كانت الانقلابات العسكرية متتالية ومتتابعة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ومنها انقلابُ لويس ميزا في بوليفيا عام 1980، حيث لم يستطع ميزا تحسينَ اقتصادِ بلاده أو إيجاد سبل لرفع المستوى المعيشي للمواطنين، فعمل على تحويل الدولة إلى مصنعٍ ومتجرٍ للمخدرات وتصديرها إلى أميركا اللاتينية بالتزامن مع مجازره ضد الشعب البوليفي عبر مؤسساته القائمة على المخدرات، مما أدى إلى نهاية حكمه بعد عام واحد ومحاكمته لاحقاً بعد 15 عام، وأطلقت الولايات المتحدة الأميركية على النظام البوليفي حينها مصطلح دولة المخدرات “narco-state”، إشارة إلى الدولة التي تستخدم تجارة المخدرات كمصدر اقتصادي أساسي لتمويل نظامها الحاكم واستبداده.
أقرَّ مجلس النواب الأميركي في 21 أيلول 2022 قانوناً ينص على تعطيل وتفكيك إنتاج المخدرات وتجارتها ورَبَطَهُ بشبكات نظام بشار الأسد، وفي خطابه أمام مجلس النواب قال النائب فرينش هيل “نظام الأسد أصبح دولة مخدرات”، وبذلك استجلب النائب توصيفاً مضى على إطلاقه أكثر من 40 عاماً ليصِفَ مدى خطورة الأسد ودوره في عملية تصنيع وتصدير المخدرات ليس فقط باتجاه الدول المجاورة له بل حتى نحو دول المنطقة ككل.
مشرفو المخدرات في مؤتمر تحويل التعليم
عُقدت في نيويورك منتصف أيلول 2022 قمة تحويل التعليم، التي هدفت إلى الارتقاء بالعملية التعليمية حول العالم وصياغة سياسات جديدة من شأنها تعزيز التنسيق بين البلدان المشاركة، ورفع سوية التعليم في البلدان التي تعاني من الأزمات والحروب، وتم توجيه الدعوات إلى الدول، ومن بينها دعوة لنظام الأسد لإرسال مسؤولي التعليم فيها للمشاركة وعقد ورش العمل، وقد ضمَّ وفد النظام خيرة خبرائه في مجال الإشراف على تجارة المخدرات وترويجها في الوزارات والمؤسسات القائمين عليها وهم: دارين سليمان رئيسة الاتحاد الوطني لطلبة سورية، دارم الطباع وزير التربية والتعليم، سومر طاهر رئيس اتحاد شبيبة الثورة ومحمد عزت عربي كاتبي رئيس منظمة طلائع البعث.
حيث عزز وزير التعليم المشارك في القمة من علاقته بشبكات المخدرات عبر ابنه مهاب، الذي هاجمته صفحات مؤيدة معتبرة أنه يملك شبكة كبيرة لتجارة المخدرات مطالبة أباه الوزير بعدم التدخل لإيقاف الإجراءات المطالبة باعتقاله، في حين انتشرت تجارة المخدرات في عدد من المدارس الواقعة تحت سيطرة النظام بشكل علني وعلى مرأى من الكوادر التدريسية والإدارية كما في مدارس مدينة السويداء.
إذ تشكلت شبكات المخدرات هناك في المنشآت التعليمية وتحت حماية الميليشيات المسلحة المرتبطة بالأفرع الأمنية، أما على صعيد تمثيل طلاب التعليم الجامعي في القمة عبر تواجد دارين سليمان، فيُشار إلى أن السكنات الجامعية أصبحت مكاناً لترويج الدعارة والمخدرات ضمن مسيرة “التطوير والإصلاح”، وقد انتشرت فضائح متتالية آخرها محاولة قتل طالبة في السكن الجامعي بجامعة البعث بتورطٍ مباشر من علي حمادي مسؤول فرع الاتحاد الوطني لطلبة سورية في الجامعة، وبذلك جاء وفد نظام الأسد إلى القمة في نيويورك، حاملاً معه خبرته في تحويل مؤسسات البلاد التعليمية إلى حطام بسبب البراميل التي دمرتها وتحويل المتبقي منها إلى مصانع ومتاجر كبتاغون لتمويل مخابراته ومرتزقته.
ثنائية الإرهاب والمخدرات
كشفت تسريبات ويكيليكس عدداً كبيراً من الوثائق المرتبطة بسورية، أحدها كان الاجتماع بين دانييل بنيامين منسّق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية، وفيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري آنذاك في شباط 2011 بمشاركة مدير المخابرات العامة علي مملوك، دار الاجتماع حول الجماعات الإرهابية في العراق، وقد لخصَ مملوك سياسة الأسد في التعامل مع الجماعات المتطرفة بقوله: “النجاح السوري تمثل في اختراق المجموعات الإرهابية، وحصول سورية على ثروة من المعلومات، نحن من حيث المبدأ لا نهاجمهم أو نقتلهم، بل نتمدد داخل هذه المنظمات عن طريق اختراقها بعناصرنا”.
تمثلت سياسة نظام الأسد الهادفة لكسب ود الدول الغربية وإعادة تطبيعها معه خاصة بعد القطيعة التي حلت بينهم وبين الأسد بعد ضلوعه في اغتيال رفيق الحريري ودعمه للجماعات المتطرفة في العراق، عبر تقديم الأسد نفسه على أنه القادر على تفكيك تلك الجماعات التي ساهم هو في وجودها وبذلك انضم إلى حلف مكافحة الإرهاب، بعد أن كان نظامه معبراً للمتطرفين باتجاه العراق، ويشرح دافيد دبليو ليش في كتابه سقوط مملكة الأسد تغير الموقف الأميركي تجاه بشار الأسد من وضع سورية على لائحة الدول المتوقع شن عملية عسكرية عليها بعد العراق، إلى التنسيق معها باعتبارها فاعلاً أساسياً في عملية مكافحة الإرهاب بحكم معرفة النظام واختراقه لتلك الجماعات عبر عناصر أو قيادات تابعة له.
يُعيد الأسد اليوم سلوكه في صناعة الفزاعة ثم إقناع الدول بالتطبيع معه من أجل القضاء عليها ولكن في قضية المخدرات، فتزامناً مع مشاركة نظام الأسد في مؤتمر مكافحة المخدرات في حزيران 2022؛ كانت الجمارك الأردنية تُحبط محاولة تهريب شحنة مخدرات قادمة من سورية باتجاه الأراضي الأردنية، ومع تسارع أخبار إحباط عمليات تهريب المخدرات من سورية، جاء قرار مجلس النواب الأميركي بشكل مباشر تجاه الأسد، معتبراً إياه المسؤول الأول عن كثافة المخدرات القادمة من الأراضي السورية، واستخدم القرار ضمن بنوده قانون Kingpin الذي ينص على محاربة الأشخاص المسؤولين عن تجارة المخدرات حول العالم.
لم يكن الحراك الأميركي منعزلاً عن التحقيقات الغربية بخصوص تورط الأسد بشكل مباشر في عمليات تصنيع المخدرات، فقد نشرت مجلة دير شبيغل الألمانية تحقيقاً حول تورط بشار الأسد بتجارة المخدرات بعد تحقيقات قامت بها السلطات الألمانية مع متورطين تم القبض عليهم، وأكد التحقيق أن التجارة تتم بشكل مباشر عن طريق جيش الأسد وخاصة الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد التي تشرف على تصنيعه وإخراجه من سورية.
ختاماً، يستخدم الأسد اليوم ورقتين في سبيل تطبيع علاقاته مع دول المنطقة والدول الغربية، أولهما استخدام ورقة الجماعات الإرهابية مثل قوات سوريا الديمقراطية وثانيهما ورقة المخدرات لدفع الدول المتضررة للتعاون معه من أجل مكافحتها، مستخدماً إياهما كأوراق أخيرة بعد فشل محاولات روسيا وبعض الدول العربية في إعادته إلى الحضن العربي وتحسين علاقته مع الدول الغربية بالمساعي الدبلوماسية والسياسية، وبعد القانون الأميركي خسر الأسد أحد أوراقه واقتصرت فعالية ملف المخدرات على تأمين مصدر اقتصادي يعوّض بشكل جزئي الانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه في محاولة لإبقائه قائماً إلى حين حدوث متغيرات دولية أو انهياره تماماً.