ملخص تنفيذي
- يبدو القرار في حيثياته الأولية قراراً مفاجئاً إلا أنه منسجماً مع توجهات الرئيس الأمريكي منذ حملته الانتخابية؛
- من لواحق القرار المحتملة زيادة الاعتماد على الحلفاء وآليات رقابة على الحدود السورية العراقية وتأييد دعم "حق إسرائيل" في التدخل الجوي؛
- أن التطور الأبرز والأكثر استراتيجياً سيتمثل في حال تم إلحاق هذا القرار بمؤشرات انسحاب سياسي من الملف السوري؛
- تجد "قسد" نفسها أكثر الفواعل تضرراً من الانسحاب الأمريكي بحكم الانكشاف الاستراتيجي الذي سيخلفه خروج القوات الامريكية؛
- يمكن حصر العناصر المتحكمة في الاتجاهات المتوقعة بخمسة عناصر (منبج؛ والنفط؛ وطرق المواصلات؛ قاعدة التنف؛ ضمانات إسرائيل)
- سيشكل القرار عاملاً دافعاً لتنافسية القوى الفاعلة على ملء الفراغ الناجم واشتراكهم بقاسم مشترك يتمثل بتقليص مساحة فاعلية طهران.
مدخل
في شهر آذار المنصرم وخلال مهرجان حاشد بولاية أوهايو الأمريكية، أعلن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "دونالد ترامب" عن قرب سحب القوات الأمريكية من سورية، في وقت كانت سياسات وتصريحات وزير الدفاع (المستقيل) جيمس ماتيس والمسؤولين في وزارة الخارجية تدلل على خلاف هذا الإعلان، ليستمر بعدها حالة اللاوضوح والاضطراب بين الإدارات الأمريكية في هذا الخصوص؛ ليعود ترامب مرة أخرى ويعلن في 20/12/2018 قرار انسحابه من سورية بعد ما وصفه "بإتمام النصر على داعش"؛ وهو ما دفع باستقالة كلاً من وزير الدفاع جيمس ماتيس والمبعوث الخاص الأمريكي للتحالف الدولي ضد "داعش" بريت ماكغورك، الأمر الذي لم يثني البيت الأبيض عن التأكيد بأن الرئيس الأمريكي لن يغير قراره رغم هذه الاستقالات.
يعد هذا الإعلان نقطة تحول نوعية في سياق المشهد السوري ومعادلاته العسكرية والسياسية؛ وستشكل تداعياته المحتملة والمفتوحة رسماً أولياً لطبيعة الأدوار المحلية والإقليمية والدولية وحدودها؛ لذا سيحاول تقدير الموقف هذا تبيان طبيعة هذا القرار ومدلولاته وآثاره المُرَجحة على المشهد السوري؛ وموضحاً بشكل أولي الاتجاهات المحتملة لتطور الاحداث في سورية على المدى القريب.
حول القرار وملحقاته المحتملة
يبدو القرار في حيثياته الأولية قراراً مفاجئاً للحلفاء واشنطن قبل غيرهم، ويحمل استعجالاً أمريكياً بالانسحاب العسكري غير المدروس من الملف السوري؛ إلا أنه وبالوقوف على طبيعة القرار الأمريكي في ظل إدارة ترامب؛ وبفهم حدود وجدوى إصرار المؤسسات الأمريكية على عدم التناغم مع "ترامب"؛ نجده قراراً متوقعاً منسجماً مع توجهات الرئيس الأمريكي منذ حملته الانتخابية التي أكد خلالها على "كوارث أوباما كلينتون" وضرورة الاتجاه نحو "سياسة الانطواء" على الداخل والانسحاب من التدخلات الخارجية التي ترهق الاقتصاد الأمريكي.
ففي حين حددت سياسات ترامب ( عبر جيمس جيفري) مجالات اهتماماتها في الملف السوري (إذا استثنينا الثابت الرئيسي وهو أمن إسرائيل) بثلاث ركائز متمثلة بإنهاء داعش، ومحاصرة طهران، وتعزيز أدوار الأمم المتحدة في العملية السياسية؛ نجد أن أدوات هذه السياسة متباينة؛ ففي الركيزة الأولى كانت الأداة العسكرية عابرة "للصراع السوري" ومتسقة كلياً مع هدف ضرب التنظيم وتجفيف منابعه، بينما لاتزال الركيزة الثانية تستند على عدم المواجهة المباشرة مع طهران في سورية أو عدم توفير البيئات الملائمة لاستهداف القوات الأمريكية من قبل مجموعات ايران، والاعتماد كلياً على أداة العقوبات وجعلها غير مسبوقة؛ واكتفت الركيزة الثالثة من جهة أولى على مبدأ "العرقلة" وتزمين التورط الروسي في سورية عبر التأكيد على أدوار الأمم المتحدة في العملية السياسية، ومن جهة ثانية: ربط عملية إعادة إعمار بإتمام العملية السياسية؛ وبالجهتين تعد تلك الأدوات "بالاعتقاد الأمريكي" أدوات تمنع الانزلاق وتحمي المصالح؛
وبمعزل عن مدى تحقيق نتائج مملوسة من تلك الركائز؛ نجد أن اللواحق المحتملة لهذا القرار وبما ينسجم مع هذه الركائز تتمثل في ثلاثة قضايا رئيسية:
- المزيد من تعريف الانسحاب العسكري من سورية، بحيث يتضمن تقليص الوجود الأمريكي، وزيادة الاعتماد على الحلفاء وعلى رأسهم تركيا، مع احتمال بقاء رمزي لقوات جوية وبرية.
- آليات رقابة على الحدود السورية العراقية فيما يخص النشاط الإيراني؛ مع توقع ظهور حزمة عقوبات اقتصادية صارمة تجاه أدوات وأذرع طهران في سورية.
- تأييد دعم "حق إسرائيل" في التدخل الجوي في سورية لضرب تحركات وقواعد طهران وحزب الله التي من شانها التأثير على أمنها وذلك عبر الدفع باتجاه تعزيز التعهد الروسي باستمرار فتح الأجواء السورية للطائرات الإسرائيلية.
"إعادة التموضع" كعنوان رئيسي
على الرغم من أن القراءة الأولية للقرار لا تزال محصورة في الأسئلة المباشرة له كملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي، وتبعاته على تحركات أنقرة العسكرية، ومصير قوات "قسد"، والسياسات المتوقعة من محور النظام وحلفائه؛ إلا أنه لا ينفي أن نثبت أن التطور الأبرز والأكثر استراتيجياً سيتمثل في حال تم إلحاق هذا القرار بمؤشرات انسحاب سياسي من الملف السوري؛ هذا الملف الذي لا تزال تمتلك واشنطن فيه أدوات نوعية كأوراق للضغط؛ ناهيك عن ملف إعادة الإعمار التي تشترك فيه واشنطن مع العديد من الفواعل برؤية موحدة.
وطالما أن تلك المؤشرات لم تظهر بعد، وبغض النظر عن ان القرار ارتجالي او مخطط له، فإنه سيكون تحت الاختبار وسيترتب عليه إعادة تموضع لكل القوى المنخرطة في سورية. وسيكون "مبدأ التكتيك" هو السمة الأبرز لمعظم الفواعل في المرحلة اللاحقة لهذا القرار والذي يمكن بلورة ملامحه بالآتي:
- الاستيعاب الروسي: وجدت موسكو نفسها بموقف مفاجئ من هذا القرار، فهي كانت تريده أن يكون نتيجة لمفاوضات مع الجانب الأمريكي يمكنها من نيل مكاسب سياسية في ساحات متعددة، لكنه أتى دون أي صفقة كما ترغبها موسكو، بل سيزيد هذا الانسحاب أعباء روسيا إذ سيكون لزاماً عليها التعامل مع التمدد الإيراني ومحاولة احتوائه بحكم الضرورات التي تمليها الترتيبات الناشئة، كما أنه سيجعل تحديات ثلاثي الأستانة عابرة للموجبات الأمنية.
- نحو ملء الفراغ الجميع سر؛ من جهة أولى تجد أنقرة (التي تعززت في الآونة الأخيرة شروط التقارب مع واشنطن) الفرصة مواتية لإنهاء مهدداتها الأمنية، إلا أن القرار الذي يدلل وفق تصريحات ترامب على تنامي أدوار تركية في ضرب بقايا داعش يتطلب من أنقرة سلسلة من التفاهمات والاتفاقات مع الولايات المتحدة الامريكية فيما يتعلق بعمليات منبج وشرق النهر.
ومن جهة ثانية، ومن مبدأ تعزيز شروط التفاوض بدأ النظام وروسيا بإجراء ترتيبات استعداداً لملأ الفراغ لا سيما في المدن والموارد الطبيعية، منها عقد اجتماعات مع قيادات قسد في القامشلي وعين عيسى تم خلالها بحث تسليم آبار النفط والغاز إلى النظام مقابل إرساله قوات لحماية منبج؛ ناهيك عن تحريك قوات النمر إلى مناطق تماس النظام مع قسد، وذلك يدل على نية روسية بعبور الفرات وتسلم مناطق من قسد.
- "المرونة ثم المرونة" كخيار اضطراري لـ"قسد"؛ تجد قسد نفسها أكثر الفواعل تضرراً من الانسحاب الأمريكي بحكم الانكشاف الاستراتيجي الذي سيخلفه خروج القوات الامريكية؛ مما سيجعلها "منفتحة على كل المفاوضات المحتملة سواء مع النظام والروس أو مع المعارضة وتركيا، وذلك ريثما يتضح التجلي العملي للقرار؛ وهذا لا ينفي أنها ستقوم بإعادة تموضع عسكري وإداري تقلل من خسائرها المحتملة.
- "تقويض طهران" كقاسم مشترك جديد: سيكون لهذا التكتيك دور "ناجع" في اختبار مدى اتساق القرار مع الركائز الاستراتيجية لتعاطي الولايات المتحدة الامريكية في المنطقة؛ وبالتالي قد يشكل ذلك قاسماً مشتركاً لكل الفواعل ومدخلاً مهماً في ملء الفراغ؛ إلا أنه لا يغفل حقيقة عدم إدراك واشنطن للتموضع الإيراني النوعي في بنية النظام وشبكاته الأمنية والسياسية والاقتصادية وخبرتها في ملء الفراغ سواء عبر تحالفاتها مع مجموعات محلية أو من خلال تعميق مجالات التأثير على نظام الأسد أو من خلال استثمار انتشارها على طرق الإمداد والمواصلات والبادية ناهيك عن قواعدها وثكناتها المنتشرة في معظم المحافظات والتي تقدر بـ (13) قاعدة وثكنة.
- ورقة داعش مجدداً: من أبرز انتقادات القرار هو التشكيك في النصر الأمريكي؛ إذ قد تنشط خلايا داعش وتزداد عملياتها في المرحلة القادة؛ وهو أمر إن لم يكن له دوافع خاصة بالتنظيم؛ فإنه سيعمل عليه ويتم الدفع به من قبل طهران والنظام ليكون "مبرراً" لملء الفراغ إضافة لكونه رابطٌ مهم يمكن استغلاله للتنسيق مع القوى الأوروبية.
الترتيبات المؤقتة كاتجاه عام
يمكن حصر العناصر الرئيسية المتحكمة في الاتجاهات العامة المتوقعة في المشهد السوري بعد القرار بخمسة عناصر (منبج؛ والنفط؛ وطرق المواصلات؛ قاعدة التنف؛ ضمانات إسرائيل)؛ لذلك فإن اتجاهات المشهد العام في المرحلة المقبلة يمكن رسم خطوطها الأولية (المبينة بالخريطة رقم 1) وفق الآتي:
الخط الأول: أنقرة في مواجهة "قسد"؛ إذ يتوقع أن تبدأ تركيا تلك المواجهة في منبج التي شهدت اتفاقاً (تركياً أمريكياً) لم ينفذ وتشهد حالياً تحشيداً لقوات النظام (قد يكون للضغط والدخول في مارثون المفاوضات المتعلقة بملء الفراغ)، مما يرجح انتقال ملف منبج إلى مسار الأستانة؛ بعد ذلك ستنتقل تركيا لحصر اهتماماتها إلى الشريط الحدودي وسبل تأمينه الأمر الذي قد يستلزم الدخول في تل أبيض، ولا تمنع تلك المواجهة من التعاطي الإيجابي التركي مع خط مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع قسد وستبقى تلك المفاوضات إن حصلت ضمن أطر ثلاثة: إبعاد مقاتلي pkk؛ تعزيز الأدوار العربية ضمن هيكيلة ومراكز القوى في قسد؛ انتفاء الدور الأمني والعسكري لقسد لا سيما على الحدود؛ مناقشة الأدوار المدنية والتنموية ضمن مبدأ توزيع الأدوار وعدم احتكارها.
الخط الثاني: طموحات عودة "سيطرة النظام" الرمزية؛ فريثما تتضح مدلولات القرار وتعريفه التنفيذي للانسحاب ستسعى روسيا والنظام للسيطرة على موارد الطاقة ومراكز المدن في شرق الفرات، وبخاصة مدينة الرقة والطبقة والحسكة المدينة ومدينة القامشلي، وستطرح موسكو على قسد خيارات شبيهة بنهج المصالحات التي تم اتباعه في الغوطة الشرقية ودرعا مع توقع مناقشة المستقبل السياسي والإداري لقسد ضمن ترتيبات "اللجنة الدستورية".
الخط الثالث: مفاوضات جديدة حول اتفاق المنطقة العازلة في ادلب: بالوقت الذي تشير به معطيات أدوار أمنية جديدة لمحور الأستانة بحكم ما سيفرضه القرار من ترتيبات نوعية محتملة؛ فإن خطوط الفصل ستبدو أكثر وضوحاً في حال تم إلحاق الانسحاب العسكري بمؤشرات الانسحاب السياسي؛ إذ ستخسر أنقرة الظهير الأمريكي باعتباره الثقل الأهم في توازناتها التحالفية مع دول الأستانة؛ وهذا ما من شأنه إعادة نقاش ملف إدلب باعتبارها جزءاً رئيسياً من ترتيبات المشهد العام وفق الطموح الروسي؛ إلا أنه ووفقاً للمؤشرات السائدة فإن المرحلة القادمة ربما تشهد فقط تنفيذاً لمرحلة سيطرة النظام على طرق M4 وM5؛ لأن أسئلة إدلب المتعلقة باللاجئين ومواجهة هيئة تحرير الشام تجعل أياً حسماً هو بمثابة الانزلاق باتجاه صراعات مفتوحة تمتلك كافة الأطراف مبررات تأجيجها.
أما الخط الرابع: ترتيبات نهائية لقاعدة التنف ؛ حيث تؤكد المؤشرات الأولية ازياد تواتر الحديث عن مستقبل القاعدة الأمريكية في التنف؛ إذ تدفع واشنطن قوات المعارضة المتواجدة هناك (مغاوير الثورة وأسود الشرقية وبعض المجموعات الصغيرة) لتبني خيار الانسحاب نحو الشمال السوري؛ وبذات الوقت أنشأ الجيش الأمريكي قاعدتين عسكريتين جديدتين في محافظة الأنبار العراقية: الأولى شمالي ناحية الرمانة والثانية إلى الشرق من مدينة الرطبة غربي الرمادي، في نقطة التقاء طرق رئيسية قادمة من ثلاثة معابر حدودية؛ هي عرعر مع السعودية، وطريبيل مع الأردن، والوليد مع سورية؛ وذلك في إشارة واضحة لعدم نفاذ داعش من جهة والاستمرار في استهداف المشروع الإيراني من جهة ثانية.
يمكن القول ختاماً:
على الرغم من أن قرار الانسحاب الأمريكي من سورية سيشكل عاملاً دافعاً لتنافسية القوى الفاعلة على ملء الفراغ الناجم واشتراكهم بقاسم مشترك يتمثل بتقليص مساحة فاعلية طهران المنتشرة بشكل نوعي في بنية الدولة والنظام وشبكاته؛ إلا أن أي إعادة ترتيب للمشهد وتموضع فاعليه ستبقى ضمن الأطر المؤقتة ريثما يتضح التعريف التنفيذي لقرار الانسحاب وتلمس مدى ارتباطه بمؤشرات انسحاب سياسي لم تتبلور بعد؛