوذ إيراني روسي، "سورية الشرقية" ذات نفوذ غربي عربي، "سورية الشمالية" ذات النفوذ التركي، والثاني: استمرار استثمار الفاعلين الإقليمين والدوليين بتثبيت وقف إطلاق النار، مع تغليب أولوية التفاوض المعلن أو غير المعلن بغية الوصول إلى صيغة سلطة جديدة، يكون فيها للنظام القائم الحصة الأكبر بحكم مجهودات حلفائه من جهة، وتمكنه من امتلاك "آليات التحكم" من جهة ثانية.
وتتمحور الأهداف العامة لهذا التوجه في تحديد المعايير الضامنة لتعافي اقتصادي مبكر، وتكوين إطار سياساتي عام لتنفيذ جهود التعافي تلك، وتحديد متطلباته وشروطه المرتبطة بثلاثية الأمن والحوكمة والتنمية، بالإضافة إلى تصدير موقف حيال كفاءة النظام اتجاه تحديات مرحلة ما بعد النزاع وسياسات التعافي وإعادة البناء. وضمن هذا السياق تم إنجاز خمسة مخرجات بحثية، الأولى: ورقة تحليل سياسي بعنوان السياق السياسي للتعافي المبكر في سورية، والثانية: ورقة تحليلية حول التعافي الاقتصادي المبكر في سورية: التحديات والأولويات. والثالثة: ورقة حول الاقتصاد السياسي للتعافي المبكر في سورية، والرابعة دراسة بعنوان: التعافي المبكر في سورية: دراسة تقييمية لدور وقدرة النظام السوري، في حين تضمنت الخامسة دراسة بعنوان: المقاربة التركية للتعافي الاقتصادي المبكر في سورية: دراسة حالة منطقة "درع الفرات".
لقراءة الكتاب كاملاً انقر الرابط التالي: http://bit.ly/2l73N3h
رسالة شكر وتقدير
يتوجه مركز عمران للدراسات الاستراتيجية بالشكر الجزيل لمؤسسة Konrad-Adenauer-Stiftung على شراكتها ودعمها للمشروع البحثي وطباعة الكتاب
شرق الفرات أحد حجارة الشطرنج الأخيرين على الرقعة السورية الممتلئة بقوى إقليمية ودولية تحاول كسب الجولات الاخيرة من النزال، لربما لا تكون مغالاة إذا ما قلنا إن سياسة القوة الثانية في حلف الناتو « تركيا» في الملف السوري ارتبطت بمصير المناطق المسيطر عليها من قبل الإدارة الذاتية، ولأجل إنهاء هذا المشروع وضعت تركيا نصب عينيها أن تقع في مواجهة حليفها التاريخي المتمثل بالولايات المتحدة، بينما الأخيرة حاولت مسك العصا من الوسط دوماً منذ أواخر العام 2015 تاريخ تشكيل قوات سوريا الديمقراطية التي تمثل وحدات حماية الشعب عمودها الرئيسي، الوحدات التي أعلنت التزامها فكرياً بمبادئ زعيم حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي أبقى الكفة التركية فيما يخص مصيرها دوماً الكفة العليا في أي مساومة دخلتها تركيا سواءً مع واشنطن أو مع روسيا.
من جهتها لم تنجح القوة الناعمة لأمريكا متمثلة بالدبلوماسية والتطمينات العسكرية والأمنية لتركيا في إعطاء توازنٍ كافٍ لرغبتها في تمكين مشروع « الإدارة الذاتية» عسكرياً على المدى القصير، ولربما سياسياً في المستقبل، في خضم هذا الواقع المتشابك، ارتفعت دوماً التصريحات التركية منذ سيطرة وحدات حماية الشعب على مدينة منبج أواخر العام 2016، تهديداً بأنها لن تقبل بوجود ممر يحكمه حزبٌ وقوى عسكرية ترتبط بحزبٍ له 40 عاما من الصراع العسكري داخل وخارج تركيا، وهكذا اتجهت تركيا لتنفذ عملية درع الفرات، التي حققت أهدافها المرحلية آنذاك بمنع أي تواصل بين مناطق شرق النهر وعفرين، إلا أن ما تبقى تحت سيطرة « ي ب ك، وقسد» وامتداده لاحقاً باتجاه تحرير الرقة من تنظيم الدولة، وإتمام العملية بالسيطرة على غرب دير الزور، آخر معاقل التنظيم في سوريا، ليدفع بتركيا لتخطو خطوة أكثر قساوة، وتمثل بعملية « غصن الزيتون» التي انتهت بالسيطرة على مدينة عفرين ونواحيها، لنصل إلى تاريخ إعلان ترامب سحب قوات بلاده من سوريا، وما تبعه من تعديلات وتصريحاتٍ متضاربة انتهت بضرورة إنشاء منطقة آمنة تهدف لتحقيق ثلاثة أهدافٍ رئيسية: 1_ منع عودة ظهور تنظيم الدولة، ومحاربة خلاياه المتبقية، 2_ جعل شرق الفرات أحد الأعمدة الامريكية في مشروع حصار نظام طهران، 3_ حماية حلفاء واشنطن المحليين.
مع إعلان جملة الاهداف الأمريكية المنشودة من المنطقة الآمنة عادت حدة التصريحات التركية للواجهة، كون جملة الأهداف تلك تخالف أولويات تركيا، فتنظيم الدولة لم يعد بالقوة التي بإمكانه أن يمثل تهديداً إقليمياً، بينما لم ترغب تركيا دوماً أن تكون أحد أطراف تطبيق منظومة العقوبات على إيران، والهدف الثالث والمتمثل بحماية الشركاء المحليين لواشنطن يصب في خانة أولى الاولويات التركية من ناحية ضرورة مواجهته، خلال هذه الفترة منعت واشنطن « قسد» ومظلتها السياسية « مسد « من عقد أي اتفاقٍ مع نظام دمشق، الأمر الذي يعني سيطرة إيران على المنطقة وعودة 40% من موارد سوريا لخدمة نظام الأسد، الأمر الذي يعني ايقاف المسار السياسي بشكلٍ شبه كامل، أو على الأقل إنهائه من مسار جنيف أو ما تبقى منه.
للحليفين « واشنطن، وأنقرة» مجموعة من الأولويات المختلفة التي أدت لظهور حالة متداخلة من خرائط لحل الازمة بما يرضي الاطراف الثلاثة : تركيا، وامريكا، وقسد، لدرجة أن وصلت واشنطن لترسل أرفع مسؤول أمريكي يصل إلى شرق سوريا، متمثلاً بقائد المنطقة الوسطى في القيادة المركزية للتحالف الدولي، الجنرال كينيث ماكينزي، والذي عقد اجتماعاً مع القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي بالتزامن مع لقاء جمع مبعوث واشنطن إلى سوريا، جيمس جيفري، بوزير الخارجية التركي ومسؤولين في أنقرة لبحث المنطقة الآمنة، تبعتها اجتماعات أخرى أظهرت الخلاف بين الطرفين على بنودٍ عدة أهمها العمق الذي ستشمله المنطقة الآمنة، وستدخله قوات تركيا، وطبيعة هذه القوات مع ماهية دورها العسكري، وبدت تطفو على السطح مجموعة أرقام هي مطالب كل طرف: 30كم تركية، 10كم أمريكية، و5 كم قسد، وفي حين تُظهر واشنطن قبولاً لسيطرة تركية على 10 كم وهو الأمر الذي من شأنه أن يبقي المناطق خارج هذا النطاق كوحدة جغرافية تشمل منبج، والرقة ودير الزور، وهو الأمر الذي يمكن أن يجعل منها وحدة إدارية تسيطر عليها «قسد» أو ما تبقى منها، وتمنع ظهور داعش، وتعيق مواجهة بين حليفٍ محلي يمكن الاعتماد عليه، وآخر دولة ذي تاريخ طويل من العمل المشترك مع واشنطن، بينما تركيا بمطالبتها بعمقٍ يصل لمسافة 30كم فهي تحقق معظم أهدافها، وهو إنهاء سيطرة الوحدات على معظم مناطق الغالبية الكُردية، باستثناء مدينة الحسكة التي تتحول لفرعٍ مقطوع، كما إنها ستتمكن من السيطرة على الطريق الدولي الثاني M4 والممتد من القامشلي إلى تل تمر وصولاً لعين عيسى، وهو ما يعني إنهاء الاتصال اللوجستي حتى بين المناطق التي يمكن أن تبقى تحت سيطرة « قسد»، وهي هكذا تقول لواشنطن « إن كان همك، تنظيم الدولة، واستمرار حصار إيران والنظام، فما تبقى لك جنوباً يكفي لتحقيق هذه الأهداف، أما الشريك المحلي فمن المستحيل القبول به بطبيعته هذه.
هذا المشهد يسير في ظل إعادة روسيا والنظام لقرع طبول الحرب على إدلب وإعلان إنهاء الهدنة المعلنة « ببركة أستانة» والتي لم تر النور، وهو أمرٌ لو سارت فيه روسيا والنظام يعني بالدرجة الأولى إخراج تركيا من إدلب نهائياً أو بشكلٍ كبير على أدنى تقدير، وهو ما من شأنه أن يؤثر بالشروط التركية شرقي النهر أيضاً، ففي حال تعرض إدلب لهجومٍ بريٍ يفتقر لأدنى مستويات العدالة والرحمة التي عهدناها من قبل آلة الحرب الروسية والأسدية، فهو أمرٌ سيؤدي إلى ظهور حاجة تركية متزايدة للاعتماد على الأحلاف القديمة، والعودة للسير ضمن المسار الغربي، وهو ما سيفقدها إمكانية ممارسة الضغوط على التحالف فيما يخص إنهاء « التهديد الأمني « من شمال شرق سوريا، ولذا نرى أن التصريحات التركية تجاوزت مرحلة التهديدات التي تكررت منذ عملية درع الفرات ولاحقاً غصن الزيتون، وانتقلت لمرحلة أكثر جدية، وتدرك تركيا أن روسيا ستستغل عدم تفاهمها مع أمريكا، في إحداث ضغطٍ أكبر في إدلب، لذا وإن لم نشهد معارك مباشرة الآن فإننا سنشهد رفع حدة الضغوط على شريكتها في الناتو لمحاولة تحسين ظروفها غرب النهر، أو على الأقل تقليل الخسائر، وتحقيق أجزاء من هدفها المتمثل في انهاء الإدارة الذاتية، وإلى الآن يبدو أن الولايات المتحدة قامت بتقديم خيارين لأنقرة، الأول مشروع المنطقة الآمنة المشتركة والتي ستكون شاملة لكل الامتداد الحدودي، والثاني: منح أنقرة الضوء الأخضر للقيام بعملياتٍ محدودة النطاق الجغرافي، والمدة المفترض إنهاء المهمة فيها.
ويمكن أن تسير الأمور في عدة اتجاهات وفق النجاح والفشل في الوصول لصيغة توافق بين أنقرة وواشنطن، ففي حال الوصول لصيغة اتفاق، فسنمتلك بنوداً يمكن أن تشابه بنود اتفاق منبج، لكن مع جوانب تنفيذية أقوى وأسرع، كجولات تركية داخل الحدود السورية الشمالية، ولاحقاً التطور لحضور عسكري سواءً منفرداً او مع فصائل من المعارضة الموالية لتركيا في بعض النقاط، مع إمكانية تطويره ليشمل كافة المنطقة المقترحة على اختلاف عمقها بين 10 إلى 20 كم، أما في حال غياب تفاهم أمريكي تركي، فمن المتوقع استهداف مكثف لوحدات حماية الشعب على طول الحدود السورية التركية، والقيام لاحقاً بعمليات عسكرية تستهدف نقاطاً محددة أكثرها ترجيحاً في الوقت الحالي هو مقاطع من الطريق الواصل بين مدينتي الدرباسية، ورأس العين، وأخرى بين بلدة تل أبيض إلى كوباني/ عين العرب غرباً، ونقاط أخرى غرب مدينة عين العرب، مع احتمال قيام تركيا في حال نجاحها بعملية اتجاه هذه المناطق أن تبدأ ضغطاً على واشنطن للحصول إلى نفوذ عسكري في النقطة الواصلة بين حدود سوريا مع كردستان العراق، والتي تبقى بعيدة في المنظور القريب، إلا اذا اتجهت تركيا لاستخدام كافة حظوظها في التحالف الدولي.
ضمن هذا الواقع الذي يزداد تأزماً كلما ظهرت بوادر الوصول لاتفاق، تظهر « قسد ومسد « بأضعف الحالات منذ بداية تشكيل هذه القوات، فحتى الآن لم تتلق أي تطمينات أمريكية جدية، كما أنها تدرك انتهازية النظام المستعد بالتضحية بمسافة تصل لأكثر من 15كم في مقابل تمكنه من السيطرة على غرب النهر في الرقة ودير الزور ومنبج، وتمكنه من الحصول على الموارد النفطية والمائية، كما يظهر أن محاولات واشنطن في العمل وفق ثلاثة مسارات وهي «الإقليمية، والمحلية والدولية» ورغم نجاحها بشكلٍ جزئي «في الدولي عبر تأمين جنودٍ إضافيين من بريطانيا وفرنسا ودول أخرى. والمحلي عبر قبول قسد بخطة المنطقة الآمنة، وهذا ما أشار إليه قادة من قسد عبر استعدادهم لسحب وحدات حماية الشعب لأكثر من 20 كم جنوباً، بالإضافة إلى تسليم المناطق الحدودية لمجالس عسكرية محلية، واحترامٍ أكبر لحساسيات تركيا وفق ما أراد زعيم حزب العمال الكُردستاني في رسالته لمناصريه في حزب الاتحاد الديمقراطي، إلا إنه يظهر أن المسار الاقليمي الذي أنجز جزء منه مع الوصول لتوافق مع دول خليجية أهمها السعودية لتقديم الدعم المادي، لم يحقق الحدود المطلوبة منه، فالسعودية لاتزال تعاني من مأزق اليمن، كما أن مصر ليست في وارد لعب دورٍ إقليمي خصوصاً في مواجهة نظام دمشق وما يعنيه الأمر من دخولٍ فعلي في محور محاصرة إيران، ويستمر المانع الإقليمي الأهم متمثلاً في تركيا، التي ترفض اعلان الرضاء والقبول بشروطها هي، لذا لتجنيب المنطقة مآلات أي معركة لا يمكن إدراك مآلاتها ونهاياتها، تحتاج الولايات المتحدة لكسب المزيد من الوقت لتتمكن على الأقل من السير في مشروع تغيير طبيعة قوات سوريا الديمقراطية وتقليل السيطرة الفعلية لعناصر مرتبطة بحزب العمال عبر تشكيل مجالس عسكرية محلية يمكن أن تتقبل تركيا فكرة التعامل معها في المستقبل كجزءٍ من المنظومة الخارجة عن سيطرة النظام، وروسيا، الأمر الذي يمكن أن يحقق للسوريين فرصة فرض شروطهم أثناء المفاوضات الدولية بصوتٍ أقوى.
المصدر صحيفة القدس العربي: http://bit.ly/30gJsHV
أجرت صحيفة القدس العربي بتاريخ 11 كانون الثاني 2019، لقاء مع الخبير العسكري في مركز عمران نوار أوليفر حول أبرز التغيرات والتطورات في مناطق سيطرة المعارضة بمحافظة إدلب وريف حلب الغربي، وعن الخيارات الروسية في المنطقة والتي قال عنها : "إن التصريحات الروسية، تناقض الواقع وهي محاولة تهيئة الوضع العام لعمل عسكري محتمل، مستبعداً إن تشن معركة ضد محافظة إدلب لما في ذلك من تداعيات خطيرة على الجانب التركي إذ تضم المنطقة نحو 4 ملايين شخص، واي عمل عسكري سيؤدي إلى نزوح المدنيين إلى المناطق الآمنة وهي إما مناطق عفرين أو درع الفرات أو الأراضي التركية ما يؤثر على محاذير أنقرة. وأضاف «أوليفر» لـ«القدس العربي» إن أي عمل بري للنظام والمليشيات الإيرانية شمالي سورية هدفه «استنزافي» صرف، فيما تندرج الأهداف الروسي الحالية ضمن اطار ضبط المنطقة ومحاولة العمل مع الأتراك من اجل تحسين الوضع الأمني، على أن تكون الخطوة الثانية هي تطبيق اتفاق المنطقة العازلة وتفعيل الخطوط الدولية ام 4 وام 5، مشيرًا إلى «إن روسيا حالياً على الخط نفسه مع تركيا ولا ترغب بإقامة خلاف مع حليفها التركي الوحيد تقريباً في المنطقة، لذا تعمل روسيا على نشر قواعد عسكرية جديدة في محيط المنطقة العازلة لضبط الميليشيات الإيرانية ومنعها من محاولة التقدم البري».
المصدر صحيفة القدس العربي: https://goo.gl/ubpWiP