عقد مركز عمران للدراسات الاستراتيجية بالتعاون مع جامعة حلب الحرة ندوة بحثية بعنوان: “العقوبات الاقتصادية الامريكية والأوربية على النظام السوري"، وذلك بتاريخ 16 حزيران 2021، بمقر الجامعة بمدينة إعزاز سورية.

بدأت الندوة بمناقشة عوامل انهيار الاقتصاد السوري، وأثر ضغط قانون قيصر على نظام الأسد، من قبل وزير المالية والاقتصاد في الحكومة المؤقتة، عبد الحكيم المصري.

كما شارك في الجلسة الثانية من مركز عمران الدكتور سنان حتاحت، مركزاً على مراحل العقوبات الاقتصادية على نظام الأسد، وقراءة أثرها على القطاعات الصناعية، وكيفية استخدامها من قبل نظام الأسد للضغط على الحاضنة الشعبية.

التصنيف الفعاليات
الجمعة, 05 شباط/فبراير 2021 15:12

اقتصاد سورية 2020.. أي العوامل أشد وطأة؟

أنهت سورية العام 2020 بعقوبات اقتصادية غربية مثلما أنهت العام 2019، لم يكن ثمة ما يشير إلى انفراجة على الاقتصاد بعدما استمر النظام في سياساته العسكرية ورفضه لكل أشكال الحل السياسي. ومع نهاية كل سنة تنشغل المراكز البحثية في رصد وإحصاء الخسائر وتصدير أرقام بها، ويطرح سؤال من قبيل أي سنة هي الأصعب على سورية؟! وأي عامل ذاك الذي تسبب بآثار بالغة على الاقتصاد؟! وبين السؤالين لا يغيب مشهد القتل والتهجير والنزوح والفقر، على المواطن السوري الذي ذاق ولا يزال ويلات الحرب سنة تلو أخرى.

مثل سابقه حمل 2020 الكثير من الأحداث التي أرهقت كاهل المواطن واستنزفت القطاعات الاقتصادية، ابتداءً من العقوبات وخلاف رامي مخلوف – بشار الأسد إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الليرة واستبدالها في مناطق المعارضة مروراً بانتشار فيروس كورونا وما خلّفه من أزمة صحية في بلد تدمر فيها 50% من المشافي بشكل كلي أو جزئي.

الليرة السورية بين الهبوط والاستبدال

انخفضت الليرة السورية لمستويات متدنية غير مسبوقة خلال العام جعلت البعض يردد أن هذا الحدث كان الأبرز طاول العام وأنه الأشد وطأة على الاقتصاد والمواطن.

فمع ارتفاع سعر صرف الليرة أمام الدولار إلى مستويات 3175 ليرة في 8 حزيران 2020 واجه المواطن ارتفاعاً غير مسبوق في أسعار السلع والخدمات، ففي نهاية تشرين الثاني 2020 بلغت أسعار سلة من المواد الأساسية الحد الذي لم يعد الناس قادرين على إطعام أسرهم، كما أشار نائب منسق الإغاثة الطارئة في الأمم المتحدة عن الوضع الاقتصادي المتدهور في سورية، لافتاً أن 9.3 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي نقلًا عن أرقام برنامج الأغذية العالمي.

وتظهر هذه الأزمة جلية عند النظر إلى الأسعار ومقارنتها مع دخل محدود يبدأ بـ37 ألف ليرة، حيث بلغ سعر صحن البيض 5700 ليرة، وكيلو اللبن 1200 ليرة، وكيلو البرتقال 1200 ليرة، والتفاح 1600 ليرة، وكيلو البندورة 1500 ليرة، والبطاطا 1000 ليرة وكيلو الحليب 1000 ليرة، والأرز 1700 ليرة، والبرغل 1100 ليرة، ولدى مقارنة هذه الأسعار مع مثيلاتها في نهاية 2019 سيظهر أن الأسعار ارتفعت بنسب تفاوتت بين 17% و500%، علماً أن متوسط الأجور في سورية يبلغ 149 ألف ليرة شهرياً (52 دولار على سعر 2800 ليرة) في مختلف المهن والأعمال بحسب موقع salary explore . وعليه ستترك هذه الأسعار الأسرة حائرةً في تدبر أمورها بعد نفاذ دخلها خلال الأيام الأولى من الشهر.

وقد شكل هبوط قيمة الليرة وعدم استقرار الأسعار سبباً وجيهاً للمجالس المحلية في مناطق المعارضة في الشمال، لاستبدالها بالليرة التركية، وتثمين السلع والخدمات بها، لحفظ مدخرات الأهالي وفرض استقرار في الأسعار، إلا أن التشتت الحاصل في المنطقة مدنياً وعسكرياً من جانب، وافتقار المنطقة لمؤسسة نقدية تشرف على حركة الاستبدال وتدير كافة المعطيات الاقتصادية لفرض الاستقرار في الأسعار ومراقبة الأسواق، ساهم في إرباك المواطنين والأسواق وقلل من جدوى هذه الحركة.

“قيصر” من جهة ومخلوف من جهة أخرى

بمجرد العودة للوراء قليلاً والتفكير في أسباب انخفاض الليرة، سنجد أنفسنا أمام العقوبات، وهو عامل شديد الوطأة، إذ استقبلت سورية العام 2020 بتوقيع ترامب لقانون قيصر وسرى تنفيذه في 17 حزيران في ذات العام.

تسبب القانون بالفعل في زيادة الخناق على النظام ومؤسساته وشبكاته التجارية، ففي الوقت الذي كانت فيه العقوبات السابقة تحظر على الأشخاص الأمريكيين فقط ممارسة أعمال مع النظام أو مع أفراد وكيانات مدرجة في قائمة الأشخاص الممنوعين من مكتب مراقبة الأصول الأجنبية في أمريكا، نصّ قانون “قيصر” على فرض عقوبات على الأجانب من غير الأمريكيين في حال قاموا بنشاطات محظورة مدرجة في قوائم العقوبات ضد النظام، وهو ما يتيح للحكومة الأمريكية معاقبة أي فرد ومؤسسة وحكومة في العالم يثبت عليها؛ دعم النظام مالياً أو مادياً أو تقنياً، أو تشارك الحكومة أو المجموعات شبه العسكرية والمرتزقة داخل سورية أو روسيا أو إيران أو ممن تسبب بانتهاكات خطرة لحقوق الإنسان ضد الشعب السوري.

ستصبح سورية مع سريان القانون في 17 حزيران 2020 شبه مكبلة، ولا يبدو أن أحداً قد ينفذ من العقوبات لدى تعامله مع النظام، وهو ما لوحظ في انخفاض تعامل الدول المجاورة مع النظام وصعوبات متزايدة في تمويل الواردات من قبل مؤسسات الدولة وعلى رأسها البنك المركزي، وغذّت العقوبات الجديدة من الفساد في الأسواق واحتكام السوق إلى تجار الحرب الذي لا يجدون بُداً في رفع الأسعار بهدف التربح الفاحش واستغلال عجز النظام عن ضبط الأسواق وتمويل الاحتياجات، وتسبب القانون أيضاً في شلِّ استيراد البترول من إيران ما أضعف عملية الإنتاج ورفع الأسعار.

وربّ قائلٍ لا العقوبات ولا ضعف الليرة السورية بالعامل الذي تسبب في إنهاك الاقتصاد والمواطن في 2020! بل هو الخلاف الذي اندلع بين رامي مخلوف وبشار الأسد؛ والذي يعرفه القاصي والداني في سورية من خلال سيطرته على 7% من الناتج المحلي الإجمالي السوري وهذا الرقم كافٍ للدلالة على التحالف الموجود بين عائلتي مخلوف والأسد عبر إدارة استثمارات وأعمال وجعل الأولى وسيطاً للثانية.

كسرَ الخلاف الحاصل تلك الصورة النمطية الموجودة في تحالف العائلتين وتبخرت الثقة بالوجوه القديمة، فأُغلقت أسواق واستثمارات ووضَعت الحكومة يدها على أموال وأملاك لمخلوف، وظهرت وجوه جديدة على الساحة أُوكِل لها إدارة الأعمال والشركات مثل سامر فوز وقاطرجي وغيرهم، وهو ما أشعل حرباً داخلية بين رامي مخلوف والأسد ساحتها الفيس بوك ظهر أثرها على الاقتصاد من خلال المضاربة على العملة ورفع أسعار السلع وحالة الاضطراب في الأسواق المحلية والغموض لما هو آتٍ.

في النهاية! لا أرى مجالاً للشك في حجم الأثر لتلك العوامل على المواطن والاقتصاد، وأنها ستستمر في تفاعلها خلال العام 2021 وإلحاق مزيد من الأزمات المتراكبة على البلاد. ولكني أرجح أن العامل الأنكى الذي يمر على سورية منذ عشر سنوات هو فقدان واستنزاف الموارد البشرية من وفيات ومعتقلين وجوع وفقر وتسرب من المدارس، وأن وجود النظام بحد ذاته يمثل العقدة الرئيسية التي سيمثل حلها حلاً لكل مشاكل وأزمات سورية، هذا هو العامل الأشد وطأة على سورية خلال 2020.

التصنيف مقالات الرأي
بتاريخ 13 كانون الثاني 2021، كتب الباحث المساعد في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية مناف قومان مقال رأي لدى موقع السورية نت حمل عنوان "اقتصاد سورية 2020. أي العوامل أشد وطأة؟"
 
حيث أوضح أن اقتصاد سورية خلال عام 2020 واجه صعوبات جمّة ابتداءً من انهيار الليرة مطلع العام وقرار استبدالها في مناطق المعارضة في الشمال وسريان قانون قيصر في حزيران وخلاف بشار الأسد - رامي مخلوف، وليس آخراً انتشار فيروس كورونا، هذه العوامل وغيرها ساهمت في جعل عام 2020 عاماً ثقيلاً على الاقتصاد والمواطن من خلال انخفاض قيمة الليرة بأكثر من 90% وارتفاع الأسعار بنسب قاربت الـ500% وزيادة الغموض وجرّ البلد نحو الهاوية، ويبقى العامل الأنكى على مدار السنوات الماضية هو الاستنزاف الحاصل في الموارد البشرية من وفيات وجوع وفقر وتسرب من المدارس.
 
 
للمزيد: http://bit.ly/2XHf9un

بتاريخ 12 تشرين الثاني 2020 وفي حديث لموقع السورية نت قدم الباحثان في مركز عمران للدراسات معن طلاع وأيمن الدسوقي تعليقهما حول مؤتمر عودة اللاجئين الذي تم عقده بدمشق. حيث أكد طلاع على ان الرسالة الأبلغ للمؤتمر هو مقايضة المجتمع الدولي عبر صفقة عودة اللاجئين مقابل رفع العقوبات.

 كما اعتبر الدسوقي أن موسكو تسعى من خلال رعايتها للمؤتمر إلى التأكيد على انتقال أولوياتها في سورية من أهداف أمنية / عسكرية إلى استحقاقات سياسية واقتصادية.

للمزيد: https://bit.ly/2UrbJKw

عكس ظهور رامي مخلوف بحمولة من الرسائل والدلالات، استثنائية الحدث وحجمه، خاصة ضمن التوقيت والسياق الحاليين للملف السوري. الاستثنائية التي تكمن بداية في الخروج عن المألوف لناحية سلوك أحد رموز النظام في التعاطي مع الإشكاليات الداخلية وتصديرها، تحديداً تلك المتعلقة بجزء من نظام الحكم والمقربين من الدائرة العائلية، والذين لطالما أحيطت بهم هالة من التقديس والسريّة، ساهم ظهور مخلوف بكسرها عبر تصديره إشكالية مركّبة (سياسية-اقتصادية-عائلية-دولية) إلى مستوى مختلف تماماً، تمثل بالرأي العام والشارع.

ولا تكمن الاستثنائية في رد فعل رامي مخلوف فقط، وإنما تمتد أيضاً إلى سلوك آل الأسد وعقلية السلطة والنظام، والذي لم يؤمن يوماً بهذا النوع من المحاسبة في إطار تشويه سمعة لأي من أركانه ورموزه ضمن دائرة الحكم، خاصة العائلية والطائفية، فرفعت الأسد الذي حاصر دمشق بالجيش وزاحم أخاه السلطة، خرج في إطار صفقة ضمنت لهُ امتيازات عدة، أقلها تحفّظ الإعلام الرسمي حتى الآن عن تناوله وتشويه سمعته.

 وكذلك غازي كنعان، الذي أتى بما لم يأتِ به رامي وهدد السلطة بمخطط انقلاب، ورغم انتحاره/تصفيته فقد حظي بجنازة عسكريّة. ولا يبدو أن النظام قد أحدث أي تغيير في تلك العقلية ضمن ظروف أكثر حساسية واتجاه شخصيات أقل وزناً، كعاطف نجيب في مطلع العام 2011، فكيف برامي محمد مخلوف ونفوذه؟ والذي لا يبدو ظهوره إلا ذروة لخلاف كان يتفاعل منذ وقت.

 فقد تعرض مخلوف خلال العامين الفائتين لحملات مُنظّمة ومتتالية على مستويات مختلفة، تعددت أشكالها غير الرسمية، لتنتهي اليوم بوضعه كغريم لـ "القانون" الممثل بـ"الدولة"، والتي خاطبها رامي بشكل مباشر في ظهوره دون ذكر كلمة الحكومة أو أي من أجهزتها المعنية بالإشكالية، وذلك ليس فقط لوعيه "الفطري" بأنه جزء منها ومن النظام المُسيطر عليها، وإنما لإدراكه الكامل أن القرار الذي اتُخذَ بحقه هو قرار سياسي أولاً، يتجاوز مبلغ 233.8 مليار ل.س، والذي لم يحتج على دفعه، وإنما على السياق وآليات التحصيل، وما بعده؟.

ولعل الخصوصية المركّبة لرامي مخلوف مقابل طبيعة التحركات والإجراءات التي يتخذها النظام بحقّه عبر مؤسسات الدولة، تعطي مؤشرات لملامح تحوّل في بنية النظام، على الأقل الاقتصادية، فمخلوف ليس مجرد ابن خال الرئيس، ورجل أعمال مهيمن على الحصّة الأكبر من الاقتصاد السوري، وإنما يمثل منظومة داخل منظومات متداخلة، عائلية وطائفية وعشائرية.

وهو ابن محمد مخلوف عرّاب بشار الأسد وأحد أهم الذين وقفوا معه في سنوات حكمه الأولى، خاصة في وجه الحرس القديم، والذي تمتد قوته في شجرة السلطة إلى أنيسة مخلوف، وآل مخلوف الذين ينحدرون من عشيرة الحدادين التي تشكل قوة داخل البنية العشائرية للطائفة، وكذلك العائلة ذاتها داخل العشيرة.

فضمن السياق السوري، لا يمكن التعاطي مع رامي مخلوف كشخص فقط، بقدر ما هو جزء من مرحلة كاملة وتحوّل رافق حكم بشار الأسد وسياسات الانفتاح الاقتصادي (النيو ليبرالية)، التي صعّدت طبقة رجال أعمال مقربين تغولوا في السوق على حساب تراجع دور الدولة والقطاع العام، التحول الذي أخلّ بتوازنات حافظ الأسد، ليس على مستوى شكل الاقتصاد فحسب، وإنما على مستوى تجاوز هيمنة الطائفة، عبر النظام، للجيش والأجهزة الأمنية والاكتفاء بالإتاوات من التجّار، إلى الإطباق على الاقتصاد السوري.

 وقد شكّل رامي مخلوف وعائلته وعدد من أبناء رموز نظام الأسد الأب أداةً لهذا الإطباق، من خلال شركات وبنوك واستثمارات في مختلف القطاعات وصلت حد الاحتكار والتشبيح الاقتصادي، وتسخير أجهزة الدولة لخدمة هذا الاحتكار ومنع كسره عبر قوانين مصممة له، وبذلك ضيّق الهامش لباقي رجال الأعمال من مختلف المكونات، والذين يعملون أيضاً في المتاح اقتصادياً ويشاركهم رامي في أغلبه، بعكس التوازنات التي كانت راسية عهد الأسد الأب والقائمة على ترك الاقتصاد للنخبة التقليدية من السُنّة والمسيحيين، في إطار تحالفات وتوازنات اقتضتها ضرورات تثبيت السلطة.

وكما مثّل صعود رامي مخلوف جزءاً من مرحلة وتحولاً في بنية النظام السوري، فإن أفُولهُ اليوم ومحاولات تحجيمه وإزاحته عن الساحة الاقتصادية، قد تشير إلى بدايات وملامح تحوّل جديد، لا يبدو مخلوف المحطة الأخيرة ضمنهُ.  التحوّل الذي يحمل سمة القسريّة ويسعى النظام إلى إحداثه في بنيته ضمن دوافع وسياقات معقّدة، منها داخلية تتعلق بتغيير الأولويات بعد تراجع العمليات العسكرية وما ظهّرته من إشكاليات مركّبة، انعكست بشكل أزمات اقتصادية مزمنة يعيشها النظام على عدة مستويات، ومالها من آثار عميقة على حركة الحياة العامة والمعيشة.

وأُخرى خارجية، تمثلت بتصاعد أثر العقوبات الاقتصادية واقتراب فرض قانون قيصر، كضغط دولي سياسي-اقتصادي لدفع النظام لإحداث تغيير في "سلوكه" بحسب تعبير الولايات المتحدة، والذي لا يبدو أنه سيحدث دون تغيير في البنيّة. مقابل ضغط الحلفاء الاقتصادي في إطار استرداد فاتورة التدخل العسكري، والتزاحم على التغلغل في بنية الاقتصاد السوري والتنافس على تحصيل عقود طويلة الأمد في قطاعاته الحيوية، والتي تحاول إيران التموضع ضمنها عبر شبكاتها الاقتصادية ووكلائها المحليين، مقابل نشاط موسكو وشبكاتها وما يرافقه من محاولات للتغلغل وإعادة هيكلة بعض قطاعات ومؤسسات الدولة، بما يتوافق ومصالحها ورؤيتها للحل السياسي وتفاهماتها مع اللاعبين الإقليميين والدوليين.

وقد ساهم هذا المناخ إضافة لعوامل أخرى، بصعود طبقة رجال أعمال جدد كوكلاء للحلفاء في عدة قطاعات، والذين ساهموا برسم شكل جديد للسوق عبر التغول أكثر على حساب "الدولة" التي تحولت إلى طرف ميليشياوي وشريك أمني وليس اقتصادي.

في تلك السياقات المعقّدة وما يتخللها من ضغوطات داخلية وخارجية، يبدو أن الأسد يسعى لإحداث تحوّل في جزء من بنيّة النظام، عبر براغماتية توائم بين مصالحه الخاصة والضغوطات المتعددة، فكما يناور النظام في هامش التنافس بين حلفائه، فإنه أيضاً يحاول التكيّف مع ضغوطاتهم، خاصة الروسية منها، عبر محاولات التوفيق بين مصالحه ومصالحهم ومقاطعتها.

ولعل مخلوف أحد أمثلة هذا التقاطع، الذي اقتضى سلسلة تحركات باتجاه تحجيم نفوذه، إذ لم تكن الإجراءات الأخيرة ضده هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها أخرى على مستويات وفترات مختلفة، كحلّ ميلشيات "الحزب القومي السوري" المدعومة منه، إضافة إلى مليشيات أخرى، مقابل التضييق على أعمال جمعية البستان والحجز على بعض الشركات.

 وفي هذا السياق لم يكن رامي الوحيد، ولكنه الأبرز، فقد تزامنت تلك الحملات مع أخرى استهدفت شرائح مختلفة من الشبكات الاقتصادية (ضباط، رجال أعمال، تجّار) وفرضت بدايةً محاصصتهم في الكسب الذي حققوه خلال سنوات الصراع، وذلك في إطار إعادة تعريف علاقة النظام بهم.

ويبدو أن تحركات النظام تأتي كمحاولات لإعادة ترتيب مراكز القوى، وفرض نفسه عبر الدولة الساعية إلى استعادة أدوارها، والتي تنازلت عن العديد منها بعد العام 2011، سواء في الشق الاقتصادي أو العسكري، وفوضتها لمليشيات مسلحة وشبكات اقتصادية بشكل يتلاءم وطبيعة الصراع المسلّح وما أفرزه من أشكال لاقتصاد الحرب على مرّ الأعوام الفائتة.

وربما يتقاطع ذلك مع ما أشار إليه بشار الأسد خلال لقائه بــ "المجموعة الحكومية لمكافحة الـكورونا" والمؤلفة من وزارات ومؤسسات الدولة، اللقاء الذي تلا الظهور الأخير لرامي مخلوف بأيام قليلة ونشرته رئاسة الجمهورية عبر معرفاتها الرسمية، وأكد خلاله الأسد على "ضرورة إعادة دور الدولة كلاعب على مستوى الاقتصاد وضابط للسوق".

 ذات الخطاب حمل تلميحات غير مباشرة ومدروسة باتجاه قضية مخلوف، فمجرد الظهور بالفريق الحكومي واستعراض ملفات عديدة و"تحديات المستقبل"، بدا كردّ "الدولة التي تنشغل بملفات أكبر من أفراد"، وهذا هو سلوك النظام الرسمي والتقليدي في التعاطي مع أزماته الحساسة، عبر تجاهلها والحرص على تظهير الدولة كطرف وليس الشخص أو العائلة أو الطائفة.

ولا تبدو محاولات استعادة دور "الدولة" على المستوى الاقتصادي منفصلة عن باقي المستويات، فقد رافق إجراءات  النظام في الجانب الاقتصادي تحركات على مرّ العامين الفائتين باتجاهات مختلفة، منها حلّ بعض المليشيات وإعادة تنظيم ودمج بعضها الآخر في الجيش، وذلك أيضاً في إطار إعادة ضبط وتعريف العلاقة بينها وبين "الدولة"، الأمر الذي استدعى أحياناً الصدام معها وبعض العوائل والأسماء المتنفذة التي تدعمها، كما حدث سابقاً في الساحل السوري 2018-2019، خاصة مع تحوّل تلك المليشيات إلى شبكات عائلية وأمنية، تنافس سطوتها في مناطقها "الدولة".

ولعل القاسم المشترك في أغلب تحركات النظام على المستويات السابقة، هو الغطاء الروسي، خاصة في تلك التي تستدعي صداماً مع مراكز القوى داخل النظام والعائلة والطائفة، واحتواء أي آثار محتملة لهذا الصدام. وفي هذا السياق لا تبدو أسماء الأسد ورجال الأعمال المقربين منها قوة كافية في مواجهة هذا النوع من الصدامات، خاصة ضمن بنيّة نظام الأسد المركّبة، والتي يبدو فيها دور أسماء الأخرس منفعلاً ومرسوماً، أكثر من كونه فاعلاً وعاملاً حاسماً في إحداث تحولات داخل البنيّة.

وهذا لا يعني التقليل من دور "السيدة الأولى" وأثره، بقدر ما هو إشارة إلى الدور الروسي كغطاء رافق هذا النوع من تحركات النظام السابقة، الغطاء ذاته الذي قد يتراجع أحياناً للضغط على النظام، ويعود لدعمه في حال الاستجابة. ويبدو أن الحملة الروسية غير الرسمية، التي شنت هجوماً على الأسد قبيل ظهور مخلوف، جاءت في هذا السياق، خاصة وأنها ركزت على توصيفي (ضعيف، فاسد)، لتأتي تحركات الأسد تجاه مخلوف كإثبات للعكس في ظاهرها، بينما بدت في العمق كرد منسجم مع مطالب الحملة، أكثر منه تحدٍ لموسكو.

وخلال استجابة النظام للضغوطات المركّبة عبر ديناميات داخلية جديدة، يبدو أنه بشكل أو بآخر يرسل إشارات تُعبّر عن رؤيته الخاصة لحجم التغيير المحتمل وسقف التنازلات التي قد يقدمها خلاله، فيما بدا وكأنه أشبه بالعودة إلى توازنات حافظ الأسد في بعض المستويات، والتي تقتضي إعادة فتح المجال الاقتصادي، وربما التنازل في غيره من المجالات مستقبلاً بما ينسجم مع حجم الضغوط والمرحلة المقبلة، ولكن دون التنازل في البنيّة الرئيسية المتمثلة بالإطباق على الجيش والأجهزة الأمنية، كصمام أمان النظام وأداته للتحكم والهيمنة على البلاد.

إذ يحاول النظام التكيّف مع الضغوط الخارجية للتغيير في بنيته الطائفية والعائلية، عبر التمسك بالجيش والأجهزة الأمنية وفتح ما دونهما لمشاركة الأغلبية السُنية من الموالين، في محاولة للاستمرار بعزل المعارضة وعدم الاعتراف بها، والإيحاء بأن الصراع في سورية طائفي على الحكم، ويمكن حلّه بتوسيع هامش مشاركة السُنة وباقي المكونات في مجالات مختلفة.

 فرغم هذا التحوّل الذي يقوده الأسد على المستوى الاقتصادي أو الإيحاء به على مستويات أخرى؛ إلا أن الأجهزة الأمنية والجيش لم يشهدا إلى الآن أي تغيير حقيقي، خاصة لناحية الهيمنة الطائفية، بل على العكس زاد تغول تلك الهيمنة على مستوى المراكز القيادية، وهذا ما أثبتته دراسة صادرة عن "مركز عمران للدراسات الاستراتيجية"، تناولت طبيعة شاغلي المراكز القيادة في الجيش، والتعديلات التي طرأت عليها حتى العام 2020.

يدرك النظام أن اللجوء إلى مستويات من توازنات حافظ الأسد، ليس إلا تكيّفاً مرحلياً في واقع اختلفت فيه توازنات سورية والمنطقة، وتأقلماً مع حجم الضغوطات الداخلية لسنوات الصراع، وضغط المجتمع الدولي وداعميه، وذلك كمحاولة للتملص من إحداث تغيير حقيقي في سورية عبر مشاركة المعارضة وإعادة هيكلة أجهزة الدولة بما فيها القطاع الأمني، الأمر الذي يبدو أنه لم يعد رهناً بإرادة بشار الأسد وتصوراته، بقدر ما تحول إلى عملية خاضعة لتفاهمات ومصالح الفاعلين في القضية السورية.

 فرغم أن تحولات مراكز القوى قد تشير إلى تصدع في بنيّة نظام الأسد، إلا أنها وبالوقت ذاته ليست مؤشراً كافياً على تآكل تلك البنيّة أو تغييرها بالكامل، الأمر الذي بات مرتبطاً بعوامل إقليمية ودولية مختلفة، وتوافقات بين لاعبين متعددين بمصالح متضاربة، سيشكل التوفيق فيما بينها أساساً لأي حل سياسي قادم، وتحديداً لشكل النظام الجديد وموقع الأسد ضمنه.

التصنيف مقالات الرأي