الجمعة, 05 أيار 2023 12:24

حضن الوطن “جحيماً”

كم نزوح يحتاجه السوري كي يتخلص من نزوحه وكم منفى يحتاجه كي يصبح لديه وطن ينعم فيه بالأمن والأمان، و كم من رحيل يحتاجه هذا السوري كي يتخلص من رعب الترحيل.

فمن يراقب وضع النازحين في لبنان سيدرك أن الجهات الرسمية اللبنانية الفاشلة في إدارة لبنان كدولة، تحاول الهروب إلى الأمام عبر ورقة النزوح السوري التي أصبحت رأسمال سياسي بيد الفاعلين  الرسميين وغير الرسميين على اختلاف القدرة على استثمار هذه الورقة، فمنذ ما قبل الرئيس ميشيل عون و أثناء فترة ولايته و بعد دخول لبنان مرة أخرى حالة الفراغ الرئاسي، ومنذ ألفين و تسعة عشر إلى لحظة كتابة هذه الورقة تفاقمت أزمة النازحين السوريين هناك، مع اعتبارهم من قبل سياسيين لبنانيين، عبئاً اقتصادياً يساهم في انهيار لبنان على حد زعمهم.

 و ما بين التعنت الرسمي اللبناني بترحيل السوريين و رفض المنظمات الإنسانية  و بعض الأوساط الشعبية لهذه الممارسات اللانسانية،  بدأت تلوح في الأفق معاناة سورية أخرى في المنفى والشتات، على الرغم من مطالبات إنسانية دولية تحذر من مغبة مصيرهم المجهول و العودة غير الآمنة.

ومع ذلك تجاهل لبنان الرسمي جميع النداءات الشعبية والإنسانية، ليقوم بترحيل عشرات السوريين ووضعهم خارج الحدود، الأمر الذي سيعرض بعضهم على الأقل، لكل أصناف التعذيب و غياهب معتقلات النظام في دمشق.

استخدمت السلطات اللبنانية القانون لتبرير ذلك، استناداً إلى قرار مجلس الدفاع الأعلى اللبناني الصادر سنة ألفين و تسعة عشر و الذي يقضي بترحيل السوريين خلسة.

وفي ظل غياب جهة إحصائية لبنانية موثوقة تحصي السوريين في لبنان،  تبدو الأرقام متضاربة، فحسب السلطات اللبنانية هناك أكثر من مليوني نازح، أما المفوضية العليا لشؤون النازحين، فإنها تحدد عدد المسجلين الذين يتقاضون مساعدات دائمة لا يتجاوز الثمانمائة ألف.

وبلغة الإنسانية فإن جميع النازحين السوريين  توجهوا إلى هناك بعد أن قام النظام بتدمير بيوتهم و محو مدنهم و ملاحقة معظمهم، و انتشروا في لبنان عبر مئات المخيمات البائسة التي انتشرت في الشمال والبقاع دون أدنى معيار من معايير الإنسانية، أو أدنى حقوق بشرية بل تعرضوا في كثير من الأحيان إلى العنصرية و الفوقية و اعتداءات وحشية متفرقة و انتهاكات كثيرة تخالف كل القوانين الدولية، مع اكتفاء المنظمات الدولية بالشجب والتنديد والتأكيد كلاماً على ضرورة الالتزام بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

ومع تزايد التحريض الإعلامي الرسمي اللبناني  ضد وجود النازحين السوريين، تزداد خطورة وضعهم الراهن و تتوسع رقعة أزمتهم الإنسانية و تضيق الحلول المنشودة، خاصة أن الحكومة اللبنانية تستند بممارساتها ضد السوريين إلى عدم توقيع لبنان الرسمي على اتفاقية اللجوء الصادرة 1951.

 ومن هذا المنطلق فإن لبنان يمنح صفة نازحين و ليس لاجئين، ما يفضي بالتالي إلى حرمان السوريين من أدنى حقوقهم في حمايتهم من الترحيل، حتى بات خطاب الكراهية سائداً عند السواد الأعظم من اللبنانيين بعد ماظهر من تصريحات لسياسين داخل أروقة الحكومة اللبنانية في أن السوري يتقاضى مساعدات تفوق رواتب الموظفين في المناصب الإدارية العليا، وكان لهذا ارتداداً عنصرياً على النازحين السوريين بكل فئاتهم وصل حد منع الأطفال السوريين من التعليم بعد إضراب المعلمين اللبنانيين بسبب تدني رواتبهم مقابل الرواتب التي تدفعها المفوضية لتعليم أبناء النازحين.

وهنا لا بد من الإشارة أن لبنان الرسمي قام بعدة محاولات سابقة لما أسماها بالعودة الطوعية بمبادرات من الجيش اللبناني، غير أن منظمات حقوق الإنسان اعتبرت هذه العودة قسرية حيث جرى في كثير من الأحيان تواطئ بعض الجهات اللبنانية الرسمية مع النظام وتسليم المطلوبين للأخير.

مؤخراً، زادت المداهمات التي شنتها القوى الأمنية اللبنانية، لملاحقة نازحين سوريين وتوقيفهم وترحيلهم، وعلى إثر ذلك نشطت ظاهرة الاتجار بالبشر فمن يريد الحفاظ على حياته يدفع مبلغ ما بين 300 -500 دولار لأحد المهربين ويعود إلى الأراضي اللبنانية مجدداً بعد ترحيله لسورية. ولفتت منظمتا “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”، إلى أنها وثقت بالفعل حالات اعتقال و تعذيب من قبل أجهزة نظام الأسد بحق عائدين قسراً لسورية، وذلك ما ولد حالة رعب ستطال النازحين السوريين في لبنان عموماً، وفي بعض الأحيان يفضل بعضهم الانتحار على العودة القسرية بعد إدراكهم لمصيرهم المحتوم، و قد أقدم فعلاً شاب سوري من مدينة منبج قبل أيام على الانتحار إثر تهديده بالترحيل قسراً من لبنان.

كل ذلك يفاقم المشهد المأساوي أساساً، ويضع مئات آلاف السوريين في لبنان عند مفترق طرق كارثي ينذر بمأساة جديدة ستكون بانتظار معظمهم.

ويبدو أن شخصياتٍ في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية، بدأت فعلاً بتصيد هذه المأساة و استثمارها سياسياً، حيث طالب نجيب ميقاتي رئيس هذه الحكومة، المجتمع الدولي بالتعاون مع لبنان لعودة النازحين إلى سورية، واصفاً عدم قدرة بلاده على تحمل العبء في ظل ظروف لبنان الحالية حسب قوله.

وعلى النقيض تماماً من هذه المعادلة نجد أن هذه الحكومة تعود للمطالبة بتقديم أكثر من ثلاثة مليار دولار لمعالجة ما يسمونها تداعيات اللجوء على أرضيها، لكن منظمة الأمم المتحدة قالت في بيان إنها قدمت منذ 2015 أكثر من تسعة مليار دولار في خطة لبنان للاستجابة، لكن أزمات لبنان أغرقته في وحل فشله السياسي، ما جعل السلطات اللبنانية عاجزة عن توفير أبسط خدماتها لمواطنيها، ناهيك عن عدم قدرة لبنان الرسمي عن سداد ديونه الخارجية، وبالتالي فإن الورقة الرابحة لتبرير هذا الفشل الذريع سيكون في متناول جميع السياسيين اللبنانيين و لن يجد هؤلاء سوى الحلقة الأضعف كي يبيعوا أوهامهم على وسائل الاعلام على الرغم من ركاكة الإدعاءات التي  يقولون و يذهبون إليها.

في كل الأحوال فإن الزوبعة السياسية اللبنانية الأخيرة  ليست الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة بحسب التجربة، لكنها تأتي هذه المرة على وقع بعض المتغيرات في المزاج السياسي تجاه النظام، و هنا تكمن خطورة تحريك هذا الملف في لبنان.

فهل تتحرك المنظمات الدولية والإنسانية لوقف هذه الكارثة؟ أم سيترك النازحون لمصيرهم المجهول، في مشهد ضبابي آخر، وهو مشهد لن تتضح رؤيته ما لم تكن هناك حلول عملية سريعة تسابق الزمن قبل أن تقع الواقعة.

ما يجب فعله حالياً، هو رفع الصوت عالياً في محاولات لإيقاف الكارثة بحق النازحين السوريين في لبنان، وإلا فإن الترحيل لن يرحم أحداً في جميع دول المنفى و الجوار التي لجأ السوريون إليها.

أخيراً فإن الوطن قد ضاق بنا، لنخرج إلى المنافي التي تزيد فيها عمليات الترحيل القسري، فأي مشهد آخر في انتظارنا نحن الحالمين بوطن بلا مظالم؟ وهل ما يزال في وسعنا أن نختار أحلامنا في المنفى و الشتات و الرحيل؟.

هي مجرد أسئلة في واقع يخيم عليه العبث  السياسي والخذلان الإنساني، وكأن التاريخ يسخر من ضحاياه كما يقول درويش، ثم يلقي عليهم نظرة ويمر.

 

المصدر: السورية نت

التصنيف مقالات الرأي

حلَّ المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية، الدكتور عمار قحف، ضيفاً على قناة ليببا الأحرار ضمن برنامجها الدوري "استراتيجيا"، بهدف الحديث عن أبرز الأزمات والتحويلات التي تشهدها المنطقة العربية في الآونة الأخيرة.