أوراق بحثية

مدخل

في 22 حزيران/يونيو 2025، تعرّضت كنيسة "مار إلياس" للروم الأرثوذكس في حي الدويلعة بدمشق لهجوم انتحاري أثناء قدّاس الأحد، أسفر عن مقتل 25 شخصاً وإصابة 63 آخرين، بحسب وزارة الصحة السورية([1]). وقد مثّل هذا الهجوم، من حيث طبيعته وتوقيته ودلالاته، نقطة تحوّل بارزة في مسار العُنف الذي أعقب سقوط نظام الأسد، إذ شكّل أول انتقالٍ من "العُنف القائم على إعادة توزيع السُلطة" إلى "الإرهاب المباشر".

انطلاقاً من هذا التحوّل، أعاد التفجير رسم موقع السُلطة الجديدة على خارطة العنف؛ من طرف منخرط في دورات عنف ضمن سياقات سياسية-اجتماعية مركّبة، كما في حوادث الساحل وجرمانا وصحنايا، إلى جهة مسؤولة ومُساءلة أمام فعل "إرهابي" خالص استهدف مدنيين داخل دار عبادة، وضمن بيئة وسياق خاليين نسبياً من أي صدام سياسي أو توتر أمني مع المكوّن المسيحي تحديداً. بهذا المعنى، لم يكن الهجوم موجّهاً ضد المسيحيين فحسب، بل عبرَهُم لاستهداف موقع السُلطة الجديدة التي قدَمت نفسها كجهة مسؤولة عن أمن مواطنيها، وضرب سرديّتها حول الانتقال الآمن وحماية السلم الأهلي، واختبار قدرتها على التعاطي مع الارتدادات السياسية والأمنية والاجتماعية لهذا الحدث.

يأتي التفجير في لحظة سياسية بالغة الحساسية، لا يتجاوز عمر الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع ثلاثة أشهر، وفي ظل انفتاح إقليمي ودولي متزايد تجسّد في رفع العقوبات، وفتح اتصالات عربية وغربية، وإعادة تأهيل نشط للسُلطة الجديدة. هذا السياق يجعل من التفجير حدثاً ذا وظيفة مزدوجة: إذ يضرب سردية الاستقرار الأمني التي تحاول السُلطة ترسيخها أمام جمهورها الداخلي، ويُحرج روايتها في القدرة على الضبط والسيطرة أمام شركائها الإقليميين والدوليين، لا سيما القوى التي تولي أهمية خاصة لمتابعة الملف المسيحي السوري ضمن إطار "حماية حقوق الأقليات".

لم يكن اختيار المسيحيين كمكوّن والكنيسة كدار عبادة خياراً عشوائياً، بقدر ما بدا هدفاً مدروساً في هذا التوقيت بالذات. إذ لم يكن مسيحيو دمشق طرفاً في توترات سياسية أو عسكرية مباشرة منذ سقوط النظام، ولم ينخرطوا ضمن أي صدامات مع الحكومة الجديدة. بل على العكس، برز المسيحيون في خطاب السُلطة الجديدة كمكوّن "هادئ"، يُسهم في تثبيت الاستقرار ويعزز خطاب التنوّع المقبول، مع محاولة واضحة للانفتاح عليهم وتوظيفهم رمزياً وعملياً في الخطاب الداخلي والخارجي.

أما اختيار مكان التفجير في حي شعبي ضمن أطراف مدينة دمشق، تسكنه طبقة وسطى مسيحية وتتشارك فيه مع مكوّنات أخرى من طبقات مختلفة متوسطة وفقيرة، فيبدو أنه لم يُبنَ على حسابات السهولة الأمنية فحسب، بل أيضاً على طبيعة الحي ومستوى العصبية الاجتماعية المرتفعة لمختلف مكوّناته قياساً بالمراكز المدينية، ما يجعل احتمال انجرار المنطقة إلى أعمال عنف لاحقة أو احتكاكات طائفية أمراً وارداً، ويزيد من خطورة الارتدادات الأمنية والاجتماعية.

وبعيداً عن الرمزية المباشرة للمكوّن والمكان، فإن التفجير حمل رسالة مباشرة على مستوى سورية، عبر التلويح والتهديد بـ"سيناريو" مُقلق يتركز حول استهداف دور العبادة والأسواق والتجمعات المدنية، في محاولة إنتاج مشاهد تكررت في بعض الدول سابقاً كالعراق والصومال وغيرها، وما ترتب عليها من فوضى واضطرابات سياسية وأمنية واجتماعية.

رغم الاستجابة الأمنية السريعة التي أظهرتها الحكومة، إلا أن خطورة الحدث تتجاوز التدابير الميدانية لتشكّل اختباراً حقيقياً لقدرتها على السيطرة وحفظ الأمن، وتثبيت سرديتها السياسية في مرحلة الانتقال، وإدارة ارتدادات هذا الحدث وتداعياته على السلم الأهلي وعلاقة المكوّنات المختلفة بالسُلطة والدولة الناشئة. من هذا المنطلق، تسعى هذه الورقة إلى تفكيك المشهد الناتج عن هذا الحدث، عبر قراءة أبعاده الأمنية وارتداداته السياسية والاجتماعية. فضلاً عن مناقشة وتقييم الاستجابة الحكومية في إدارة هذا الاختبار والتعاطي معه.

التفجير وتحديات الرواية الرسمية

في مؤتمر صحفي رسمي عقدته وزارة الداخلية السورية بتاريخ 24 حزيران 2025، أعلن المتحدث باسم الوزارة "أن تفجير كنيسة مار إلياس نُفِّذ من قِبَل انتحاري ينتمي إلى تنظيم "داعش"، ضمن خلية جاءت من مخيم الهول عبر البادية السورية، بقيادة وتنسيق المدعو محمد عبد الإله الجميلي/"أبو عماد"، والملقب أيضاً بـ"والي الصحراء" لدى "داعش". كما كشَفَ أن "وحدات الأمن بالتعاون مع جهاز الاستخبارات العامة، تمكّنت من توقيف جميع أفراد الخلية بعد مداهمات دقيقة في ريف دمشق، وضبطت مستودعات للأسلحة والعبوات، وأحبطت عملية تفجير ثانية كانت ستستهدف "مقام السيدة زينب". وختم المتحدث بالتشديد على "أن أمن دور العبادة خط أحمر، وأن الوزارة ماضية في اتخاذ إجراءات أمنية واجتماعية متوازنة لحماية الاستقرار والسلم الأهلي"([2]).

وعلى الرغم من وضوح الرواية الرسمية في تحميل المسؤولية لتنظيم "داعش"، وسرعة الإعلان عن توقيف منفّذي العملية خلال أقل من 48 ساعة، إلا أن معطيات موازية أثارت جملة من الإشكاليات والتساؤلات حول مدى تماسك هذه الرواية، ودلالاتها الأمنية والسياسية، ولعلّ أبرز تلك المعطيات:

عدم تبني "داعش":

لم يصدر عن تنظيم "داعش" حتى الآن أي تبنٍّ رسمي لتفجير كنيسة مار إلياس، عبر معرّفاته الإعلامية المعتادة، ما أضعف رواية وزارة الداخلية وأربكها من حيث الإسناد المباشر. ورغم أن غياب التبني لا ينفي قدرة التنظيم على تنفيذ مثل هذه الهجمات، إلا أن نمط عملية مار إلياس لا يتطابق مع أنماط نشاطه المتبناة رسمياً خلال السنوات الثلاث الأخيرة على الأقل. فخلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، لم يتبنَّ التنظيم هجمات من هذا النمط (تفجير انتحاري ضد دور عبادة سواء في الأطراف أو المراكز). كما أن نمط هذه العملية يتجاوز الطابع العملياتي المعتاد لخلايا "داعش" في المرحلة الأخيرة، والتي ركّزت غالباً على الكمائن أو الاغتيالات أو الهجمات الصغيرة في مناطق الأطراف([3]).

وبعد سقوط النظام، ورغم تصاعد خطاب "داعش" المناوئ للحكومة بقيادة الشرع؛ إلا أن عملياته التي تبنّاها عبر معرفاته الرسمية منذ بداية عام 2025 ( 44 عملية ضد جهات مختلفة، 2 منها استهدفت قوات الحكومة في تلول الصفا)، تختلف أيضاً لناحية نمط وهدف وطبيعة هجوم مار إلياس في العاصمة([4]).

تبنٍ مضاد:

بالتزامن مع إعلان الحكومة السورية مسؤولية تنظيم "داعش" عن الهجوم، وفي ظلّ غياب أي تبنٍ رسمي من الأخير، صدر في 24 حزيران 2025، بيان عن جهة تُدعى "سرايا أنصار السنّة" أعلنت فيه مسؤوليتها عن العملية، ونشرته عبر تطبيق تلغرام، موضحة: "أقدم الأخ الاستشهادي محمّد زين العابدين أبو عثمان..على تفجير كنيسة مار إلياس"، وأضافت "إن العملية جاءت بعد استفزاز من مسيحيي دمشق في حق الدعوة وأهل الملَّة"([5]). هذا التطور زاد من غموض المشهد وإرباك الرواية الرسمية، كما طرحَ تساؤلات إضافية حول هوية الفاعل الحقيقي، وما إذا كنا أمام "تنظيم جديد"، أو واجهة محلية لمجموعة تنشط ضمن فلك "داعش"؟

وقد زاد من التشويش التباس هذه المجموعة التي وصفها المتحدث باسم وزارة الداخلية بـ"الوهمية"، إضافة إلى المعطيات المتوافرة حولها؛ سواء لناحية نشأتها الحديثة والإشكالية، وتعبيراتها الإعلامية واللغوية الركيكية في تقديم نفسها وعملياتها، وأهدافها المحدّدة في استهداف الأقليات بالذات، مقابل اسمها المرتبط بالمكوّن السنيّ، فضلاً عن خطابها المشيد برموز "داعش" ومناوئ للشرع وحكومته. كل تلك المعطيات جعلت من هذا التنظيم مُلتبساً، خاصة مع عدم توافر معلومات سابقة عن نشاطه قبل سقوط النظام([6]).

أمام هذا التضارب في المعطيات، تمسَّكت الرواية الرسمية للحكومة السورية بمسؤولية تنظيم "داعش" عن تنفيذ التفجير، ما فتح الباب أمام سلسلة من التأويلات والتحليلات، خاصة في ظل وجود معطيات تُربك هذه الرواية. ولعلّ هذا الإصرار  الحكومي يمكن تفسيره والنظر إليه من زوايا متعددة:

أولاً، من الزاوية الأمنية–الاستخباراتية، قد تكون لدى الجهات الرسمية، أو شركائها الإقليميين والدوليين، معلومات غير معلنة تربط التفجير بتنظيم "داعش" الأم أو بأحد فروعه غير المعلنة، استناداً إلى معطيات لم يُكشف عنها للرأي العام بعد.

أما الاحتمال الثاني، والذي تلمّح له بعض التقارير الغربية، فيتعلق بإمكانية وجود صلة بين مجموعة "سرايا أنصار السنة" وهيئة "تحرير الشام" سابقاً، حيث يُرجَّح أن تكون هذه المجموعة قد ظهرت نتيجة انشقاقات داخل الهيئة على خلفية التغيّرات التي طرأت على سلوكها السياسي-العقدي بقيادة الشرع([7]). وفي هذا السياق، قد يُفسَّر تمسُّك الحكومة برواية "داعش" بوصفه محاولة متعمدة لنفي أي صلة محتملة مع "تحرير الشام" أو المجموعات المتفرعة عنها. ورغم أن هذا السيناريو يبدو ضعيفاً إذا ما قورن بطبيعة القبضة الأمنية–المركزية التي فرضتها الهيئة ضمن الفضاء الجهادي في إدلب قبل سقوط النظام، إلا أنه يبقى مطروحاً في ضوء احتمالات حدوث تصدعات داخلية في بنية "تحرير الشام"، وانزياحات محتملة لأفراد أو مجموعات منشقة غير راضية عن التوجهات الداخلية والخارجية للهيئة والشرع في المرحلة الجديدة.

وفي السياق السابق، إن صح، ربما يكون إصرار الرواية الحكومية على "داعش" قائم على سلوك سياسي–إعلامي مقصود من قبل الحكومة، يقوم من جهة؛ على مبدأ رفض الاعتراف بتعدد الجماعات الجهادية المناوئة لها أو التمييز بينها، واعتبار جميع الفاعلين الذين يدورون في الفلك العقدي أو السلوكي للتنظيم هم "داعش" عملياً، بغضّ النظر عن اسمهم أو عددهم أو وسائلهم. ومن جهة أخرى، تعد هذه الرواية ناجزة ومجرَّبة في سياق ضبط الصف العقدي عند مواجهة أي تنظيمات من هذا النوع، إذ تتيح هذه السردية – حتى من منظور خصوم التنظيم – مساحة أوضح لضبط المواقف والسلوكيات تجاه الفاعل المُنفّذ.

على سبيل المثال، فإن نسب العملية إلى "أنصار السنة" أو غيرهم (كمجموعة مجهولة الهوية والمرجعية) قد تفتح نقاشاً لاحقاً داخل الفضاء الجهادي حول مشروعية قتالها، في حين أن نسبها لـ "داعش" كتنظيم معروف بسابق فعله وتوصيفه الشرعي يُبسِّط هذا التحدي العقدي، ويمنح خصوم التنظيم تبريراً أيسر لاتخاذ إجراءات أمنية وقتالية، بناء على تجربة سابقة طويلة ومفهومة. وبهذا المعنى، فإن اعتماد رواية "داعش" لا يُعد فقط خياراً تقنياً أو سردياً، بل قد يُنظر إليه كخيار استراتيجي يُجنّب الحكومة الدخول في متاهة توصيف كيانات صغيرة غامضة، ويفتح لها بالمقابل هامشاً أوسع في إدارة الرواية والردّ ضمن إطار "مألوف ومتفهَّم"، وربما يُرسل إشارات ضمنية لأي أفراد أو مجموعات قد تفكر لاحقاً في سلوك مسار مشابه.

كما قد يُضاف بُعدٌ ثالث ذو طابع دولي: إذ أن ربط أي هجوم بتنظيم "داعش" يمنح الحكومة السورية مظلة دعائية وأمنية أوسع، ويُكسبها شرعية ودعماً إضافياً في الرد الأمني الصارم، أمام جمهور دولي لا يزال يصنّف "التنظيم" كتهديد عالمي مشروع الاستهداف.

في المقابل، لم تقتصر الرواية الرسمية على تحميل "داعش" المسؤولية بشكل مباشر، وإنما حملت بين طياتها اتهامات غير مباشرة لاحتمالية ضلوع أطراف أخرى في التفجير. فعلى الرغم من أن وزارة الداخلية لم تحدّد رسمياً تورّط أطراف أخرى بحسب التحقيقات الأولية. لكن، التركيز على أن "المُنفّذ جاء من مخيم الهول" الذي يقع تحت سيطرة "قسد" حمل اتهاماً ضمنياً لقوات "سوريا الديمقراطية" باحتمالية الضلوع في هذا التفجير. خاصة وأن "قسد" لديها سوابق في هذا الموضوع، إذ لطالما أشارت تقارير ودراسات محلية ودولية حول تورُّط قيادات وعناصر من "قسد" في تجارة معتقلي "داعش" وتجنيد بعضهم لأغراض أمنية مختلفة، شملت قبل سقوط النظام تنفيذ تفجيرات واغتيالات ضمن مناطق سيطرة المعارضة في ريف حلب الشمالي([8]).

من جهة أخرى، أشارت وزارة الداخلية خلال بيانها إلى احتمالية تقاطع المصالح بين تنظيم "داعش" وغيره من المجموعات المناوئة للحكومة كـ"فلول النظام". ورغم عدم إشارة الحكومة بعد لاحتمالية تورط أطراف خارجية، إلا أن معيار تقاطع المصالح حول استهداف الحكومة الجديدة لايقتصر على أطراف داخلية، إضافة إلى إشارة الرئيس الشرع في معرض تعليق مقتضب على التفجير خلال اجتماعه بوجهاء محافظة القنيطرة، بأن "هناك دول غير مرتاحة للتحول الحاصل في سورية". وفي هذا السياق، فإن ذكر منصب الشخص المسؤول عن العملية (أمير الصحراء) قد يشير إلى دوره السابق في قيادة نشاط "داعش" في البادية الممتدة بين العراق وسورية، وهذا قد يتقاطع بشكل ما مع تموضع ونشاط إيران السابق في سورية، حيث كانت البادية مرتكزاً وممراً مهماً لمليشياتها وشبكاتها، خاصة وأن المنطقة قد سجَّلت خلال السنوات الماضية عشرات العمليات المُلتبسة التي نُفِذَت تحت اسم "داعش" واستهدفت عشائر عربية في المنطقة أو جامعي الكمأة، وسط اتهامات من أهالي المنطقة للمليشيات الإيرانية بتنفيذ تلك المجازر تحت اسم "داعش"([9]).

تنبع جميع التأويلات والتحليلات من ثغرات الرواية الرسمية، أو عدم اكتمال المعلومات المتاحة مقارنة بالمعطيات المحيطة بالحدث. وتجدر الإشارة، إلى أن معيار تقاطع المصالح قد يشمل أطرافاً متعددة، داخلية وخارجية، لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في استهداف السُلطة الجديدة في دمشق. ومن جهة أخرى، توجد أطراف قد لا تكون متورطة بشكل مباشر، لكنها قد تستفيد من تداعيات التفجير. على سبيل المثال، ورغم إدانة موسكو الرسمية للعملية وتصنيفها إرهاباً يستهدف الاستقرار، إلا أن روسيا قد تستثمر هذا الحدث لاحقاً لتعزيز دورها التاريخي-الرمزي كحامية للمسيحيين الأرثوذكس في سورية، لا سيما في ظل سعيها لاستمرار  وجودها العسكري في الساحل السوري وفي قاعدة شرق الفرات، أي مناطق تواجد أقليات عرقية ودينية تعيش حالة أمنية-سياسية قلقة مع الحكومة الجديدة.

التفاعل الحكومي والاستجابة الرئاسية

شهد اليوم الأول للتفجير استجابة وتفاعلاً حكومياً واسعاً استمر زخمه لأيام، سواء عبر توجُّه بعض الوزراء والمسؤولين إلى مكان التفجير والمستشفيات وإبداء تضامنهم، أو عبر بيانات وتصريحات المؤسسات والوزارات التي أدانت التفجير وأبدت تضامنها الكامل مع ضحاياه، وعلى رأسها الخارجية السورية، التي أصدرت بياناً في يوم التفجير 22 حزيران، مُحمّلة "تنظيم الدولة"/داعش المسؤولية، بحسب التحقيقات الأولية، كما أورد البيان([10])، وذلك قبل المؤتمر الصحفي الذي عقدته وزارة الداخلية في 24 حزيران.

وفي سياق الاستجابة الحكومية، جاء تفاعل الرئيس أحمد الشرع في اليوم التالي لتفجير كنيسة مار إلياس 23 حزيران، عبر اتصال هاتفي مباشر مع وكيل بطريركية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، المطران رومانوس الحنّاة،  وتقديمه التعازي وتعبيره عن التضامن مع الكنيسة وأسر الضحايا، ووصف ما جرى بأنه "محاولة يائسة لضرب الوحدة الوطنية"([11])، وبدوره المطران تقبل التعازي ودعا الشرع للزيارة، ثم جاء بيان من رئاسة الجمهورية في اليوم نفسه يؤكّد على ذات المواقف. ورغم هذه الاستجابة، إلا أن تفاعل دائرة الرئاسة ظل محصوراً في بعده البروتوكولي-الرمزي، ولم يترجم إلى خطوات أعمق توازي حجم الحدث وأبعاده السياسية والأمنية والمجتمعية.

وقد عكست تصريحات صادرة عن بعض القيادات الروحية المسيحية انطباعاً مباشراً بأن الاستجابة لم تكن على مستوى التوقعات أو الحدث، بما في ذلك توصيفها بأنها "غير كافية" على لسان بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، يوحنا العاشر يازجي، الذي "حمَّل الحكومة مسؤولية ما حدث" خلال مراسم الجنازة يوم 24 حزيران، وقال: "بكل محبة، وبكل احترام وتقدير سيادة الرئيس، تكلمتم البارحة هاتفياً... لتنقلوا لنا عزاءكم.. لا يكفينا هذا"، وسط تصفيق من الحضور([12]). وقال: يازجي "إنه تلقى مكالمة من الحكومة يقولون بها إنهم سيعلنون الحداد العام في سورية جراء تفجير الكنيسة، لكن ذلك لم يحصل، وتابع حديثه: "نحن كمسيحيين لا نريد أن يتباكى علينا أحد، وأُعلن هذا اليوم يوم حدادٍ على الحكومة"، مشيراً أن "هذه الجريمة النكراء هي الأولى منذ عام 1860 (الطوشة)، ولا نقبل أن تحصل في أيام الثورة السورية والسُلطة الحالية". كما لفَتَ الحكومة إلى الأوضاع الاقتصادية، مُعبّراً عن أمله أن "تعمل على إنجاح أهداف الثورة السورية"([13]).

التصريحات السابقة، وإن صدرت عن شخصية لم تُبدِ مواقف واضحة من جرائم نظام الأسد سابقاً بحق المجتمع السوري، بما فيها استهداف وقصف الكنائس ودور العبادة؛ إلا أنها عكست في هذا الموقف واقعاً وتوقعات أكبر على مستوى استجابة الحكومة ودائرة الرئاسة بالذات.

بالمقابل، تداولت الدوائر غير الرسمية المقرّبة من الحكومة تبريرات عدة لعدم زيارة الرئيس الشرع موقع التفجير أو ضحاياه، على رأسها المخاوف الأمنية؛ وهو مُبرِر يبدو واقعياً بالنظر إلى الوضع الأمني في العاصمة، خاصة فيما يتعلق بأمن الشرع ذاته خلال هذا الظرف الحساس، إذ تحدثت تقارير، محلية ودولية، خلال الأشهر الماضية عن إحباط عدة محاولات لاغتياله. كما جاءت بعض التبريرات متصلة بالدلالات الرمزية والحذرة من المبالغة في "تمييز الضحايا"، سواء لناحية المقارنة مع ضحايا موجات العنف السابقة في الساحل وجرمانا وصحنيا وأداء الرئاسة خلالها، أو لناحية احتمالية استغلال ذلك من قبل المجمواعات المُتطرفة أو المُنفِّذة، لتعزيز وشحن خطابها ضد الشرع انطلاقاً من "تمييز الضحايا".

كل الاعتبارات السابقة، ورغم وجاهة بعضها خاصة المتعلقة بالسياق الأمني الحسّاس الذي تمر فيه البلاد، إلا أنها لا تعفي مؤسسة الرئاسة من اتخاذ خطوات رمزية بديلة، مثل تنظيم زيارة للجرحى في المستشفيات، الاجتماع مع أسر الضحايا في القصر الجمهوري، أو إصدار خطاب رسمي واضح وحازم ضد "الإرهاب"، غير موجّه للمسيحين فقط، بل لكل المكوّنات، خاصة وأن التفجير يوجّه رسالته لكل السوريين بمختلف طوائفهم وينذرهم "بسيناريو" مُقلق يهدد أمنهم واستقرارهم، ويضرب قلب صورة السُلطة الجديدة وسرديتها حول الاستقرار  وحفظ أمن مواطنيها على اختلاف طوائفهم. وبهذا المعنى؛ لعلّ رئاسة الجمهورية كانت الأولى بتصدير خطاب مباشر، على اعتبار أن التفجير كان موجّهاً لها بشكل غير مباشر عبر المكوّن المسيحي.

من جهة أخرى،فإن تعبير بعض القيادات الروحية المسيحية عن رغبتها في تدخل مباشر أو خطوات إضافية من الرئيس، لا يعكس بالضرورة موقفاً احتجاجياً، بل ينطوي على تعبيرات أكثر عمقاً تتعلق، بشكل أو بآخر، بالتعويل على شخصية الشرع خلال هذه المرحلة، أكثر من بعض التشكيلات العسكرية التي يقودها أو بعض المكوّنات التنفيذية التابعة للحكومة المركزية. ولعلَّ هذا الأمر يُلحظ منذ سقوط الأسد وصعود الشرع، ليس على مستوى المكوّن المسيحي فقط، بل على مستوى قطاعات وشرائح واسعة من مختلف المكوّنات السورية بما فيهم السُنة، وقد ظهرت تلك التعبيرات بصور مباشرة أو غير مباشرة في حوادث مختلفة فردية وجماعية.

ولعلّ هذا التعويل أو الأمل خلال المرحلة الانتقالية الحساسة، ليس مبنياً فقط على الموقع السياسي للشرع كرأس للدولة، وما أبداه من تعهدات وخطاب مرن ومقبول، بل أيضاً نتيجة إدارك غالبية السوريين بأن المفتاح الإقليمي والدولي مرتبط به شخصياً، وهو ما يجعل الرهان عليه متقدماً على أي قوى مسلحة أو فصائل أخرى تفتقد الوحدة التنظيمية أو الثقة على المستوى الوطني، خاصة مع التجارب السابقة التي مرت بعد التحرير، تحديداً في الساحل السوري.

بالمقابل، يبدو أن تلك التعبيرات السياسية-الاجتماعية التي ظهرت عن قيادات روحية، واختلطت بغيرها من التفاعلات اللاحقة على المستوى الإعلامي والشعبي؛ لم تُقرأ وفقاً للمنظور السابق، إذ جاء تصريح آخر لرئيس الجمهورية خلال اجتماع جرى في 26 حزيران 2025 مع وجهاء محافظة القنيطرة، حيث أشار الرئيس خلال سياق الاجتماع المصوّر إلى التفجيرات التي حاولت أن تطال مقاماً شيعياً وتفجير الكنيسة الأخير، وبأن هناك دول غير راضية عن التحوّل، موضحاً أن "الشعب أوعى من الانزلاقات الطائفية"، وألمح في هذا السياق إلى "بعض التصريحات الانفعالية التي قد تزيد تأزيم الموقف"، وأن "الكبار يجب أن يكونو عقلاء وحكماء، وفي بعض الأحيان تخونهم الحكمة ضمن أكثر المواضع حاجة إليها". ثم "أثنى على جهود القوات الأمنية في كشف ملابسات الحدث والقبض على الخلية في أقل من 24 ساعة، وهذا يعد إنجاز بالنسبة لأجهزة الدولة الناشئة"([14]).

على الرغم من أن التصريحات السابقة حاولت وضع الحدث ضمن سياقه الذي يستهدف الدولة عبر مختلف مكوّناتها، وربطه مع جهات خارجية غير راضية عن التحوّل في سورية؛ إلا أن التعاطي مع رمزية الحدث عبر التعليق على تصريحات أشخاص على هامش اجتماع محلي، أفقده كثيراً من رمزيته السياسية، والتي كانت فرصة لتجاوز تصريحات المرجعيات التقليدية والتوجُّه بخطاب مباشر إلى المكوّنات الشعبية، بما يتجاوز محدودية الاستجابة الرئاسية الأولى ويخرجها إلى مساحة أوسع، كفرصة لتجديد الخطاب الوطني للدولة وتعزيز علاقتها مع مختلف مكوّناتها في لحظة حرجة. فالقيادة السياسية ليست مجرد جهة تنفيذية، بل جهة مؤطِّرة للمعنى في لحظات الصدمة، والمسؤولية هنا مضاعفة عند استهداف مكوّن ديني برمزيته وموقعه الوطني، خاصة إن كان الاستهداف موجهاً للدولة/السُلطة عبر هذا المكوّن.

من جهة أخرى، ساهم أداء الإعلام الرسمي، كأحد حوامل الخطاب، في إرباك التفاعل السياسي-الإعلامي للحكومة والذي انعكس بصورة مباشرة على الفضاء السوري العام. فرغم أن الاستجابة الإعلامية الرسمية للتفجير اتسمت بالأداء المقبول من حيث سرعة التغطية والانخراط المُبكّر في متابعة الحدث – إلا أنها لم تخلُ من ثغرات عدة، أبرزها ما يتصل بالارتباك في توصيف الضحايا، بين من نُعت بـ"شهيد" ومن لم يُمنح هذا التوصيف، في مسألة شديدة الحساسية تتصل بالعدالة الرمزية للضحايا وذويهم، وبقدرة الدولة على توحيد معاييرها القيمية في مواجهة الإرهاب دون تمييز. كما برزَت ثغرات أخرى في إدارة بعض الحوارات الإعلامية وتوصيف بعض الضيوف بطوائفهم في لحظة تستدعي خطاباً وطنياً جامعاً، يعلو على التصنيفات الفرعية.

كشفَت تلك الثغرات عن ارتباك بُنيوي في منظومة الخطاب الإعلامي الرسمي، في لحظة حرجة كانت تتطلب وضوحاً وانضباطاً على مستوى الرسائل. وبقدر ما يبدو بعض هذه العثرات– في ظاهرها – تقنية أو ناتجة عن محدودية الخبرة لدى جهاز إعلامي حديث نسبياً، إلا أن تكرارها وتراكمها في ظرف أمني حساس، قد يفاقم من أثرها السلبي على ثقة الجمهور، ويُفتح الباب لتفسيرات لا تخدم صورة الحكومة أو صدقيتها العامة.

ارتدادات سياسية اجتماعية في سياق بناء الدولة

لم يقتصر صدى تفجير مار إلياس على المشهد الميداني، إنما امتدت آثاره أبعد من ذلك، حيث فجّر مشاعر تضامن وغضب طبيعية في سياقها، كما أثار أسئلة عدة داخل المجتمعات المسيحية حول علاقتها بالدولة، وبمرجعياتها التقليدية، وموقعها على خارطة العقد الاجتماعي الناشئة. وفي الوقت نفسه، حفَّز تفاعلات سياسية-اجتماعية داخلية، تجلّت في بيانات ومواقف متباينة صدرت عن شخصيات وتجمعات سورية-مسيحية.

أثار تفجير كنيسة "مار إلياس" نقاشات متباينة الحدة امتدت إلى مختلف البيئات السورية، ولم تقتصر تفاعلاتها على المجتمع المسيحي وحده، بل انعكست على الفضاء السوري العام بمختلف مكوّناته السياسية والاجتماعية. وقد برزَت بوضوح في منصات التواصل الاجتماعي، حيث تصاعدت لهجة الخطاب الطائفي بين "مسلمين ومسيحيين"، وأُعيد إنتاج ثنائية "الأقليات والأكثريات" بشكل انفعالي وخطر. بينما اتَخذَت بعض التفاعلات والنقاشات الميدانية صيغ أكثر مكاشفة، بلغَت ذروتها الرمزية في حوار بين رجل دين مسيحي وبعض المحسوبين على الحكومة، تضمَن جملة إشكالية خرجت في سياق تعزية (انت بتجيب عشرين ولد، أن بجيب ولد ولدين)، لكنها استُثمِرَت لاحقاً كأداة تعبئة ضمن بيئة مستعدة للاشتعال الرمزي. وقد كشَفَت تلك التفاعلات هشاشة البُنية الاجتماعية العامة في لحظات الأزمات، وآثار التصدعات التي لحقت بها خلال أربعة عشر عام، وعن خطورة تحوّل عبارات انفعالية عابرة إلى وقود للاستقطاب في سياق سياسي-أمني غير مستقر.

إنّ تطور تلك الأسئلة والتفاعلات السياسية والاجتماعية التي تُثار في محاولة للبحث عن إجابات، سواء داخل المجتمع المسيحي أو غيره، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأداء الحكومة في المرحلة القادمة. وبالنظر إلى طبيعة تفجير مار إلياس وأهدافه، فلا يبدو أن هذا الحدث سيكون الأخير في مسار استقرار الدولة السياسي والأمني والاجتماعي. لذلك، من المهم أن تأخذ السُلطة الجديدة بعين الاعتبار الارتدادات السياسية والاجتماعية للحدث، وأن تلحظها بمنظور أوسع يراعي معطيات واعتبارات عدة، لعلّ أبرزها:

المقاربة الأمنية ضرورة، لكنها لا تكفي:

يؤكد تفجير "مار إلياس" مرة أخرى، بأن المقاربة الأمنية كاستجابة في التعاطي مع هذا النوع من الهجمات وارتداداتها المُركّبة لاتكفي، سواء في التعامل مع التنظيمات المهاجمة أو مع المجتمعات المُستهدَفة. ففي ما يتعلق بمواجهة نشاط "داعش" والجماعات المحتملة في فلكه، يجب اعتماد مقاربة تأخذ العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداعمة والمُحفّزة لنشاطه، إلى جانب استحداث إطار قانوني واضح ورادع يفعّل آليات المحاسبة.

بالمقابل، فإن الاستجابة الأمنية لا تكفي أيضاً في التعامل مع المجتمعات المتضررة من هذه الأعمال، ولكن يجب أن تتجاوزها إلى فهم عميق للتفاعلات الاجتماعية والسياسية الجديدة داخل المجتمع المسيحي أو غيره، مع تبني سياسة واضحة تعزّز قيمة التنوّع وتمنع تحوّله إلى عامل تهديد غير محسوب في معادلة الاستقرار الوطني الناشئة.

العلاقة مع المجتمعات المحلية:

سعى تفجير "مار إلياس" إلى محاولة الدفع بالمجتمع المسيحي نحو خانة المجتمعات المحلية التي تتسم، حتى الآن، بعلاقات قلقة أو حذرة أو متشككة تجاه السُلطة الجديدة، إلى جانب مكوّنات أخرى كالعَلويين والدروز وبعض الفئات الأخرى. وفي هذا السياق، ينبغي على الحكومة أن تأخذ هذه الحقيقة بشكل جديّ، وتتبنى مقاربة تهدف إلى إعادة هيكلة علاقاتها بالمجتمعات المحلية، على المستويين الرسمي وغير الرسمي، لا سيما عبر المؤسسات التمثيلية المرتقبة مثل مجلس الشعب، والذي من المتوقع أن "تُعيّن" فيه الحكومة 30% من "وجهاء وأعيان" تلك المجتمعات.

هذا الواقع يستدعي قراءة دقيقة لخارطة الفاعلين، سواء في المجتمعات المسيحية أو غيرها، مع الحرص على عدم تهميش شخصيات فاعلة أو تمثيل من لا يستحق، لأن ذلك سيعزّز من حالة عدم الثقة ويعيد إنتاج إشكاليات سابقة مُختبَرة، ما ينعكس سلباً على سُلطة الدولة وأدائها، لصالح المرجعيات التقليدية ذات الصلة والتأثير في الشارع، خاصة الرموز الدينية. وهذا بدوره يضعف خطاب الحكومة ويشجّع التفاف المجتمعات المحلية حول رموزها التقليدية، كما شهدت بعض المناطق وما زالت.

في الوقت نفسه، لا يعفي ذلك من ضرورة استكمال استحقاقات الشرعية عبر التمهيد لإجراء انتخابات حقيقية تُمكّن المجتمعات المحلية من التعبير عن نفسها واختيار ممثليها، والمشاركة الفعلية في الإدارة المحلية، ليس كنوع من التمثيل الرمزي للتنوّع، بل كشركاء حقيقيين في بناء دولة.

تمكين سردية الثورة:

خلال عملية إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمعات المحلية، بتنوّع خلفياتها الطائفية والسياسية، تبرز ضرورة مراعاة مسألة محورية، تتمثل في أن بعض هذه المجتمعات، التي بقيت لفترات طويلة تحت سيطرة النظام، لا تزال تنظر إلى سردية الثورة بوصفها "وافدة وغير أصيلة"، وتفتقر بالتالي إلى الشرعية السياسية والاجتماعية الكافية التي تمكّنها من التحوّل إلى سردية مهيمنة ثقافياً. وربما يُفسّر ذلك جانباً من مستويات الاحتقان السياسي والاجتماعي التي أعقبت تفجير "مار إلياس"، والتي عبّرت عن ممانعة واضحة إزاء "خطاب التضامن" المُرتكز إلى رمزية التضحيات خلال السنوات الأربع عشرة الماضية. وهذه الظاهرة لا تقتصر على قطاعات من المجتمعات المسيحية فحسب، بل تمتد أيضاً إلى بيئات سُنية وغيرها.

في هذا السياق، من المهم بمكان إعادة النظر بعمق في الدعوة التي أطلقتها القيادة السياسية عقب التحرير، والتي دعَت إلى "إنهاء الثورة لصالح الدولة"، وإن كان لها سياقها السياسي آنذاك. إذ إن ترجمة هذا الشعار بشكل واقعي وفعّال لا يمكن أن تتم إلا بعد ترسيخ سردية الثورة ثقافياً واجتماعياً، لا بوصفها خطاباً قسريّاً أو إقصائياً أو مظلومية، بل عبر إعادة إنتاج قيمها الأساسية (الكرامة، الحرية، العدالة) والتي تُعدُّ قيماً مشتركة بين أغلب السوريين وأرضية مقبولة لبناء عقد اجتماعي جامع، والسعي لترجمتها عملياً عبر خطاب الدولة وأداء مؤسساتها، بشكل يكرّسها ولا يُفرغها من مضمونها أو يحوّلها مع الوقت إلى غطاء شعاراتي ("وحدة، حرية، اشتراكية")، وإنما على نحو يجعل منها أساساً لخطاب وطني جامع، قادر على النفاذ إلى الوجدان العام وخلق المعنى وبناء هيمنة ثقافية متماسكة (بالمعنى "الغرامشي" للهيمنة الثقافية، الذي يرى أنها لا تتم بالقوة فقط، بل عبر السيطرة الثقافية والرمزية).

عموماً، فإن تبني السُلطة/الدولة لسردية الثورة ليس خياراً، وإنما استحقاق وضرورة سياسية واستراتيجية مُلحّة، تفرضها متطلبات إدارة مجتمع متعدد الطوائف والفئات، وضمان استقرار اجتماعي وسياسي قد يمتد خلله إلى أبعاد الأمن القومي، خاصة في ظل عدم وجود سردية بديلة قادرة على ملئ الفراغ وإنتاج خطاب سياسي وطني جامع.

من هذا المنطلق، يُنتظر من الحكومة الجديدة أن تدفع بهذا الاتجاه من خلال مختلف أدواتها السياسية والثقافية والمؤسساتية، لا سيما في تعاملها مع الاستحقاقات الوطنية القادمة، وعلى رأسها الملفات الأكثر حساسية وتأثيراً في الوعي الجمعي، في مقدمتها ملفي العدالة الانتقالية والمفقودين، واللذان يشكلان ركيزتين محوريتين في تمكين سردية الثورة السورية وتكريسها. بالمقابل،  فإن آثار هذا التكريس لن تظهر فقط على مستوى الملفات ذات البعد الحقوقي-الرمزي، وإنما ستمتد لاحقاً إلى مسائل جوهرية وحسّاسة تتعلق بالسلم الأهلي وإدارة التنوّع، وخلق غطاء شرعي وداعم لمواجهة التنظيمات المتطرفة، على رأسها "داعش"، خاصة مع تموضع الأخير  كطرف مرفوض كُلياً في سياق سردية الثورة السورية، وفقاً لتجارب سابقة ودموية مع هذا "التنظيم" ومايدور في فلكه،

وفي هذا السياق، ومع الجهود الجارية لتشكيل "هيئة العدالة الانتقالية"، وازدياد التوقعات المعقودة على دورها في دعم معادلة الاستقرار خلال المخاض الانتقالي، يبدو من المهم أن تعيد الجهات المعنية النظر في نطاق عمل الهيئة، بحيث لا يقتصر على الجرائم المرتكبة من قبل النظام فحسب، بل يمتد ليشمل الانتهاكات الواسعة التي ارتكبها تنظيم "داعش" وغيره بحق السوريين في مختلف المناطق. إذ لا يخفى ما يحمله هذا الملف من حساسية أمنية وسياسية وقانونية واجتماعية، خاصة في ظل ما قد يَنتُج عنه مستقبلاً من إشكاليات مرتبطة بالسجون، والمخيمات، وملفات المحاسبة.


 

([1]) ارتفاع ضحايا الهجوم الإرهابي على كنيسة مار إلياس، الموقع الرسمي لوزارة الصحة السورية، 22 حزيران/يونيو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/DrvVN

([2])  مؤتمر صحفي لوزارة الداخلية السورية حول تفجير مار إلياس، التفلزيون العربي، 24 حزيران/يونيو2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/vlb3e

 ([3])ساشا العلو ومحمد أديب عبد الغني، تنظيم الدولة ما بعد التمكين: مقاربة حوامل النشاط وملامح البنية ومستويات التوظيف، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 18 آذار/مارس 2024، ص ص: https://2u.pw/NWeNr

 ([4])عمليات تنظيم الدولة منذ سقوط النظام في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 وحتى، رصد خاص بمركز عمران للدراسات الاستراتيجية.

([5])  تجدر الإشارة أنه في آذار/مارس الماضي، وقع إشكال أمام الكنيسة التي استهدفها الهجوم، بعدما اعترض سكان على توقف سيارة دعوية بثّت عبر مكبر الصوت أناشيد إسلامية وأجبروا ركابها على المغادرة. وتدخل الأمن العام لاحقاً لاحتواء الوضع. للمزيد انظر: "سرايا أنصار السنة" تتبنى الهجوم على الكنيسة في دمشق، DW، 24 حزيران/يوينو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/d88xg

 ([6])حول هوية أنصار السنة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ورقة غير منشورة.

 ([7])هارون ي.زيلين، ،تفجير كنيسة دمشق: من هي سرايا أنصار السنة، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 27 حزيران/يوينو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/vJYP9

 ([8])ساشا العلو وفاضل خانجي وشادي أبو فجر ، الإدارة الذاتية: مدخل قضائي في فهم النموذج والتجربة، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، 29 نيسان/أبريل 2021، متوافر على الرابط التالي: https://2u.pw/hZFji

([9]) ساشا العلو ومحمد أديب عبد الغني، تنظيم الدولة ما بعد التمكين: مقاربة حوامل النشاط وملامح البنية ومستويات التوظيف، مرجع سبق ذكره.

([10]) للاطلاع على بيان وزارة الخارجية السورية، انظر: وكالة الأنباء السورية سانا، 22حزيران/يونيو 2025، متوافر على الرابط: https://2u.pw/n2f9e

([11]) الرئيس الشرع يعزي المطران رومانوس الحنّاة بضحايا تفجير كنيسة مار إلياس، الإخبارية السورية، 23 حزيران/يونيو 2025، متوافر على الرابط:  https://2u.pw/3Wn4m

([12]) "تعازي الرئيس غير كافية" أكبر رجل دين مسيحي في سورية ينتقد الشرع بعد الهجوم على كنيسة بدمشق، فرانس 24، 25حزيران/يونيو، متوافر على الرابط: https://2u.pw/JHeaM

([13]) البطريرك يازجي يحمل السُلطة مسؤولية تفجير مار إلياس، عنب بلدي، 24 حزيران/يونيو 2025، متوافر على الرابط التالي: https://2u.pw/PwS54

([14]) لقاء الرئيس الشرع بأعيان ووجهاء القنيطرة والجولان، الإخبارية السورية، 26 حزيران/يونيو متوافر على الرابط التالي: https://2u.pw/fYc8g

الإثنين آذار/مارس 24
يأتي هذا الكتاب في ظل النقاش المحتدم حول مفهوم التعافي المبكر ومدى ملائمة المرحلة التي تعيشها سورية لطرح هذا المفهوم والخوض فيه، في ظل غياب ظروف عدم الاستقرار اللازمة للبدء…
نُشرت في  الكتب 
الأربعاء كانون1/ديسمبر 18
أطلق مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، ومعهد السياسة و المجتمع، كتابه الجديد بعنوان: “حرب الشمال: شبكات المخدرات في سوريا، الاستجابة الأردنية وخيارات الإقليم”، ويحلل الكتاب ظاهرة شبكات تهريب المخدرات المنظمة في…
نُشرت في  الكتب 
الإثنين تموز/يوليو 22
المُلخَّص التنفيذي: قسَّمت الدراسة مبناها المنهجي وسياقها المعلوماتي والتحليلي إلى فصول ثلاثة، مثّل الفصل الأول منها: مدخلاً ومراجعة لتاريخ القبائل والعشائر في الجغرافية السورية بشكل عام وفي محافظتي حلب وإدلب…
نُشرت في  الكتب 
يرى المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف، في تصريح صحفي لجريدة عنب…
الثلاثاء نيسان/أبريل 02
شارك الباحث في مركز عمران للدراسات الاستراتيجية الأستاذ سامر الأحمد ضمن برنامج صباح سوريا الذي…
الأربعاء تشرين2/نوفمبر 29
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في فعاليات المنتدى الاقتصادي الخليجي…
الجمعة تشرين2/نوفمبر 24
شارك المدير التنفيذي لمركز عمران للدراسات الاستراتيجية الدكتور عمار قحف في رؤية تحليلية للحرب على…
الإثنين تشرين2/نوفمبر 20