في الآونة الأخيرة، أصدر بشار الأسد سلسلة من المراسيم ذات الصلة بنظام الخدمة العسكرية، تطرح تساؤلات حول دلالاتها العسكرية وأبعادها سياسياً ومجتمعياً. توحي قراءة أولية لهذه المراسيم بأنها، مؤشرات على إصلاح النظام مؤسسته العسكرية وفق توقيته وأجندته الخاصة، لتتماشى وتستجيب لوقائع وتحديات ما بعد عام 2011، إصلاح تبدو فعاليته مثار شكوك جدية.
لم يكن جيش النظام السوري مهيئاً للقتال عند إندلاع الحركة الاحتجاجية عام 2011، يعود ذلك إلى تنظيمه وبنيته وعقيدته المخصصة لقتال جيوش تقليدية، فضلاً عن عقود من الفساد وشبكات من الزبائنية والمحسوبية، أضعفت قدراته القتالية، ناثرة بذور السخط داخل تشكيلاته وبين أفراده. ظهرت مكامن الضعف داخل جيش النظام خلال مواجهاته الميدانية مع فصائل المعارضة المسلحة، وبات واضحاً إنخفاض قدرته على التعبئة والحشد، مع تنامي خسائره البشرية وحركة الانشقاقات داخله، ليكون الحل الاعتماد على طيف من الميليشيات كقوات مشاة رديفة للجيش كالدفاع الوطني، وعلى الدعم المباشر من الحليفين الروسي والإيراني. عززت الخطوات السابقة قدرة الجيش على الصمود في مواجهة خصومه، لكنها بالمقابل خلقت له تحديات جدية على المدى البعيد تتعلق بــ، التنظيم والتعبئة والدمج والسيطرة.
أدركت روسيا عقب تدخلها المباشر في أيلول 2015، حاجة جيش النظام للإصلاح بعدما تبين لها إنخفاض كفاءته في القيادة والسيطرة، لتشرع في عملية إصلاح مسترشدة بالتغيرات التي أدخلها الجنرال فاليري جيراسيموف على الجيش الروسي منذ العام 2008، ضمن ما يعرف بالاستعداد لحروب "الجيل الجديدة أو الهجينة". كان من تجليات الدور الروسي إنشاء الفيلقين الرابع (2015) والخامس (2016) والفرقة 25 مهام خاصة (2019)، كهياكل عسكرية ذات مركزية مرتبطة بالجيش غايتها، استيعاب الميليشيات وإحكام السيطرة عليها، فضلاً عن توظيفها كقوات ذات قدرة عالية على التدخل السريع للتعامل مع التهديدات الناشئة. لم يبدي جيش النظام ترحيباً بالدور الروسي، وكثيراً ما قاد الإنخراط المباشر للمستشارين والضباط الروس في عمليات إصلاح التشكيلات العسكرية إلى احتكاكات سلبية بين الطرفين، دفعت النظام للطلب من الضباط الروس قصر دورهم على الجانب الاستشاري دونما الإنخراط في عملية تنفيذ الخطط، وتركها للجيش لتنفيذها وفق أجندته الخاصة، هذا ما يفسر تواجد الضباط الروس كمشرفين في المشاريع التكتيكية العملياتية، المنفذة منذ العام 2021 من قبل تشكيلات نخبة النظام كالحرس الجمهوري والفرقة الرابعة، وتلك المُشكلة روسياً كالفرقة 25 مهام خاصة.
كان للنظام منظوره الخاص لعملية إصلاح المؤسسة العسكرية، إذا عمل بداية على احتكار سردية الإصلاح بمعزل عن حليفيه، وبأنها عملية متصلة بالإصلاح الإداري المعلن في حزيران 2017، وإن سبقته زمنياً بتوجيهات الأسد مباشرة. وبخلاف الخطط الروسية التي ركزت على مأسسة الجيش، وتحسين القيادة والسيطرة وإدارة القتال على المستويات كافة بما لا يتوافق مع أجندة النظام كلياً، ركز الأخير اهتمامه على القضايا ذات الصلة بالعنصر البشري للمؤسسة العسكرية، أي ما يتصل بعمليات نزع السلاح وتسريح وإعادة دمج الميليشيات التي طبقها بشكل بدائي مما أفرز منظومة عسكرية هجينة، وتلك المتصلة بنظام الخدمة العسكرية عبر إصدار سلسلة من مراسيم العفو وتنظيم الخدمة الاحتياطية وعقود التطوع. قد يكون الدافع مما سبق، الرغبة في ترشيق الجيش للتقليل من الكلف الاقتصادية في وقت يعاني فيه من أزمة اقتصادية خانقة، كذلك ضمان مسألة ولاء المقاتلين التي تؤرقه سواء من ناحية الميليشيات المنحلة أو القائمة أو من ناحية المجندين الإلزاميين، واحتواء مطالب حاضنة النظام الموالية المتذمرة من الخدمة العسكرية غير المحددة زمنياً، ولا يستبعد بأن تكون نقطتي الميليشيات ونظام الخدمة العسكرية (الاحتياطية والإلزامية والتطوع)، جزءاً من مسار تفاوضي قائم أو ممكن توظيفه بين النظام والدول العربية والغربية فيما يتصل بجزئية مخاوف اللاجئين من الخدمة العسكرية، كذلك الترويج ودعم مساعي النظام تطوير الجيش ليكون احترافياً قائماُ على التطوع أكثر من التجنيد الإلزامي تبعاً_ لعقيدة جيراسيموف وإن لم يسميها علناً_، ولديه من القدرات ما يكفي للتعامل مع التهديدات التي تتضمنها الحروب الهجينة، وذلك ما جاء على لسان اللواء أحمد سليمان، المدير العام للإدارة العامة لوزارة الدفاع السورية.
تبقى جهود النظام لإصلاح المؤسسة العسكرية مثار شكوك، مرد ذلك النهج الإيراني في تشكيل شبكات أفقية من ميليشيات مرتبطة بها توفر مزايا مالية لا يبدو النظام قادراً على مجاراتها، كذلك عدم تناسق أولويات النظام في إصلاح الجيش مع الأولويات الروسية، وبأنها مجتزأة وغير متكاملة على النطاق العام مع إصلاح المؤسسة العسكرية ككل، فضلاً عن مخاوف بأن تقود هذه العملية في ظل افتقاد الخبرات التقنية والتمويل اللازم إلى نتائج عكسية، ولعل الأهم أن إصلاح المؤسسة العسكرية يجب أن يتم وفق رؤية ومحددات سورية وطنية، وفي ظل بيئة من الاستقرار السياسي حتى يؤتي الإصلاح أكله لإعادة إنتاج مؤسسة عسكرية تمثل كل السوريين، وهي أمور متعذرة حالياً.