مع إعلان دونالد ترامب عن قراره بإيقاف العقوبات الأمريكية المفروضة على سورية، وعقب لقاء لا بدَّ من وصفه بالتاريخي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع والرئيس الأمريكي دونالد ترامب بوساطة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على الأراضي السعودية، وبحضور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر تقنية الفيديو؛ يتَّضح بشكل جلي كيف آتى الزخم السياسي الإقليمي مع دمشق ومن أجلها أكله([1]). كما جاء هذا اللقاء بعد فترة وجيزة من استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للشرع في قصر الإليزيه في باريس، في أول زيارة للرئيس السوري لدولة غربية، اتَّضح معها أيضاً أثر الدور الريادي الإقليمي للتمهيد للانخراط الأوربي أيضاً.
بالمقابل، أصبح واضحاً كيف تمضي الإدارة السورية الجديدة بخطى ثابتة لاستكمال الشرعية الدولية، وكسر جميع الافتراضات المسبقة – من أطراف داخلية وخارجية – حول حدود قدرتها على الاندماج بالمجتمع الدولي، وذلك في ظل تقاطع للمصالح الدولية والإقليمية في سورية، وسياسة عقلانية تتبعها دمشق؛ الأمر الذي يمنح البلاد فرصة استثنائية لترسيخ الاستقرار وإعادة الإعمار. يناقش هذا المقال السياسة الأمريكية والأوربية تجاه سورية في إطار مصالحهم الاستراتيجية وعلاقتهم مع دول الإقليم، محاججاً بوجود فرصة استثنائية لصياغة علاقات قد تكون استراتيجية مع الغرب بما يخدم وحدة وأمن البلاد وتطلعاتها لإعادة الإعمار، لكنه لن يتم من غير انعكاس على علاقة دمشق بموسكو، وبالتحديد مصير قواعدها العسكرية في سورية.
شرق أوسط جديد يمر من دمشق
يأتي الإعلان عن رفع العقوبات عن سورية من الرياض في وقت تشهد فيه العلاقات الأمريكية-التركية والأمريكية-السعودية زخماً كبيراً، وفي وقت تسعى فيه واشنطن لإبرام اتفاقاً مع إيران بخصوص برنامجها النووي من جهة ولإدارة الجموح الإسرائيلي من جهة أخرى. بعبارة مختلفة، تشهد المنطقة إعادة تشكيل لمعادلة توازن القوى، بشراكة أكبر بين واشنطن وأنقرة والرياض كفواعل تسعى للاستقرار الإقليمي ولاحتواء إيران من جهة وإدارة العدوانية الإسرائيلة من جهة أخرى؛ إذ أنَّ سورية ساحة رئيسية لإرساء قواعد إقليمية جديدة.
على مستوى العلاقات الأمريكية-السعودية، صاغت المملكة اتفاقاً ضخماً بقيمة 600 مليار دولار، في خطوة تهدف بها الرياض إلى شراكة تتعدى مقاربة النفط مقابل الأمن، بل تطوير القدرات السعودية في مجالات تكنلوجية-دفاعية متقدمة. علاوة على ذلك، فإنَّها تهدف للحول دون تخفيف واشنطن من التزاماتها تجاه دورها في الشرق الأوسط عموماً، وأمن الخليج العربي على وجه الخصوص، بعد مرور أكثر من عقد على صراع القوى الإقليمية لفرض هيمنتها على المنطقة من غير جدوى؛ وآخرها المساعي الإسرائيلية بالاعتماد على التفوق التكنلوجي-العسكري لفرض واقع تهجير في فلسطين وتقسيم في سورية، مرفوض إقليمياً، سيَّما عربياً وسعوديَّاً، وهو ما يأخذه ترامب بعين الاعتبار بحكم أنَّ الرياض تمثِّل الشريك الاقتصادي الأكبر لواشنطن، وصاحبة الثقل السياسي الأكبر عربيَّاً.
بذات الوقت، تشهد العلاقات التركية-الأمريكية زخماً جديداً، بعد فترة من البرود بعهد إدارة بايدن، وانفتاح نافذة فرصة لحل أكبر ملف يعيق تقدُّم العلاقات بين البلدين، وهو ملف دعم الولايات المتحدة ل"قسد". فمع سقوط نظام الأسد، وعقد حكومة دمشق اتفاقاً مع قائد "قسد" مظلوم عبدي، وحل حزب الـ(PKK) المصنَّف إرهابيَّاً، بالإضافة إلى تشكيل آلية إقليمية بين تركيا والأردن والعراق ولبنان وسورية بشأن مكافحة تنظيم داعش؛ يبدو بأنَّ الطريق ممهَّد أمام علاقة أكثر إيجابية بين واشنطن وحليفتها أنقرة، صاحبة ثاني أكبر جيش في حلف الناتو.
لهذا، فإنَّ السياسة الأمريكية تجاه سورية، ورفعها للعقوبات وانخراطها المحتمل، يأتي في إطار مصالح استراتيجية على مستوى سياستها في الشرق الأوسط، والتي تتجه تجاه علاقات أكثر استراتيجية مع أنقرة والرياض، لا تتناقض مع تزايد نطاق دور الحلفاء في إطار تأسيس نظام إقليمي جديد على أنقاض النفوذ الإيراني. فضمان استقرار سورية وفق هذه المقاربة الإقليمية، تعني ضمان الخروج النهائي لإيران من سورية، وقطع جميع الطرق أمام إعادة إنعاش "حزب الله" في لبنان، وهو ما يمثِّل مصلحة استراتيجية لجميع الأطراف، مثلما تراها دمشق كمصلحة استراتيجية لها، وقادرة على ضمان تحقيقها. بالإضافة لذلك، تنظر واشنطن لسورية من منظور استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب عالميَّاً، إذ أنَّ سجل هيئة تحرير الشام سابقاً بمكافحة تنظيم الدولة، وعقد الحكومة السورية لاتفاقية مع "قسد"، وتشكيل الآلية الخماسية بين دول جوار سورية مع دمشق لمكافحة الإرهاب؛ يجعل واشنطن أقل قلقاً تجاه خطر استراتيجي مصدره سورية.
سورية أساسية بالنسبة للأمن الأوربي
تمثِّل زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع الأخيرة إلى باريس حدثاً مهمَّاً، باعتبارها أول زيارة أوروبية له في ظل الحذر الغربي الذي ساد تجاه الإدارة السورية الجديدة، ولأنها تأتي في مرحلة تعيد فيه أوروبا – وفرنسا بالضرورة – ترتيب أولوياتها الاستراتيجية على عدة مستويات، وعلى رأس ذلك مقاربة الأمن الأوربي. تشكِّل سورية أولوية في السياسة الأوروبية عامةً، والفرنسية خصوصاً، تجاه الشرق الأوسط. فعلى المستوى الاستراتيجي، ترى باريس في سقوط النظام فرصة نادرة لإضعاف النفوذ الروسي في الشرق الأوسط لأدنى مستوياته، نظراً لأن سورية تشكِّل الركيزة الأساسية لوجود موسكو في الشرق الأوسط والمحطَّة الرئيسية التي تصل موسكو بمواقعها في إفريقيا التي تشهد تنافساً روسيَّاً-فرنسياً، وهو ما دفع موسكو لتعزيز بعض مواقعها في ليبيا بعد سقوط نظام الأسد تحسُّباً لأي تغيُّر قد يطرأ على تواجدها في سورية.
ومع سعي واشنطن لتقليص التزاماتها تجاه الأمن الأوربي، والمساعي الأوربية لصياغة مقاربة أمن إقليمية أقل اتكاءاً على واشنطن، يسعى ماكرون لانتهاز الفرصة الموجودة في سورية، واستكشاف أفق الدفع باتجاه انخراط أوربي استراتيجي في سورية. فماكرون الذي ينظر للناتو كتحالف في حالة "موت دماغي" – بحسب تعبير سابق له – ويؤمن بضرورة نسج رؤية استراتيجية منطلقة من "السيادة الأوربية" لتحقيق استقلال استراتيجي أوربي يجلعها قطباً ثالثاً في العالم، والذي سعى لترجمة ذلك بالدعوة والعمل على تأسيس قوة أوربية مسلَّحة تشكِّل نواة لجيش أوربي، يرى في الانخراط الأوربي في سورية أمراً لا مفرَّ منه من منظور المصالح الاستراتيجية الأوربية. اتَّضح ذلك منذ الأسابيع الأولى لسقوط النظام، وقبل قيام الإدارة السورية بالخطوات الأساسية لاستكمال شرعيتها الداخلية بعقد مؤتمر النصر والحوار الوطني وتشكيل حكومة انتقالية، إذ كانت زيارة وزير الخارجية الفرنسي مع نظيرته الألمانية لدمشق دليلاً واضحاً على التنسيق والحرص الأوربي للانخراط الجدِّي في سورية الجديدة.
علاوة على ذلك، تنظر فرنسا، بشكل مشابه لنظرة واشنطن ودول الإقليم، بأنَّ نشوء أي حالة من عدم الاستقرار في سورية لن تقتصر عواقبها على تداعيات داخلية سورية فحسب، بل تنطوي على مخاطر إقليمية ودولية، أبرزها استغلال إيران لحالة الفوضى، أو عودة تنظيم الدولة بما يشكِّله من تهديد أمني استراتيجي. ناهيك عن أنَّ باريس تنظر لسورية ولبنان، بمنظور متكامل، جزء منه متعلق بما تعدُّه دور تاريخي لها كـ"ضامن للاستقرار" في الشرق الأوسط، وهو ما تجلَّى في مبادراتها للقيام بدور وسيط بخصوص ترسيم الحدود.
تدرك باريس مصالحها بشكل جيد في سورية، وتسعى عبر الانخراط المباشر لاكتشاف مساحات العمل الممكنة لتحقيق هذه المصالح، وليس أقلُّها أهمية إخراج روسيا من سورية. لا شكَّ بأنَّ قدرة باريس، وأوربا عموماً، على توحيد رؤية استراتيجية مع العرب وتركيا تجاه سورية سيفتح مجالاً لتسوية تحقق مكاسب لجميع الفاعلين، على حساب موسكو، بطبيعة الحال.
قد لا تكون أنقرة أو الدول العربية تملك الحماس الأوربي ذاته لإخراج موسكو من سورية، إلَّا أن أنقرة لن تنظر بسلبية لذلك، سيما وأنَّها تتطلع لدور أكبر لها في مقاربة الأمن الأوربي، والبناء على الدور المحوري الذي لعبته في ملف الحرب الروسية-الأوكرانية عبر دعم القدرات الدفاعية الأوكرانية مع الحفاظ على قدرتها على لعب دور وساطة بين الطرفين. أمَّا بالنسبة للدول العربية، وفي مقدمتهم الخليج العربي والأردن، فلم يشكِّل الوجود الروسي عامل استقرار في سورية سابقاً لكي يتمسَّكوا به.
مصالح متقاطعة قد تفضي لتحوُّل استراتيجي
لطالما كان الموقع الجغرافي لسورية وما يعنيه جيوسياسياً عاملاً حاسماً في صياغة سياسة الفواعل الإقليمية والدولية تجاه البلاد، وهو ما جعلها ساحة للصراع والتنافس على مدار أكثر من عقد، وهو العامل ذاته الذي يجعلها اليوم مساحة لتقاطع للمصالح، وسط تغيُّرات جوهرية تشهدها البيئة الاستراتيجية المحيطة بسورية. ففي ظل ملامح شرق أوسط جديد عنوانه إرساء معادلة جديدة للأمن الإقليمي قائم على التعايش المشترك وبوصلته التنمية، يشكِّل كل من تقاطع المصالح الإقليمية والغربية ومقاربة دمشق العقلانية تجاه دورها الجيوسياسي، معاً عاملاً حاسماً في فتح أفق استراتيجي لها؛ افترض العديد من المراقبين الداخليين والخارجيين بأنَّه مغلق، لكنَّه ما زال ليس سهلاً بالتأكيد، ويتطلَّب خطى دقيقة، بتوقيتها ونوعها، داخليَّاً وخارجيَّاً ([2]).
ختاماً، يمثِّل الزخم الدبلوماسي الإقليمي والدولي ورفع العقوبات، خطوات أولى لماراثون طويل هدفه إعادة الإعمار الشاملة للبلاد، ويمهِّد لفرصة استثنائية لصياغة علاقات قد تكون استراتيجية مع الغرب، أي تحالفات وعلاقات بعيدة عن موسكو كلِّياً، بعد أن خرجت حليفتها الأبرز إيران من سورية، بما يخدم مصالح دمشق بالحفاظ على وحدتها وتعافيها. في مثل هكذا سيناريو، لن يكون تفكيك قواعد روسيا وانسحاب قواتها من سورية – أو تقويض التواجد الروسي للحد الأدنى – أمراً مستحيلاً أو ضرباً من الخيال، بل احتمالاً مطروحاً ضمن معادلة توازن القوى الجديدة. أمَّا بالنسبة لدمشق، فإنَّ احتمالاً كهذا، لا يمكن أن يتم بشكل مجاني، ومن غير الحصول على خطة مارشلية لإعادة الإعمار، وبالتالي ضمان وحدة البلاد وأمنها وإعادة إعمارها.
([1]) معن طلَّاع، القمة الرباعية في الرياض: الاستقرار والتنمية كعناوين للمشهد المحلي والإقليمي، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 15 أيار/مايو 2025، الرابط: https://cutt.us/WxJtf
([2]) ساشا العلو وفاضل خانجي، تحديّات السياسة السورية الجديدة: أسئلة البوصلة والخيارات الاستراتيجية، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 10 نيسان/أبريل 2025، الرابط: https://cutt.us/SuYxY